تقع مدينة”دبدو” شرق المغرب على بعد 52 كلم جنوب مدينة تاوريرت،والتي تتميز بمرتفعاتها الجبلية الخلابة وبعمرانها التاريخي الذي أضفى عليها جمالا وسحرا يأسر كل زائر من أول وهلة وهو يتجول بين أسوارها ووسط أحيائها و دروبها ، ليكتشف لوحة تشكيلية بكل الألوان فيها الكثير من الجمال و الكثير من التناسق بين حضارة ضاربة في التاريخ فتحت أحضانها لكل عابر سبيل وكل مطرود وعلى رأسهم يهودا الأندلس الذين فروا من جبروت الملكة إيزابيلا، وبمجرد أن وطأت أقدامهم هذه المدينة فتنوا بها كثيرا وانسجموا فيها بسرعة ومرد ذلك هو التقارب العمراني بين الأندلس الموطن الأصل وبين الوطن الثاني دبدو، الذي سرعان ما أطلقوا على بعض أماكنه عدة مسميات ليذكرهم بحضارتهم الأندلسية..فأطلقوا بذلك تسمية “سبيلية” على المنبع المائي بدبدو نسبة إلى مقامهم الأول في “إشبيلية ” بالأندلس . وبالقرب من هذه العين تم بناء الحي اليهودي بدبدو، المعروف بالملاح، الذي لا زال يعرف إلى يومنا هذا تاريخا عريقا. وساعدهم في اندماجهم وتأقلمهم السريع ومشاركتهم في الحركة الاقتصادية للمدينة جانب إتقانهم للغة الأمازيغية والعربية العامية، إلى جانب ما حملوه معهم من الأندلس من مواد للتجارة وكذا إتقانهم لصنائع وحرف متعددة يسرت لهم الاستقرار في المنطقة والمشاركة في الحياة العامة لساكنة المنطقة ونظرا لان اليهود تميزوا بكثرة التجارة خاصة في المواد الاستهلاكية اليومية قاموا بتعلم لغة تخاطب سكان المنطقة خاصة اللهجة المغربية والأمازيغية قصد التواصل مع الساكنة واستهداف زبنائهم من المسلمين مما أدى إلى خلق لرواج اقتصادي طيلة مدة تواجدهم في المنطقة، فأصبحت بذلك مدينة دبدو أحد اكبر المراكز التجارية التاريخية الكبيرة شرق المغرب كما تشير إلى ذلك بعض التقارير الاستعمارية الفرنسية إلى أنه في بداية القرن العشرين بلغت الإيرادات السنوية لسوق دبدو أكثر من عشرة ملايين فرنك فرنسي، وهو رقم معاملاتي جد مهم إذا ما تمت مناقشته في إطار سياقه الزمني آنذاك ، فأصبحت بذلك مدينة دبدو قبلة لتوافد اليهود الذين كانوا متفرقين في عدة مدن مغربية وقرى مجاورة فكثرت أعدادهم لدرجة فاقت نسبة سكان المنطقة الأصليين من المسلمين بأضعاف وهو ما أكده المؤرخ الإسباني الشهير “لويس ديل مارمول كارباخال” في كتابه :”الوصف العام لإفريقيا”. وبعيدا عن عالم التجارة فان اليهود وخاصة النساء منهم كن يتقن “السحر والشعوذة” في منازلهن وكان اغلب زبائنهم من المغاربة خاصة النساء” الجاهلات” اللواتي يرغبن في تيسير أمور الزواج أو الانتقام من الزوج والسيطرة عليه من خلال بعض التمائم والطلاميس….التي كان بعض اليهود يتفننون فيها أمام إقبال بعض آهل المنطقة عليهم خاصة وان الثقافة الشعبية السائدة آنذاك كانت تؤمن بان اليهودي” شيطان منبوذ” يستطيع تسخير الشياطين للعمل معه، ولم تكتفي هؤلاء النسوة بل وحتى بعض الرجال من طرق أبواب السحرة والعرافين من اليهود قصد مساعدتهم في حل أمورهم العائلية – سواء عن حسن نية آو من أجل إيذايتهم- بل عمدوا إلى تعلم” حرفة الشعودة” على أيدي بعض اليهود البارعين في السحر وانتشرت هذه العادة في منطقة دبدو حتى بعد خروج اليهود منها فأصبحت حرفة متوارثة أبا عن جد عند بعض العائلات الدبدوبيات، مما جعل كثير من الشباب الذين يرغبون في الزواج من “بنات” منطقة دبدو يتوجسون خيفة من انتقامهن خاصة إذا كان الزوج خارج نفوذ “دبدوا” فسادت بذلك مقولة شعبية “بنت دبدو لا تتزوج إلا ولد دبدو” وهو مخيال شعبي ترسخ في أذهان كثير من أبناء المنطقة في ظل الغياب والتهميش الذي طال المنطقة بعدما غادرها أصحابها تاركين وراءهم جدرانًا فارغة آيلة للسقوط وآلاف من الذكريات لتعايش دامَ زهاء خمسة قرون ونيف، وهي أيام أقل ما يمكن أن يقال عنها – حسب سكان المنطقة حاليا_ أنها كانت “أيام عز” ولَّت بغير رجعة فسكنتها الوحشة لتعود لعزلتها المظلمة التي بدأت بها حياتها لأول مرة في انتظار من يعيد إليها عزها ومجدها من جديد. * كاتب باحث في حوار الحضارات و الأديان