عزيزي يوسف لا أعرف تماما لماذا أكتب لك هذه الرسالة، ولا أدري لماذا اخترتك دون غيرك من بين جميع أصدقائي لأوجه لك هذا الخطاب. ولكني على يقين تام بأنك كنت تربك هواجس نفسي لا شعوريا، حين كانت تحلق أفكاري على مساحات الوحدة والانطواء، التي لفعتني بظلالها القاتمة وأنا أنتظر دخول غرفة العمليات، ليتمدد جسدي فوق سرير السلخ، وتحت كشاف حاد النظرات، وقح العينين. لا بد وانك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة العمليات. إلا أنني هذه المرة عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد الرعب من إجراء مثل هذه العملية. ولا اعلم حتى الآن سبب هذا الرعب. إلا أن فكرة الموت سيطرت على عقلي سيطرة كاملة، حتى وصلت إلى درجة الإيمان العميق بأن يوم وفاتي متعلق تماما بيوم دخولي غرفة الجراحة. وبدأت هذه الفكرة تتسلط على نفسي وتتناوشها من شتى الجهات، حتى اعتصرت حمرة أناملي وتورد وجنتاي. وقذفتني بكل سوداويتها إلى إحساس مجهول أمام تصور الموت، ومفارقة الحياة. الحياة الزاخرة بتدفق الروح والنشاط في كل شيء. الجبال، الوديان، الأشجار، الحيوانات، الامتدادات الهائلة للفضاء الرحب، فبدت الدنيا عزيزة، عزيزة إلى حد الجنون. وأصبح مذاقها في ظل شبح الموت المسيطر على عقلي نابضا بعمق حيوي نشيط، لا يفتأ يحمل في جنباته صورا رائعة مضيئة لكل شيء. حتى المآسي ظهرت أمامي وهي ترتدي زخرفا من ضياء خلاق، يخلب العقول، وينير ظلمات المجهول، ألموت، ما أقسى هذه الكلمة حين تستحيل في عقلك إلى كائن حي يمسك بتلابيب دماغك ليجرك نحوه بكل ما يملك من عناد وتصخر نحو هاويته العاجة بسواد ممعن في عمق لا نهائي. فتقفز في عقلك التساؤلات مثل مخالب فولاذية تدميه بإنغراساتها الحادة:- كيف أفارق هذه الدنيا؟ هل أترك كل شيء ورائي هكذا؟ أأترك هذه الجبال وتلك السهول؟ وكيف أخلف خلفي تزاحم الأقدام في الشوارع؟ وأصوات الباعة وطعم البرتقال؟ ولذة التدخين؟ كيف لا أفيق مبكرا على هدير الحياة ولا أهجع مع هجوع الليل؟. أمي، أبي، أخواتي، زوجتي، أبنائي، زملائي، أصدقائي، كيف أفارق هؤلاء جميعا، هكذا ببساطه، وبلا أي معنى واضح في عقلي عنهم. فالسنين التي عشتها معهم لم تكن كافيه بكل ما في ثوانيها من زخم لأن أكون معنى واضحا عن أي فرد فيهم. إنني الآن في ظل لحظة هبوط شبح الموت على نفسي، أنظر إليهم بصورة مختلفة عن نظرتي السابقة. الآن، أجلوهم بكل طاقة عقلي ونفسي معا فأشعر بوهن عارم يظلل صورهم وحركاتهم، وأحس أثناء محاولة استعادة صورهم بضعف شديد قاتل. وأغرق في بحر مشاعري المستفزة القلقة، مثل غريق يقاوم حواما لا أمل للنجاة منه، لكنه يضرب، بيديه وقدميه، بكل ذرة من ذرات جسده، بعنف، بقلق مضطرب معذب، لكن الحوام يشده للأسفل وفي عينيه تتبدى نظرات هائلة، مروعه، حيرى، نحو الشاطىء، نحو الرمل، نحو الحياة. أماني، أمالي، طموحاتي، مشاريع حياتي، خطط المستقبل، كيف تنتهي دون أن أكمل شوطي فيها. الموت، الموت سيبترها، يتركها ناقصة شوهاء، تسير على قدمين ولكن دون جذع، دون رأس. مشاعري، نار عملاقه مستعرة، وأحاسيسي دخان اسود كثيف، فتلك تكويني، وهذه تعوم في صدري وعقلي، ولا أستطيع بين الاثنتين إلا الهروب من ذاتي إلى ممرض أرجوه وأتوسل إليه أن يمنحني شيئا يدفعني لقبو النوم المعتم، الذي لا حياة فيه للعقل، ولا رؤى للمشاعر، وأسلم نفسي كارها لسرير وغطاء هما في مثل هذه اللحظات، أوفى وأعز الأصدقاء. وأفيق مشدوها، تلاحقني كوابيس متداخلة، غير منتظمة، ألوان كثيرة حادة فاقعة تتداخل ببعضها وتتشابك ثم تنعقد، عقدا شيطانية متنافرة لا تظهر بدايتها ولا نهايتها، فأحس رأسي ثقيلا، تنوء كتفاي بحمله، وصدري تعوم فيه اختلاطات عشوائية وأمتليء رعبا خانقا فوارا من جديد، فأفر من بين خيوط وحدتي لأنزلق بين جماعات المرضى الضاحكين، والذين لا معرفه لي بهم ولا صلة، أجلس بينهم أستل من صدري ابتسامة ضبابية لأعلقها على قسمات وجهي وفوق شفتي. ومن بين هذه الجماعات كنت أنحدر نحو السلوى ببطء شديد وأغرق معهم في عوالم متنوعة مختلفة، كل عالم لا صلة له بالعالم الذي قبله، وكل ضحكه ترن وتدوي في أرجاء الصالة لا داعي لها، ومع ذلك أغرق في عوالمهم المفتوحة، وتدوي ضحكاتي في مساحات الجدران وإشعاعات المصابيح المتدلية من السقف، وتغرق عيناي بدموع قهقهات عالية ينحني جذعي معها مرات متلاحقة وسريعة كحرذون يؤدي صلاته وقت الظهيرة. وحين كان يقذف الليل سدف ظلمته على الكون، كنت أنسل من فراشي للاستراحة، أتأمل الأفق وهو يتبقع بدماء الشمس، بقعا فاترة الحمرة هنا وهناك، ثم تندمج هذه البقع مرة واحده لتطلي الأفق على امتداده بحمرة قانية نزفتها الشمس قبل دخولها بأعماق الأفق البعيد عن العين أو قبل غطوسها بأعماق البحر لتغتسل من أعباء نهار مضن وشاق. كنت إذ ذاك أشعل سيجارة من أخرى، ليس حبا في التدخين، إنما بحركة أليه اعتيادية، وما أن تتلفع الأرض بتلك السدف تلفعا تاما، حتى تجدني جالسا كتمثال شمعي غارقا ببحر أفكار صاخبة عاتية الموج. وذات ليله، وفيما أنا غارق في أفكاري، أحسست حركة بجانبي، وحين رفعت رأسي وجدتها جالسة بمحاذاتي تماما، يداها منتصبتان على رجليها، وجهها متكيء على كفيها المفتوحتين لاحتضان الوجه من الذقن وحتى الأذنين. ذهبية الشعر، وجهها أقرب إلى لون سنابل القمح، يتوسطه أنف صغير مستدق الرأس، وفم حين يفتح تظنه ما زال مغلقا، وعينان حائرتان ينبعث منهما بريق متألق، لكن سرعان ما ينكسر فور خروجه منها. تطلعت إليها دون مبالاة، وبحركة لا شعورية، وكأنني انظر ببلاهة في الفراغ، إلا أنني أمام إصرار نظراتها وعمقها أحسست برعدة تسري في جسدي كرعدة برد مفاجئة أمام شمس متألقة، حدقت بعينيها، فأيقنت عندها بأنها تضرب أعماقي، تسبرها، تغوص فيها منقبة، إلا أنها أمام امتداد نصل نظراتي وبريقه اضطرت للتراجع، وكان تراجعها ثقيلا، يزحف في عينيها زحفا حلزونيا، وأضحت لفترة غير بسيطة، كأنها تنسحب من عالم إلى عالم، الأمر الذي حيرني ودفعني للتساؤل: أن كانت تحس بوجودي بمحاذاتها أم لا؟ ولم تلبث أن أطلقت تنهيدة حادة ارتفع على أثرها صدرها وهبط بقوة، فأحسست تلك التنهيدة تغوص في صدري مثل دبوس يخترق اللحم بقوة خاطفة وسريعة. مددت يدي بحركة تلقائية نحو كوب الشاي الفارغ، في محاولة صبيانية للهرب من الموقف، لكنها تنبهت لحركتي بسرعة، فانتصبت لتأخذ الكأس من يدي وتغادر الغرفة دون أن تنبس بحرف واحد. وما هي إلا لحظات حتى عادت وكوب الشاي بيدها مملوء حتى شفته العليا، وضعته على الطاولة وعادت لجلستها من جديد دون أن تنبس بكلمة واحدة مرة أخرى، وكان علي، من باب الأدب، الأدب فقط، أن أشكرها، ولكن بحذر شديد لا يفتح لها مجالا لدخول عالمي بأي ثمن مهما بهظ، لأني لا أريد أن أضع على كاهلي عبئا جديدا، يكفيني إحساسي المتلاحق بقبضات الموت في عقلي. -أشكرك على الشاي. حدقت في من جديد، كانت عيناها تطفحان بالرعب، بالمجهول، وفوق جفونها ظلال زرقاء مشربة بصفرة باهتة، يبدو الألم والحزن عليها واضحا بكل عمق وقوة. وحبات من دموع تقف على الجفن، مثل زجاج شفاف مصقول، إلا أنه مشعور من الجهة اليمنى ومخدوش في الوسط، غامت الدنيا بعينيها، ولم تغب قليلا حتى أنهلت مطرا شديدا وحارقا، إلا أنه صامت. صمت المقابر وسط الليل، وانساحت الدموع على خديها غزيرة فياضة، كجدول فضي على أديم من ذهب خالص. نفرت أعصابي بقوة، أطلت برأسها من هجعة سلوى قصيرة، كالأفعى حين تطل برأسها من جحرها، حذرة متوترة، لكنها دائبة الاهتزاز. أردت أن أبكي، أصرخ، أحطم زجاج النوافذ بيدي، أضمها لصدري، أحفر فيه ملجأ أخبئها فيه، أرفسها برجلي، أركلها خارج الاستراحة، أقذف نفسي خارج الاستراحة، أمسح دموعها، أفعل أي شيء. إلا أنني ظللت مكاني، كما أنا عاجزا، مشلولا، لا أنفع لشيء على الإطلاق. – زوجي سيموت بعد شهر. وجمدت مكاني، مثل قالب ثلج، تيبست أحشائي، واندفعت برودة عنيفة في عمودي الفقري، مثل برودة البنج في الوريد، ورقصت معدتي مكانها. الموت، الموت مرة أخرى. أنا لا أعرف كيف مرت تلك الكلمة مثل ألسهم كي تستقر في دماغي. ثم لأرى نفسي مبطوحا فوق دكة الغسل والناس تغرق فوق جلدي أباريق الماء وهم يدمدمون بحلاوة الأجاص، ونكهة التفاح، ومذاق العسل. – س… يمو… ت… بع…د…شهر. خرجت الكلمات من فمي، كل كلمة مولود، مولود له آلام مخاضه، وضعتها بعد جهد، والعرق يتفصد من جسدي كله، وشيء يهز قلبي والأعماق بوحشية قاتلة، لا رحمة فيها أبدا. – نعم هكذا أخبر الأطباء. – لكن الموت بيد الله. – أنه مصابا بالسرطان.. سرطان الدماغ. – قد يشفى. – فات الأوان. – وكيف تعرفين؟ – دعني أحدثك القصة من أولها. ودون أن تسمع إجابتي بدأت تحدث: أتته الحالة مرة واحدة. صداع دائم في الرأس وزغللة في العينين. ألم عارض، كثيرا ما يحدث مع الناس. وتركناه، لم نكن ندري آنذاك بأننا لا نتركه ليأخذ حده ومن ثم ينتهي. من أين لنا العلم بأننا كنا نحفر النهاية في لوح الأبدية بأيدينا، بضحكاتنا وسرورنا. وتركنا ذلك الورم يعشش في دماغه، يفرخ، ويبني أعشاشا لفراخه، من أين لنا أن نعلم هذا؟ وحين اشتد الألم، عرضناه على الطبيب. الطبيب زميله، فزوجي أيضا طبيب، لكنه طبيب نفسي، أخبرنا بالحقيقة. صفعنا بها صفعة مروعة. لكنه استدرك: هناك أمل، لا بد من إجراء عملية جراحيه. ولكن ليس هنا، إنما في لندن. وكان يجب أن يسافر، بأي ثمن، ومهما كانت الظروف. العملية يجب أن تجرى، بدون تأخير، وبأقصى سرعة. ويفضل السفر على بساط الريح. الوقت ثمين، الساعة، لا، بل رمشة العين، إما أن تكون حياة، أوتكون موت. من الذي سيقوم برعايتي أنا؟ لا، ليس أنا، أبنه محمد، لا، بل إبنته آية. من سيمسك بذراعها يوم زفافها؟ أي ذراع غير ذراعه ستكون ذراعا ميتة، ينخل فيها الزيف، التصنع، الرياء، العفن، من سيعود في المساء ليحملهم على ساعده، ويدور بهم أرجاء البيت وضحكتهم ترن كأجراس الملائكة في قلب النسيم والهواء. والسفر يعني ألافا مؤلفة، أكداسا مكدسه من ورق النقد، تملأ في حقائب السفر بدلا من الملابس، لا يهم، النقود يمكن أن تدبر، نبيع البيت بكل محتوياته، حتى كرسي محمد، وسرير آية، ثم نبيع ملابسنا، كل هذا لا يهم، المهم أن نسافر، أن تتم العملية بأسرع وقت ممكن. كان وجهها وهي تتحدث ينتفخ رويدا رويدا، والدم يتصاعد من كل جسدها ليستقر فيه فيبدو مثل جمرة متقدة تحت نار مستعرة، يذوب على وجنتيها الحديد، وصدرها كان يعلو ويهبط كسرير هزاز حين يضرب بقوة، فتسمع قعقعة القلب وهي تنازع العظم وتدفع الرئتين. وتجمرت عيناها، فبدت وكأنها مغطسة بدم نازف للتو، شبحية، تضيء، تتوهج وتنطفىء فتبعث في القلب رعبا مجهولا غامضا، لكنه رعب ينقر القلب من سويدائه، فيجيء إثر نقرته غثيان، زوفان في المعده. فترتج الأحشاء. أصابعها كانت تتشنج حين تشير بها لترافق كلماتها بالحركة. وتنثني بجسدها فينتابني إحساس بأنها شلت، تليفت، ولن تعود للحركة من جديد. وجسدها، جسدها كان يرتعش، يهتز بقوة ضارية وكأنه معرى أمام عاصفة جليدية، تنخر العظم وتفتته، دون عناء، دون جهد. أما أنا فقد كنت تائها بصحراء الذهول التي لا أثر للسراب فيها. كنت أرفع نفسي عن الكرسي وأعاود الجلوس، لماذا؟ هكذا دون سبب، دون وعي، دون إرادة. أفتح فمي وأغلقه، دون سبب، دون وعي، دون إرادة أيضا. دماغي أصبح كسيحا لا يعمل. شل تماما. أما عيناي فقد كنت أحدق بهما لوجهها، ولكن دون أن أراه. كنت قد تحولت لأذنين فقط. ولو نظر الناس إلي ساعتئذ لامتلأت قلوبهم هلعا ورعبا، لقذفوا أنفسهم من زجاج النوافذ، لأنهم لن يروا سوى إنسان كله أذنين فقط. وسافرنا، بعنا ما نملك، وسافرنا، غرباء في أرض غريبة. ورأس زوجي يتضخم، يكبر، يتساقط الشعر عنه، وأضحى غريبا عن جسد صاحبه، وعني. ودخل معنا أرض الغربة وفي جوفه مخلوق صغير صغير لا تراه العين، أدق من رأس الإبرة بملايين ملايين المرات، لكنه قلب حياتنا وبدل أوضاعنا، غير أجسادنا، نقل القلب مكان العين، وزرع العين مكان القلب، فأضحت وجوهنا خافقة وأعماقنا باكيه. وتمت الفحوصات الأولية. والنتائج، آه ما أقساها. أنه هو، هو، دون شك، ذلك الكائن الغريب يتوسط الدماغ، ينمو، وينمو، حتى أصبح بحجم البيضة، والعملية لا بد من إجرائها، وحدد الموعد بعد ثلاثة أيام من وصولنا. والمستشفى كبير، كبير، متطاول في الأفق، يرنو للسماء، ومظهره جميل، متناسق، يشيع البهجة في النفس. لكنه كأي شيء غيره، لا تراه على حقيقته إلا إذا ولجت بكيانك إلى داخله. قلت أنه جميل، يشيع البهجة بالنفس، لكن من الخارج فقط. أما حين تلج بقدماك بابه، فأنه يصبح مدهشا للعقول. هو مخزن آلام البشر وصندوق عذاباتهم وتنهداتهم. فيه تصبح الدموع كاوية، تنزل على الوجنات فتذيبها كحامض مركز. وفيه ترحل كل يوم أرواح عن أجسادها، رحلة طويلة، طويلة مجهولة لا معالم لها ولا حدود. ومن خلف الأرواح تلك، تنخلع قلوب من صدورها لتسكن عمق الألم وقلب العذاب. ومرت الأيام الثلاثة، استغرقت مسيرتها ثلاثون دهرا. وأتو إليه، يحملون مريولا أبيض مفتوحا من الخلف، يتدلى من جانبيه حزام من نفس اللون، وزرقوا الإبرة في العضل بعدما ألبسوه المريول وساقوه أمامهم وهو مستلق على السرير. وسرت معهم حتى باب غرفة العمليات. وهناك كانت اليافطة تجحظ بعينيها (ممنوع الدخول). فتسمرت كعمود ثلج في جبل جليدي. وغزتني الغربة من جديد، اقتحمت قلبي كزلزال مروع، وأحسست صورهم أمامي “محمد وآيه” وهم يدورون بين الأشجار كأغصان نضرة، يلهون، يمرحون، ينطنطون مثل فراشات حمراء مزخرفة بألوان زاهية. وبكيت، وبكى. كنت ظمأى لصدر حنون، أرمي رأسي عليه، أمسح دموعي بجلده. لصدر أمي، أبي، أختي، أخي، أو حتى صدر محمد أو آيه الصغيرين اللذين لا يتحمل صدريهما حر أي دمعة.أو أي صدر عربي، يشعر جلده بحرارة دموعي، ويقفز قلبه مع شهقاتي وأناتي. لكني وحيده، دموعي، شهقاتي، أناتي وأحاسيسي كلها وحيده. والدقائق ثقيلة، تزحف كسلحفاة هرمه أعياها التعب وأضناها المرض. والباب مغلق، ورأس زوجي مفتوح، ينز دما، وجسده لا يشعر، ومبضع الجراح يجول بدماغه، يبتر منه جزءا تلو جزء. وأنا أقف وحيدة، وعقرب الثواني يدق في رأسي فيدوي صوته كالرعد، وأحس بالخوف الشديد، بالفزع القاتل من مبضع الجراح أن يصل الجزء ألذي فيه محمد وآيه، أو الجزء ألذي أنا فيه فيبتره. صارعت الفكرة، الغربة، صوت الرعد في رأسي، صورة محمد، طيف آيه، ولكني إنسانة، فسقطت. وكان أخر ما سمعت صوت رأسي وهو يصطدم برخام الأرض. وأفقت، لا أدري كيف؟ كنت مسجاة على سرير بجانب سريره. وكان سريره لا يزال فارغا. نهضت، لا، حاولت النهوض. لكن جسمي كان ثقيلا، ثقيلا، لأول مرة أحس بمثل هذا الثقل، فلم أستطع. أدرت وجهي للنافذة، فبدت الشوارع أمام عيني وهي تنبض بالحياة، تزخر بالناس وهي ذاهبة آتية، والسيارات، الحافلات. وهناك من خلال النافذة، رأيت رجلا يجلس بجانب امرأة يلف كتفها بذراعه وبكف يده يداعب خصلات شعرها الأمامية، وأمامهما طفل وفتاة صغيران، يدوران كفراشات حمراء مزخرفة بألوان زاهية. وحين يقفزان بحضن أبيهما، ينهض والفرحة تتشقق من وجهه نورا قدسيا. فيحمل كلا منهما على ساعد ثم يبدأ بالدوران وضحكتهم ترن في أذنيً رغم البعد ورغم الحاجز الزجاجي، مثل أجراس الملائكة. فتحجرت الدموع بعيني. زوجي لا يزال هناك، ومبضع الجراح لا يزال يتجول بتمهل في دماغه. يبتر جزءا من هنا وجزءا من هناك، والناس خلف النافذة تلهو، تضحك، ولا أحد منهم يعلم بأن زوجي مسجى على سرير قد لا ينهض عنه أبدا. وليس فيهم من يستطيع أن يحس بالنار المتقدة بأعماقي، بكياني كله. وأنا لا أزال أبحث عن صدر حنون. صدر عربي، أرمي رأسي عليه وأغسل دموعي بجلده، ولكن دون جدوى. ورأسي يثقل، فأدخل النوم دون حاجة إليه، دون إحساس به. وأخرجوه أخيرا، ملفوف الرأس، لا يبدو منه غير عينيه، جثة هامدة، لكنها تتنفس. سجوه على سريره وذهبوا. تركوني معه ذاهلة، مقصوفة الإحساس، حائرة المشاعر. تنساب الدموع، لكنها لا تخرج. تبقى في العينين تكويهما بلظاها. أقف لا أدري ماذا أفعل، أبكي، أضحك، أصرخ، أضرب رأسي بالحائط، أحتضنه، ولا أفعل شيئا. أظل واقفة والصدر الحنون لا يزال حلمي الوحيد في تلك اللحظات. ومضت الأيام، كلما ذهب يوم ظهر جسده أفضل من سابقه. وبدأ رأسه يعود لحجمه الطبيعي ببطء. بشائر خير، روح تعود للجسد. ذلك الكائن الغريب يتضاءل أثره، فنشعر بالنشوة، بالفرح. وتراخى شعور الغربة، تضاءل حتى لم أعد أحسه. دفنت رأسي بصدره وأجهشت بالبكاء والقهقهة في آن واحد، وغسلت دموعي بجلد صدره. وضممت رأسه بين كفي برفق ولطف، وهمست بدماغه بصوت ناعم خفيف “محمد، آية”. فانتعش الدماغ وتوردت الحياة فيه، وتوهجت بسراديبه أنوار الذكرى، وتمدد بسرعة حذرة ليسد الفراغ الذي تركه مبضع الجراح. ربت على كتفيه، هدهدت جفونه بأناملي، فاستولى عليهما النعاس، وتكثف لحظة وراء لحظة كغمامة نقية، حبلى بالغيث. ثم سقط النوم عليه صافيا مثل دموع السماء. فتألق بريق وجهه ونما حتى أكتسى به الجسد كله. تركته وخرجت. الجذل يسير معي، والبهجة تطفح في نفسي حتى أصبحت خفيفة خفة ريشة دوري يتوسط أشجار الربيع وزهوره. وصعدت دون قصد للطابق العلوي، فأدهشتني المفاجأة. صدقني، فرق هائل واضح بين هذا الطابق والطابق الذي نحن فيه. طابقنا فخم رائع، لكن هذا الطابق يعج بالفخامة، ويفيض روعة. فالسجاد المفروش على أرضه، بلونه العنابي الزاهي، الذي يخلب العقل سميك جدا. تغوص فيه القدم حتى الجوزتين، فتشعر نعومته العذبة تدغدغ أقدامك بملمسها الحنون. وجدرانه مطلية بلون أبيض حليبي ناصع، شديدة النظافة، يتوسطها لوحات فنية زيتية لفنانين متعددين، لكنها متوحدة المضمون. تعج بالحياة وتزخر بالملائكة والجنة. لكنها آية في الروعة. دفقة إنسانية أمام إغراء الحياة وسعادة الآخرة. مضمون متوحد، لكنه متنافر، الحياة، الموت. أو بمعنى آخر، الدنيا، الآخرة. وفي الصالات توزعت الأرائك والطاولات الفخمة بأسلوب رفيع ينم عن ذوق عالي الحساسية، والأسرة الخضراء الناعمة الملس كريش النعام، كانت عريضة بحواف مستديرة، فيبدو النائم عليها وكأنه يغوص ببساط ربيعي شديد الكثافة. وفي كل غرفه خزانة محفور خشبها بتشكيلات هندسية غاية في التعقيد، لكنها غاية في الجمال أيضا. وعلى كل هذا الجلال، كانت تنسحب أصداء موسيقية عذبة، هادئة، تسري بالأوردة والأعصاب، وتدخل مسارب الروح، فتحلق بها نحو أعالي الطمأنينة والوقار. وفي هذا الطابق كان الأمر الملفت للنظر، أن المريض ما عليه سوى التمني، وما على المستشفى إلا أن يلبي، وحين سألت إحدى الممرضات عن هذا الطابق، أجابت انه مخصص لمن ينتظرون اجلهم بعد وقت قصير. وبدأت بالتردد اليومي على ذلك الطابق. فاكتشفت معنى التناقض، عرفته عن قرب، كان واضحا جليا في الوجوه التي تنتظر نهايتها، وهي تدرك انه لم يتبق لها على هذه الأرض سوى أيام أو شهور. وبعدها تذهب للأرض، للدود، للتحلل، فتبدو ساهمة حزينة. وبعد لحظات تضج في ملامحها القهقهة العالية النابعة من القلب، وبعد لحظات تنهال الدموع غزيرة مع أنات تملؤها الحسرة، وعيون تتشبث بالدنيا. وما هي إلا دقائق حتى يدخل أولئك الذين كانت الدموع تملؤ عيونهم في حديث ساخن عن المستقبل وضرورة تغييره نحو الأفضل، ومحاولة التكيف مع ما يحمل من صعوبات وعقبات. وكنت أتساءل بيني وبين نفسي: أي مشاعر يحياها هؤلاء؟ وكيف يغيب الموت عن عيونهم ولو للحظة، ما داموا يجلسون هنا فقط من اجل انتظاره؟ وما الفائدة من الكتاب الذي يحمله بعضهم في يديه، يتأمل كلماته، وكيف يستعذب هذه الكلمات وعضة الموت في حلقه؟ وظللت على حالي هذا حتى أعلن المشفى ذات يوم أننا قادرون على العودة إلى بلادنا، ولكن بجب أن تؤخذ صورة طبقية للدماغ بعد ثلاثة أشهر، من أجل الاطمئنان فقط، وموافاة المشفى بالنتيجة مباشرة. ولم يمض على القرار يومان حتى وجدنا أنفسنا على مقعدين في الطائرة المغادرة لندن إلى عمان. قضينا الأشهر الثلاثة سعادة، نهلنا من الحياة، وشربنا من كأسها حتى الثمالة. وجاء اليوم الأخير من الشهر الثالث، فكانت الصورة الطبقية تقول: أن ورما جديدا بحجم البيضة قد تشكل مرة أخرى بالدماغ. وجاء صوت الطبيب: يجب السفر إلى لندن بأقصى سرعة ممكنه، وعلى بساط الريح أن أمكن. قالها وسكت. انصرف لمريض اخر. وانصرفنا نحن نبحث عن شيء يمكن أن يكون قد تبقى لنبيعه، ولكن لم يتبق سوى أحدهم يمكن أن يباع “محمد أوآية”. عرضناهم، لكن أحدا لم يتقدم لشرائهم أبدا. وتدبر الأهل أمر المال. وسافرنا لنعود بعد أسبوع بجملة واحدة:( لا أمل في شفائه، ليكن الله بعونكم ). عزيزي يوسف:- كل ما كتبته أنفا كان نقلا، لم أشاهد أي شيء منه على الإطلاق، ولكني نقلته لك بأمانة الحرف والكلمة، لم أزد عليه شيئا ولم أنقص منه شيئا. لكني اليوم رأيته، نعم رأيته، كان رأسه متضخما بشكل ملفت للنظر، ووجهه كان متورما تورما قبيحا يبعث القشعريرة في البدن، ذو بطن منتفخ كطبل فارغ مبعوج من الوسط، متهدل الأطراف، وشعر رأسه متساقط تساقطا متفرقا، بقع صلع متفرقة بين بقع شعر متبقية. لا يستطيع الوقوف على قدميه، لذا فزوجته تجره في جولات متفرقة أثناء النهار على كرسي متحرك. لا يتكلم، وإن حاول ذلك فإنه بعد جهاد عنيف يصدر صرصرة منفرة غير مفهومه. وكل ما فيه، إن كان لنا أن نقسم الإنسان إلى أجزاء، عينان تدوران في المحاجر، يرى من خلالهما الناس والحياة، ولكن تتوسط هذه الرؤية صورة الموت وهو يطوي مسافات السماء والفضاء قادما إليه. كان ابنه محمد يتسلق الكرسي ليجلس بحضنه، فيطوقه والده بذراعيه تطويقة غير مكتملة لعجز جزئي في يديه على ما يبدو. وحين كان يدخل الغيبوبة، كان أهله يقفون فوق رأسه، ينظرون إليه والدموع تتفجر تفجرا من عيونهم، كنت أسمع صداها كصاروخ متفجر. ورحمة ألله فوق كل شيء، أنه لم ير هذه الدموع وهي تتفجر هكذا. رحمة ألله أنه لم يكن يخرج من غيبوبته وهم على مثل هذا الأمر. كان يسير نحو الموت بخطى سريعة، وكان يعرف هذا الأمر، وكذلك أهله. كانت زوجته تعاني، تتألم، لكن بصمت. لم يحدث أن خرجت عن طورها بعد أن أيقنت بمصيره، إلا تلك الليلة التي حدثتني فيها قصتها – هكذا عرفت فيما بعد – حتى حين كانت تجلس وقت الغداء تطعمه في يديها بهدوء وبطء، وفجأة، يتجشأ كل الطعام الذي أكله والشراب الذي شربه بقوة عليها، كان تجشؤه مخيفا، مقرفا، رغم شعور التعاطف ألذي يحمله له الإنسان كمريض يسير نحو الهاوية. كان يقذف الطعام من جوفه على دفعات، وبقوة داخليه، فيتناثر عليها وخاصة وجهها الذي يكون مقابلا لوجهه تماما. بهدوء غريب كانت تنهض، تبدأ بغسل وجهه وتنظيف الرذاذ الذي تساقط على صدره وقدميه، ثم تساعده بالصعود إلى السرير، ومن ثم تدخل الحمام لتنظيف نفسها وتبديل ملابسها. كان هذا حدثا يوميا، وقد يتكرر مرتين في اليوم. وحين يخيم الظلام تذهب لبيتها، فيأتي والده مكانها. يغلق الغرفة عليه وولده، ويجلس قرب رأسه يتلو آيات من القرآن الكريم بصوت منخفض غير مسموع بوضوح، ويبقى على حالته هذه إلى أن تنفرج أصابع الليل عند انبلاج الصباح. حتى المرضى النفسيين الذين كان يعالجهم هذا الطبيب وهم في نفس المشفى، كانوا يتسللون في الصباح الباكر فرادى وجماعات ليأتوا إليه، وكانت الغرفة تغص بهم وبهديرهم، ونواحهم، ومن أفواههم تتعالى الدعوات متضرعة لله أن يمُن على طبيبهم بالشفاء، كان صوت بكائهم يتناهى لمسامعنا حادا، ملوًعا، ممزقا. دموعهم يملؤها ألصدق، وتضرعاتهم محشوة بالحسرة، معبأة بالأمل، لكن الموت لا يسمع، ويسير وهو يضع في أذنيه حشوات من رصاص مذاب، كالرصاص المذاب في صدور هؤلاء المرضى الذين يتحرقون ألما على طبيبهم الذي أحبوه. وأخيرا أجريت العملية، تمددت على سرير السلخ وتحت الكشاف الوقح، وخرجت سليما معافى لا من مرضي الذي أعانيه. بل من فكرة الموت، وقضيت ساعات هائلة وأنا تحت تأثير البنج، هاجمتني كوابيس متلاحقة لفترة طويلة. كنت أغمض عيني من شدة الألم فأرى أمي، وحين افتحهما وأمد رقبتي للأمام محدقا باحثا عنها، لا أجدها. وأغمض عيني من جديد، فأرى أبي وهو يبتسم ابتسامته الحانية، وفي عينيه بريق رجاء، وحين افتحهما يطير طيفه مع ابتسامته الحانية وبريق الرجاء الذي بعينيه. واغمضهما من جديد فأرى أمامي أختي، وأخي، ابناؤهما، ولكن لا تلبث هذه الأطياف أن تطير حين افتحهما من جديد. قضيت بضعة أيام في المشفى للتأكد من عدم وجود التهاب في الجروح التي شقوها في يدي ورجلي، ثم حصلت على الإذن بالخروج. بدأت تجهيز أوراقي مباشرة ولففت متاعي، ولكني لم ألف أي هدية، لاعلبة حلوى، ولا كيس تفاح، ولا باقة ورد مكتوب عليها: ” مع تمنياتنا بالشفاء العاجل ” فقط منامتي وبعض الكتب، كانا كل ما أملك، فلا أهل لي في أرض الغربة ولا أقارب يأتوني بتلك الباقة من الورد وعليها تلك الجملة. وقبل أن أغادر ودعت المرأة الذهبية ألوجه وأنا مشفق عليها، أمتلىء حسرة على تنهداتها وتأوهاتها، ووعدتها بالاتصال بين فترة وأخرى. وخرجت، وحيدا أحمل يدي على عنقي بعلاقة خاصة، وأجر جرحا طويلا بقدمي، وليس على الباب من يقف ليقول لي ولو مجاملة محضة ” الحمد لله على سلامتك “. وبعد أسبوع اتصلت بالمشفى هاتفيا وطلبت تلك المرأة، فرد علي الصوت مستفسرا ” زوجة الدكتور مجدي؟” فأجبت : “نعم”، وجاء الصوت من جديد ” البقية في حياتك، لقد توفي الدكتور .” وأغلق الخط. وفي عيني كانت آية وهي ترتدي ثوب زفاف أبيض، وحيدة، ليس هناك من يمسك ذراعها. وفي عينًي أمها، صورة الدكتور مجدي وهو يتجشأ الدنيا تمسكا بها وخوفا من الموت. والموسيقى تصدح، واثنتان، اثنتان فقط لا تسمعانها، لا تحسان بنغماتها، “أيه وأمها “. مأمون أحمد مصطفى فلسطين- مخيم طول كرم { هذه القصة مهداة إلى السيدة لينا أبو الرب، ألتي شكلت الشخصية الرئيسة لأحداثها } الأردن – 1997