20 سنة من حكم الملك محمد السادس لا يمكن أن تختزل وصفا وشرحا وتقييما في مقال متعدد الأسطر والكلمات، خاصة وأن الأمر يتعلق أولا بدولة وهي المملكة المغربية ومالها من خصوصيات سياسية وتاريخية وثقافية ودينية… وثانيا بملك طبع مرحلة حكمه بالعديد من المميزات النابعة من شخصيته وتكوينه ورؤيته، وثالثا بنظام سياسي فريد من حيث بنيته وشرعيته وأدوات حكمه، غير أن ذلك لا يمنع من محاولة تلمس بعضا من ملامح التحول التي طالت النشاط الداخلي والخارجي للدولة بشكل عام. والأكيد أن مقاربات التقييم، وزوايا التحليل تختلف من كاتب لآخر بحسب الاهتمامات والتخصصات، كما أن مستويات الاندماج في المؤسسات الرسمية، ودرجات القرب أو البعد من دوائر صنع القرار قد تمثل عاملا محددا في فهم تحولات سلوك الدولة المغربية خلال العقدين الأخيرين، لذلك كان من الطبيعي أن ينصب اهتمام المتتبعين على حديث مستشاري الملك، عمر عزيمان وعبد اللطيف المنوني إلى وكالة فرانس بريس حول 20 سنة من حكم الملك محمد السادس، باعتبار هذه “الخرجة” تشكل قراءة رسمية لهذه الحقبة سواء من حيث الأولويات أو المنجزات أو النواقص أو الرؤية المستقبلية. يحيل تاريخ الدولة المغربية عبر العصور، أن الهاجس الأكبر لحكامها وسلاطينها ارتبط أساسا بالحفاظ على الدولة المركزية وتقوية “شوكتها”، ناهيك على أن نشأة الدولة المغربية بحسب الدكتور محمد شقير ارتبط بتبلور السلطة السياسية المنظمة، وهو رهان مشترك لمختلف السلالات والأسر التي تعاقبت على حكم المغرب. وفي هذا السياق، لم يشكل تاريخ المغرب المعاصر منذ الاستقلال إلى الآن استثناء، حيث إن الجهود التي بذلت والأوراش التي فتحت رامت تقوية نفوذ الدولة، وتدخلها المباشر وغير المباشر في مختلف مناحي الحياة حتى وإن اختلفت أدوات التدبير والتوجيه والتحكم ما بين العهود الثلاثة (محمد الخامس، الحسن الثاني، محمد السادس). تبدو المكاسب السياسية والاقتصادية والمؤسساتية والديمقراطية… التي تحققت في المغرب خلال العقدين الماضيين واضحة وجلية، بالمقابل لا يمكن إنكار الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها السياسات العمومية، وهذه المكاسب لم تكن لتحقق دون وجود بنية ومنهج للحكم، ونعتبر أن الخاصية الأساسية التي طبعت هذا المنهج هو صفة القوة الناعمة التي تتخذ من الأدوات السياسية والديمقراطية آلية لترسيخ ركائز الدولة وتدخلها ونفوذها. يمكن الحديث عن خمس قضايا كبرى ميزت العقدين الأخيرين من حكم الملك محمد السادس، والتي تجلت فيها بوضوح حرص نظام الحكم في المغرب على تقوية نفوذ الدولة وتدخلها: أولها: تقوية النواة المركزية للدولة نقصد بالنواة المركزية للدولة عنصرين رئيسيين: الأول مؤسسة الملك، فمن الواضح أن مكانة الملك في البناء المجتمعي الشامل للدولة تظل محفوفة بمستوى متقدم من القداسة الرمزية والفعلية المقبولة شعبيا، والمرسخة دستوريا. الثاني وهي الدائرة المرتبطة مباشرة بالملك ونقصد بذلك الأجهزة والمؤسسات والأشخاص الذين يشتغلون مع الملك، وهي دائرة محاطة كذلك بسرية بالغة. وهذين العنصرين يمنحان المؤسسة الملكية دلالات سياسية ورمزية بالغة التأثير. ثانيها: تدعيم القدرات الأمنية والاستخباراتية للدولة تمثل القدرات الأمنية والاستخباراتية إحدى أهم مظاهر قوة الدولة في العصر الحديث، وفي المقابل، فإن هشاشة وضعف الدولة ضمن هذا المستوى يعبر عن عجزها ومحدودية قدراتها. وبالنسبة للمغرب، فقد راكمت الدولة رصيدا معتبرا في حيازة أدوات وميكانزمات النجاعة الأمنية والاستخباراتية بشهادة مختلف الفاعلين والقوى الدولية الكبرى خاصة خلال السنوات الأخيرة. فقد خضعت هذه الأجهزة لعملية إصلاح إدارية ووظيفية وهيكلية مهمة. وبشكل عام، فإن تقوية دور هذه الأجهزة تم في سياق دولي عرف تعاظم التهديدات العبر وطنية بمختلف أشكالها، وفي سياق محلي لا يلغي الاعتبارات الداخلية المرتبطة بضرورة دعم قدرات الدولة في التعاطي مع مختلف الاحداث الطارئة (الاحتجاجات، التهديدات الإرهابية…). ثالثها: التحكم في مخرجات الربيع المغربي كان لتفاعل الملك محمد السادس السريع والإيجابي مع مطالب حركة 20 فبراير، الأثر الكبير في استيعاب تبعات الربيع العربي محليا، ويمكن القول إن الدولة تحكمت إلى حد بعيد في مخرجات الربيع المغربي وفي “جدوله” الزمني من خلال إقرار تعديل دستوري في زمن يكاد يكون قياسيا من جهة، وفتح الفضاء السياسي المغلق أمام مرحلة وصيغة جديدة من التناوب السياسي بترأس حزب العدالة والتنمية للحكومة سنة 2011 من جهة أخرى. رابعها: التحكم في مسارات الانتقال الديمقراطي والسياسي من الصعب الجزم بأن المشهد السياسي في المغرب مفتوح و”متروك” ليخضع للتحولات والمسارات الطبيعية غير المتحكم فيها وفي نتائجها وتداعياتها، والمنفلتة من رقابة السلطة المركزية. ويدل على ذلك من جهة رتابة الممارسة السياسية واستمرار ظاهرة العزوف السياسي ومحدودية تأثير الفاعلين السياسيين في توجيه السلوك المجتمعي العام، ومن جهة أخرى أن الأحزاب السياسية تعاني من اختلالات بنيوية على مستوى القرار الحزبي والفعل السياسي، وهو وضع لا يمكن إنكار دور الدولة في تكريسه من خلال أشكال عدة للتدخل والتحكم والضبط (بلقنة المشهد السياسي، الحياد السلبي للسلطة في الانتخابات، القوانين الانتخابية، التقسيم الانتخابي…) خامسها: أوراش ملكية كبرى وسياسة حكومية ارتجالية إن الملاحظة الأساسية التي يمكن تسجيلها في هذا الإطار، أن مجال التدبير والتخطيطوالإنجاز في المغرب يسير بسرعتين، الأولى مرتبطة بالمبادرات والمشاريع الملكية الكبرى المهيكلة وهي كثيرة ومتعددة (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مشاريع تهيئة الأقطاب الحضرية الكبرى، المخططات القطاعية الفلاحية والصناعية والاستثمارية وغيرها، الطاقات البديلة، القطار فائق السرعة…)، والثانية وهي المشاريع والبرامج الحكومية المثقلة بتراكمات عقود من الفشل وسوء التدبير، والذي يضمن “تفوق” الأولى على حساب الثانية هودور أجهزة الدولة المركزية التي تتعاطي بنوع من الازدواجية في هذا الإطار، ناهيك عن حصر بعض مجالات التدخل على المؤسسة الملكية. هذه المجالات الخمس وإن كانت حاولت تلمس بعضا من ملامح منهج حكم الملك محمد السادس خلال العقدين الأخيرين، فإنها بالتأكيد لم تقدم الصورة كاملة، وهي العملية التي تحتاج إلى مجهود علمي وبحثي وأكاديمي ممنهج. وقد اقتصرنا على المجالات التي بدا لنا أنها قوّت من الجهاز المركزي للدولة، ولدور المؤسسة الملكية في توجيه الفعل العام في المغرب. تبدو الدولة المغربية اليوم متحمسة في تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة وفق قاعدة “ما يمكن تفويضه” للجهات وليس وفق قاعدة “ما يجب تفويضه”، يضاف إلى ذلك استمرار “هيمنة” وصدارة السلوك المركزي على حساب دور الأجهزة التنفيذية والتشريعية والتمثيلية. ونعتقد أن الدولة المركزية لا تزال غير مستعدة للتنازل عن اختصاصاتها وأدوارها التاريخية. ٭باحث في القانون العام جامعة سيدي محمد بن عبد الله. فاس. المغرب [email protected]