استهلال في صورة إهداء إلى مقام الشافعي العظيم، أهدي هذه الورقة. شارك مؤخرا الأستاذ والباحث المغربي امحمد جبرون في مؤتمر علمي أكاديمي بالدوحة عاصمة قطر، ونشر على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي مقتطفا من مداخلته، نصُّه: “إن أزمة الفقه الإسلامي التي ندرك أعراضها اليوم، هي أزمة أصولية بالأساس، تتعلق بمنهج استعمال الأدلة الشرعية (الكتاب والسنّة..) في بناء الأحكام واستنباطها، الذي وضع أساسه الأول الإمام الشافعي. لقد بلغ الفقه الإسلامي مع هذا المنهج حالة من التدهور، أمسى استمراره في ممارسة دوره التشريعي في الوقت الراهن أمرا صعبا، ويتجلى بعض ذلك في التخلف القيمي والأخلاقي الذي تبدو عليه الكثير من أحكام المعاملات الإسلامية مقارنة بالقوانين الحديثة، فالكثير من التفاوتات الاجتماعية، والاختلالات السياسية التي تعيشها عدد من البلاد الإسلامية ويزكيها بعض الفقه.. لا يمكن تبريرها قيميا وأخلاقيا… إن تخليص الفقه الإسلامي من أزمته المنهجية والأخلاقية، وفسح المجال أمام ظهور نوع جديد من التشريع أكثر مرونة وقدرة على استيعاب الحياة الجديدة للمسلمين، وتجاوز الاختلالات الموروثة، يقتضي الانفصال عن “نموذج” أصول الشافعي، وبناء علم أصول جديد، يحرر المبادرة التشريعية للعقل الفقهي الإسلامي، ويجعلها أكثر تنوعا وثراءً، ويعيد للممارسة الفقهية الإسلامية أخلاقيتها الضائعة. وفي صميم هذا العمل إعادة الاعتبار المنهجي للقيم في الأصول”. أثارت حفيظتي هذه التدوينة، ورأيتها بعيدة كلية عن شرط العلمية، والصرامة الأكاديمية، لكني أحجمت عن التعليق، لأن التدوينة قد لا تفي بالمراد، في انتظار نشر ورقته كاملةً، حتى يتسنى لنا الاطلاع على حججه وبراهينه التي بنى عليها نقده القاسي للمشروع الشافعي، إضافة إلى أنه أبان عن ضيق صدر في رده على بعض المعلقين. واليوم فوجئت بنبرة حادة على صفحته، تجاه الدكتور أحمد كافي الذي نشر مقالا نقديا على تدوينته في موقع الدكتور أحمد الريسوني، وقد اتخذ النشر في هذا الموقع تكأة للغمز في قناة الريسوني الذي أباح موقعه لممارسة القذف، “الشيء الغريب في المقالة والذي أخجل من كونه في موقع رئيس هيئة اتحاد علماء المسلمين هو حجم القذف وأحكام القيمة والفضاضة التي يتضمنها المقال والتي لا تليق بمقام الريسوني، ليتك نشرت هذا الكلام في غيره من المواقع”. هكذا قال. فاستعظمت كلامه من وجهين: أولهما: كيف يستنكر على أحمد كافي استعماله لأحكام القيمة، وتدوينته كلها أحكام قيمة؟ ثانيهما: كيف أباحالريسوني لنفسه نشر القذف، مع العلم أن القاذف والناشر سواء في الجرم، ففرض علي قراءة المقال، والتنقيب عن القذف، فوجدت سرابا بقيعة يحسبه المردود عليه قذفا، وتساءلت عن سبب استعماله لكلمة القذف؟ ألا يعرف معناها؟ أم أنه في ضيق من القراءة المخالِفة؟ أم ماذا؟ وغني عن البيان أن “التنويريين” و”التجديديين” يجب أن يتسع صدرهم للمخالف، وأن يسمعوا رأيه. نعم، في المقال عبارات صريحة ومباشرة، وفي الصراحة قسوة، وقديما قيل: “استمع لمن يُغضبك، لا لمن يفرحك”. وفي هذا السياق، استعمل الأستاذ كافي في حق الأستاذ اجبرون عبارات من قبيل: “جعجعة- عارية عن أخلاق المحاكمات- الشطط- يصيح مع الصائحين- إذاية الإمام الشافعي بجهل- نفث سمومه…”، وهذه عبارات كلها قد أتفهمها وقد أتحفظ عليها، لكنها ليست قذفا ألبتة. ومما قاله أحمد كافي أن الأستاذ جبرون غير متخصص، وقد أظهر فعلا أنه غير متخصص حين أطلق على هذه العبارات وأمثالها نعت “القذف”. ويمكن أن أرى المسألة من زاوية أخرى أكثر إيجابية، وهي قوله مخاطبا الأستاذ المنتقَد: “توكل على الله في النقد بحذر شديد” وهي عبارة لم ينتبه إليها الأستاذ جبرون، ولم يدونها في غضبته المضرية، ليظهر الأستاذ كافي “قاذفا” حقيقيا، وليظهر الريسوني ناشرا للقذف، أو مشاركا في جريمة القذف. وهذا لا يعني أنني أتبنى كل ما قاله كافي، خصوصا بعض العبارات غير اللائقة مثل: “شسع نعال واحد منهم”، وهي عبارة لا تصلح لتسويد الكاغد بها، وكل الباحثين وإن اختلفوا كرامتُهم محفوظة، وهي بالمناسبة لم توجَّه إلى جبرون حتى لا يدرجنها أحد في مسمى القذف. لنعد إلى تدوينة الأستاذ، فإنها رغم قصرها واستلالها من سياقها، إلا أنه يحق لكل الناس مناقشتها ونقدها ونقضها، ما دام أن صاحبها نشرها على الملأ. تضمنت التدوينة أمورا: 1. أزمة الفقه. 2. أصل الأزمة من الأصول وليس من الفقه ذاته. 3. الشافعي وضع الأساس الأول للأصول. 4. أصول الشافعي هي سبب وصول الفقه إلى مرحلة التدهور. 5. كثير من المعاملات الإسلامية ذات تخلف قيمي وأخلاقي. 6. كثير من الاختلالات السياسية التي تعرفها بعض الدول الإسلامية يزكيها بعض الفقه. 7. ضرورة الانفصال عن نموذج أصول الشافعي وبناء أصول فقه جديد تحت عنوان “إعادة الاعتبار للقيم في الأصول”. تدوينة قصيرة ومكثفة وغنية بالإطلاقات وأحكام القيمة، لكنني للإنصاف، لا أختلف معه في جميعها، خصوصا النقطة السادسة، وهي أن بعض الاختلالات السياسية يزكيها بعض الفقه، وأجدني مضطرا لإيراد مثال لرأيه، وهو الاستبداد، حيث نجد له فقهاً وفقهاء يُنظّرون له، ويتحدثون عن شرعيته، من خلال مباحث حكم المتغلب، وطاعة ولي الأمر ولو كذا وكذا، وجزء من هذا نعاني منه في المغرب، وهو ما اصطُلح عليه في السنتين الأخيرتين بالتحكم، لكنه –للأسف- لم يتول الدفاع عنه والتنظير له الفقهاء، ولكن تولى كبر ذلك الأستاذ اجبرون عينه، وما الأمس منا ببعيد. ولمناقشة النقط أعلاه، يحسن بي أن أدقق في بعضها الآن، عسى أن نرجع إليها لاحقا إن شاء الله. دعوى أن الفقه في أزمة، هنا قد نتفق ونختلف. نتفق في وجود أزمة، ونختلف في التعميم والسوداوية. نعم، هناك أزمة يعانيها الفقه، ويجب علينا أن ننظر في أسبابها وعواملها، منها أن كثيرا من الفقهاء لهم قدرة عالية على الإبداع والتجديد، لكننا لا نجد ذلك على أرض الواقع إلا بنسبة ضئيلة، وذلك لأن كثيرا منهم يعانون من الحصار، والأستاذ جبرون يعرف أكثر من غيره القدرات الإبداعية للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، ويعرف جيدا مدى الحصار الخانق الذي كان يعاني منه شخصا وفكرا، دون أن ننسى جهود أستاذناالريسوني (ناشر القذف الموهوم)، له اجتهادات تضيق بها صدور البعض، منها قوله ببطلان إمامة المتغلب، ومنها قوله في سياق الثورات العربية: الاحتجاج على الظلم ليس فتنة، ومنها قوله بشرعية إسقاط الحاكم إن اقتضى الأمر: “إن مناهضة المفاسد والمظالم والانحرافات إذا ما استفحلت واطّردت ولم ينفع معها صلح ولا صبر، أمر لا بد منه بحسب ما يلزم في كل حالة وكل درجة، ولو تطلب ذلك إسقاط شرعية الحاكم وإعلان خلعه وتنحيته، وأن ذلك ليس من باب الفتنة، بل هو من باب دفع الفتنة وقطع دابرها”، هذه بعض اجتهادات الريسوني في مواجهة الفقه المأزوم، فهل وجدنا صداه في القنوات العمومية؟ وهل يُستضاف في القناة الثانية للتعبير عن هذه الآراء؟ أم أنه الحصار؟ إن الكلام العام سهل جدا، والكلام في التفاصيل يُثير الغضب، فهل يستطيع الأستاذ اجبرون أن يؤسس لأطروحة جديدة عنوانها: دور الاستبداد في أزمة الفقه؟ ولأزمة الفقه سبب آخر، وهو أن كثيرا من الفقهاء لا يردون يد لامس، ومستعدون لتقبيل يد المعطي كيفما كان وصفه ونعته، ومستعدون لتغيير وجهات نظرهم مائة وثمانين درجة متى ذلك اللامس. لكن في الفقه خير كثير، وليس كله في أزمة، ولله الحمد. أما إرجاع الأزمة إلى أصول الفقه، فلا أرى أن ورقته المقدَّمة في الدوحة كافية للبرهنة على الدعوى، وهي تحتاج إلى أطنان من الأدلة، ويكفي في نقضها قول المفكر والخبير الذكي منير شفيق: “لا يبالغ المرء إذا قال إن المستوى الذي وصله المنهج لدى الأئمة المجتهدين الخمسة: جعفر الصادق، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، قد بلغ حدا فريدا لا يجارى من حيث الدقة والعمق والشمول”. هذه الدقة والعمق في الأصل لا يمكن أن توصل الفرع إلى أزمة، وإنما قد يصل إلى ذلك في التنزيل والتطبيق لأسباب أخرى غير الأصول، وقد نبهنا إلى بعضها مثل الاستبداد وكثرة فقهاء “التملق والتورق” وشيوع ثقافة التقليد، أما الأصول فبريئة هي والشافعي من الأزمة، وبهذا ننقض الدعوى الرابعة. أما الدعوى الثالثة ومفادها أن الشافعي هو من وضع الأساس الأول للأصول، فدالّة بوضوح على أن أخانا الباحث بعيد كل البعد عن التخصص، لأن الشافعي لم يضع الأصول، ولم يضع أساسها الأول أو الثاني أو الأخير، وإنما دوّنها وصاغها في قوالب وقواعد فقط، كما هو الحال بالنسبة لأبي الأسود الدؤلي، فإنه لم يضع أسس النحو، بل النحو كان موجودا ومستعملا، وجاء أبو الأسود وصاغه في قواعد. والأمر ذاته قام به الشافعي. وقد يقول بأنه على دراية بالأمر، وأن عبارته لم تكن دقيقة، وهو ما قد نصدقه لو أنه لم يتفاعل في التعليق على بعض أصدقاء صفحته، حيث قال له بالحرف: “هل أصول الفقه مقدسة؟ لقد عاش المسلمون بدونها عقودا طويلة”، وهذا منه جهل أو افتراء، وأرجو ألا يغضب مني، وألا يتهمني بالقذف. نعم، إما أنه لا يدري، أو أنه يدري ويقول خلاف الواقع، والأول جهل، والثاني افتراء. ويحق لنا أن نتساءل: متى عاش المسلمون بدون أصول؟ وهذا السؤال مثل سؤال: متى عاش العرب بدون نحو؟ لقد كان المسلمون الأوائل أصوليين كبارا، وكانوا يطبقون بقدرة فائقة أصول الفقه وقواعده، والأمثلة عديدة، منها: أولا: أول أصولي متميز هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما منع السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام من إرث أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه طبق مبدأ أصوليا، وهو حمل العام على الخاص، لأن العام وهو نص القرآن يعطيها نصيبها، والخاص وهو نص الحديث يمنعه من توزيع التركة، وهذه نظرة أصولية دقيقة من الصديق رضي الله عنه، وكان الشافعي حينها في صلب جد أبيه. ثانيا: اعتمد زيد بن ثابت في توريث الأم العرفَ والعملَ، ومنحها أقل من نصيب الأب في الغراوين، وتمسك ابن عباس بعموم الآية، وكلا المسلكين من الأصول. ثالثا: إذا أردنا تتبع أقيسة الصحابة سيعيينا العد والإحصاء، والقياس مبحث أصولي بكل قضاياه. واستمر التابعون وتابعو التابعين على هذا السّنن الأبين، إلى أن جاء أبو حنيفة –وهو قبل الشافعي- واشتهر بأصول، منها الاستحسان، وحديث الآحاد فيما عمت به البلوى، وغيرهما، وجاء الإمام مالك -وهو قبل الشافعي- واشتهر بأصول، منها الاستصلاح، وحديث الآحاد المخالف لعمل أهل المدينة، ثم بعد ذلك جاء العبقري الشافعي، فدوّن وصاغ واجتهد وبرَع، فظنه الناس مؤسسا. وليس كذلك. أما الدعوى السابعة فتنطوي على كارثتين، الأولى: الدعوة إلى الانفصال عن نموذج أصول الشافعي، وإنها لعمري كارثة، وأحبس لساني عن وصفٍ غيرها حتى لا أُتَّهَم بالقذف. وأي إصلاحي أو تنويري دعا إلى الانفصالوالقطيعة مع التراث فاغسل يدك منه، بل لا بد من الاستفادة منه وتطويره والاجتهاد فيه ومعه، وأرجو أن تكون هذه الكلمة سبق قلم من الباحث ليس إلا. الثانية: وهي لا تقّل عن الأولى، وهي أن أصول الشافعي لم تُعر للقيم اعتبارا. وغني عن البيان أن صياغة الأصول ونحتها هي مثل صياغة القوانين في عصرنا، وهذه الصياغة غالبا لا تصرح بالقيم، وإنما تستبطنها، وتكون خادمة لها، والإمام الشافعي كما كان إماما في العربية والأصول والفقه، كان إماما في القيم، فكيف نحمله مسؤولية عدم إيلاء القيم اعتبارها ومكانتها؟ الإمام الشافعي أشهرُ من تَمثَّل قيمة نصرة المظلوم، فكان يعلن حبه لآل البيت المظلومين، مع أن تهمة التشيع كانت اغتيالا معنويا في عصره مثل التهمة بالإرهاب في عصرنا، ورغم ذلك تحمل ما قيل عنه، وأعلن ذلك ولم يصطف مع “التحكم” العباسي، ولو كان الأستاذ جبرون في عصره لبيّن له بعض المصالح في التعامل مع التحكم. الإمام الشافعي أشهر من قال بالقيم وتمثلها، ولا ريب في ذلك، فهو القائل: “لو علمت أن الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته”. وبعد هذه المواقف القيمية، يأتي من يربط بين أصول الشافعي وإبداع الشافعي وجهود الشافعي وبين عدم إيلاء القيم اعتبارها ومكانتها؟؟؟ من التدوينة إلى الكتاب: أثناء مناقشته للأستاذ كافي ولبعض المعلقين، دعاهم إلى الرجوع إلى كتابه “هدي القرآن في السياسة والحكم”، وهو بالمناسبة كتاب جدير بدراسة نقدية موسعة، لأنه مبني –كالتدوينة- على إطلاقات وتعميمات، إضافة إلى معلومات غير دقيقة، أو ما يمكن إجماله في (كتابة غير المتخصص). مثلا: 1** أكثرَ من الحديث عن “القرآن السياسي”، وهو في نظره “آيات القرآن وأحكامه التي تتعلق بالمعاملات السياسية”، قد نتوافق على المصطلح، ولا مشاحة في الاصطلاح. لكنه جعل ضمن القرآن السياسي “أحكام العقوبات وأحكام الحرب والقتال وأحكام العلاقات الداخلية والخارجية وأحكام العقود والبيعة …”. وهذا تعميم وتشظية للمفاهيم، لأن من الصعوبة بمكان إدراج هذه العناصر كلها في “القرآن السياسي”، ومجاراة له في الاصطلاح، يمكن أن نقول: ** أحكام العقوبات لا تندرج في “القرآن السياسي”، بل هي من “القرآن الجنائي” إن سمح لنا بهذا التوصيف. ** أحكام العقود لا تندرج ضمن “القرآن السياسي”، بل هي من “القرآن المدني”، لأن تلك العقود هي عقود مدنية، مندرجة في القانون المدني المعاصر. ** أحكام الحرب والقتال ليست كلها عند التدقيق في “القرآن السياسي”، بل لا علاقة لها بالسياسة إلا من حيث قرار الحرب والسلم، أما ما يتعلق بمواجهة العدو صفا مرصوصا وعدم التولي يوم الزحف والمصابرة وغيرها فيمكن إدراجها في “القرآن العسكري” أو “القرآن الاستراتيجي”. وهكذا يظهر عدم التدقيق حتى في الاصطلاح، ويقاس على هذا غيره مما في الكتاب مما لا علاقة له بالدقة والصرامة المفروضتين في مجال معقرب كهذا. وللإنصاف، فإن الباحث حاول أن يجلي لنا سبب تسميته لأحكام العقوبات بالقرآن السياسي، وذلك “باعتبار الدلالات السياسية التي أمست لصيقة بها مع تغير الأحوال وتبدل الظروف”، وهذه عبارات أو قل تعليلات لم أفهمها، ولم أستطع الربط بينها وبين آيات الأحكام لفهم مدى تغلغلها أو ارتباطها بالسياسة. 2** ليظهر بمظهر المجتهد المجدد، تناول الباحث في كتابه مسألة “أسباب النزول”، وأظهر عجزها وضعفها، “لأنها غير كافية لكسب رهان الدلالة القرآنية في اللحظة المعاصرة”، وكأننا سنبحث عن “الدلالة القرآنية” لكل عصر، وإذا قبلنا ذلك، سننتقل إلى البحث عن “الدلالة القرآنية” لكل مصر، وبعدها قد ننتقل إلى البحث عن “الدلالة القرآنية” لكل شخص على حدة. والبديل الذي طرحه لتجاوز قصور “أسباب النزول”، هو القراءة التاريخية، ومراعاة السياق التاريخي، وهذا لعمري ليس جديدا، وقديما وضع البعض “معرفة أيام العرب” ضمن شروط المفسر، وكان ابن عباس رائدا فيهذا، وكذلك أم المؤمنين عائشةرضي الله عنهم. لكن الخطير هو ما بعد القراءة التاريخية، وهو ما قد يمهد إلى تجاوز كثير من الأحكام بدعوى تاريخانيتها. 3** لما تكلم عن القياس، بين قصور الفقهاء الذين يركزون على القياس الحُكمي، ودعا إلى القياس الحِكَمي، والدعوة إليه نابعة من كونه القادر على أن”يَعبُر بالقارئ المتدبر من الحُكم إلى الحكمة”. هنا برهن الأستاذ اجبرون على أنه يتكلم في غير تخصصه، وقديما قيل: “من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب”. إن ممارسة القياس في الصناعة الاجتهادية لم تُنط بالهوى والتشهي، وإنما قُيِّدت بضوابط وتقييدات حتى تحول دون التسيب في الممارسة الاجتهادية، لذا وجب علينا أن ننته إلى عدم الانضباط الذي قد ينتج عن “القياس الحِكَمي”، كيف يكون؟ ما هي ضوابطه؟ ما هي شروطه؟ هل يجوز استعماله في مقابلة النص أم لا يُستعمل إلا في حالة عدم وجود النص؟ والفقهاء لما تكلموا عن “العلة” في القياس باعتبارها العمود الفقري لذلك المبحث، اشترطوا انضباطها، وتكلموا في ذلك وفصلوا، وكيف يكون “القياس الحِكَمي” منضبطا؟ أسئلة كثيرة نريد تلمس الإجابة عنها من المجتهدين المتخصصين في “القياس الحِكَمي”. 4** لما تحدث الباحث عن آيات العقوبات، تساءل عن السبب في قلتها وعدم كثرتها، وأجاب عن تساؤله بقوله: “لعل ذلك راجع إلى بساطة الحياة العربية التي استقبلت الهدي القرآني، أو لأنها كافية في الدلالة على ما وراءها من حكم وغايات يمكن الاهتداء بها في التشريع والحكم في سائر الأمور والأحوال”. وأقول ببساطة: ليس كذلك. القرآن الكريم ليس كتابا في القانون الجنائي، وليس مسطرة جنائية للأمة الإسلامية، القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، يريد بناء مجتمع سوي وسليم، ومن أمارات النظام السوي قلة العقوبات وليس كثرتها، لذا نص عليها في آيات قليلات، وترك عقوبات أخرى لاجتهاد الحكام، وهو ما يصطلح عليه بالتعزير. ثم هي قليلة، لأن القرآن تطرق إلى الجرائم الكبرى، واعتنى بها لفظاعتها وخطورتها، ولِما يترتب عليها من اعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض، وهي من الكليات الأساس التي لا يمكن التهوين من شأنها، أما الجرائم والمخالفات الأقل منها فترك شأنها لاجتهاد الحكام أيضا. هذا هو السبب الرئيس، وليس السبب هو بساطة الحياة العربية حينذاك. 5** ذكر الأستاذ الباحث في كتابه أن القانونيين اشترطوا في الحدود الشرعية ثلاثة شروط : “وجوبها تحقيقا للمصلحة العامة. عدم جواز الزيادة فيها أو النقص منها. عدم جواز العفو عنها لا من طرف القاضي أو السلطة السياسية ولا المجني عليه”. وهذا نص قصير وعجيب، لأنه يتحدث عن الشروط، والفقهاء والقانونيون يتميزون أثناء الحديث عنها بالدقة المتناهية، وهنا خبط وخلط (هاتان العبارتان ليستا من القذف). فالشرط الأول: يتضمن كلمة الوجوب، والوجوب حكم وليس شرطا، فما الهدف من كتابته؟ ثم الحديث عن المصلحة العامة هدف ومقصد، وليس شرطا، فتبين أن الأخ الباحث لا يميز بين الأحكام والمقاصد، ويدرجهما في الشروط، ثم يمارس الاجتهاد، وهذا عين الخبط والخلط. أما الشرط الثاني، فلم أفهم مقصوده منه، هل عدم الزيادة في العقوبات بإضافة عقوبة جديدة، أم عدم الزيادة في مقاديرها، كالجلد 101 جلدة مثلا، والشروط تصاغ بدقة، وهذا الشرط بعيد عن الدقة. والشرط الثالث غير دقيق أيضا، وصياغته تدل على أن صاحبه بعيد عن التخصص، والأَولى أن يقول مثل ما ورد في المدونات الفقهية: “عدم إسقاط العقوبة إذا وصلت إلى الإمام”، ومعناها أن الجريمة إذا وقعت، يمكن للمجني عليه أن يعفو عن الجاني خلافا لما ورد في صياغة الباحث، فمن تعرض للسرقة يمكن أن يعفو عن السارق قبل أن يرفع الأمر إلى الحاكم، والمغتصبة يمكن أن تعفو عن المغتصِب قبل رفع القضية إلى القاضي، أما بعد رفعها وتوصل القاضي بها، فلا عَفو آنئذ، وهو ما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أتشفع في حد من حدود الله”، حيث قالها بعد أن رفعت إليه قضية السرقة. أما شروط الحدود فكلام آخر، ولتنظر في مظانها. 6** قال أثناء الحديث عن الحدود: “لم يعتبر في هذا السياق القصاصُ حدّا من حدود الله، لأنه متعلق بحقوق العبد”. وهو صريح في أن ما تعلق -في نظره- بحقوق الله كان حدا، وما تعلق بحقوق العبد كان قصاصا. أولا: هناك في الحدود ما يُعدّ من حقوق العبد، ورغم ذلك أُدرجت ضمن حدود الله، مثل الاغتصاب والزنى، فهو اعتداء على حق من حقوق العبد مما له علاقة بالشرف والعرض، والسرقة اعتداء على حق من حقوق العبد مما له علاقة بأمواله وممتلكاته، ورغم الارتباط بحقوق العبد فإنها ليست قصاصا. ثانيا: سمي القصاص قصاصا لأنه معاملة بالمثل، وليس لأنه مرتبط بحقوق الله او حقوق العبد، وفي اللغة “اقتص الحديث” بمعنى رواه على وجهه كما سمعه، فتتحقق المماثلة بين السماع والتبليغ/القص. أما الحدود فلا مماثلة فيها. ثالثا: القصاص حدّ من حدود الله أيضا بالمعنى العام، وليس حدا بالمعنى الخاص. وتوضيح ذلك أن العقوبات الشرعية حد من حدود الله، والعدة بعد الطلاق أو الوفاة حد من حدود الله، وعدم مباشرة المرأة في المساجد أثناء الاعتكاف حد من حدود الله، وأنصبة الورثة المنصوص عليها في القرآن من حدود الله، وكفارة الظهار من حدود الله، وكذلك القصاص حد من حدود الله، لكن من الناحية الإجرائية نميز بين القصاص والحدود لما بينهما من الفروق، مثل جواز العفو على الجاني من قبل الضحية أو من يقوم مقامه في القصاص ولو بعد رفع القضية إلى القضاء، وعدم جواز ذلك في الحدود. 7** أورد الباحث مسألة توقف الحرب في الأشهر الحرم، وذكر أن هذه العادة كانت شائعة قبل الإسلام في الجاهلية، وذلك في سياق إظهار بعض الأحكام الشرعية في سياقها التاريخي، وأنها ليست أحكاما شرعية صرفة، لكن الباحث لم يتفطن ولم يشر إلى مسألة غاية في الأخلاقية، وهي أن العرب في الجاهلية كانوا يتلاعبون بالزمن، وهو ما حرمه الإسلام بأغلظ عبارة “إنما النسيء زيادة في الكفر”، ولو كان الإسلام يتبنى أحكام “فقه الجاهلية” لظروف تاريخية، لما حرّم النسيء، لأنه من “فقه الجاهلية” أيضا. فتبين الفرق بين التاريخي والشرعي. 8** سرد الباحث مجموعة من العقوبات الإسلامية، وبيّن أنها كانت موجودة في الجاهلية أو عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم قال معلقا: “مما يلفت عند تأمل هذه المجموعة من الأحكام القرآنية (الحدود والعقوبات) أنها بمعظمها تتخذ شكل عقوبات بدنية، كالقتل والجلد والرجم والصلب والقصاص في الجروح، ولم توجد بين هذه العقوبات أنواع تنأى عن الإكراه البدني، وتعاقب بالحبس أو التغريم أو غيرهما من العقوبات، والاستثناء الوحيد الذي نجده في هذا الصدد هو الدية كعقوبة مالية، والتغريب أو النفي أو عتق الرقاب، ولعل هذا يرجع إلى طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي الذي ظهرت في سياقه هذه الأحكام، والذي كانت تتبوأ فيه القبيلة الصدارة الاجتماعية والسياسية، و لا توجد فيه سلطة عمومية يرجع إليها في الحكم ولها مؤسسة سجنية وما إلى ذلك”. هذا النص لنا عليه ملاحظات، منها: ** ادعاء أن الأصل في العقوبات الإسلامية هي عقوبات بدنية، والاستثناء هو العقوبات غير البدنية. حين الحديث عن الأصل والاستثناء نكون أمام مقاربة إحصائية، تبين لنا بالملموس أن العقوبات نوعان، بدنية وغير بدنية، والأولى كثيرة جدا، والثانية لا تمثل مقارنة معها إلا ٪5 أو ما يقارب ذلك، هذا هو مفهوم القاعدة والاستثناء. وبالرجوع إلى نص الأستاذ جبرون نجده ذكر خمسة من العقوبات البدنية، وثلاثة من العقوبات غير البدنية، والعلاقة بين الخمسة والثلاثة لا يمكن التعامل معها بمنطق القاعدة والاستثناء. هذا من الناحية الإحصائية. وبالتحقيق في العقوبات الشرعية، نجد كلام الباحث لغوا محضا، لأن العقوبات البدنية خمسة حسب إحصائه، ويمكن الاستدراك عليه بعقوبات أخرى، مثل القطع في السرقة،والقطع من خلاف في الحرابة، فتصير العقوبات البدنية سبعة (ذكرت الرجم مجاراة للباحث)، ويمكن استدراك أربع عقوبات غير بدنية أخرى، مثل الصيام (صيام شهرين متتابعين مثلا) والإطعام (إطعام ستين مسكينا) والحكم بالتفسيق ورفض قبول الشهادات (منصوص عليهما في عقوبة القذف)، ورفض قبول الشهادة مثل منع بعض المواطنين في القوانين المعاصرة من أداء بعض الحقوق، كالمنع من التصويت. (تنظر المادة السابعة من قانون 57.11). بعد هذين الاستدراكين، نكون أمام سبعة مقابل سبعة، فهل نلجأ إلى جعل إحدى السبعتين أصلا، وإحداهما استثناء؟ وهذا وحده كاف في نقض الدعوى وبيان زيفها. ** حاول الباحث التركيز على العقوبات البدنية ليبين أن حضورها المكثف في المنظومة القرآنية مرتبط بالتاريخ، وأن عصر نزول الوحي لم يكن يسمح لأهله بإبداع أو تشريع عقوبات أخرى، وبالتالي يمكن تجاوز تلك التشريعات نظرا لتاريخيتها. ومحاولة التجاوز هذه باطلة تبعا لبطلان المقاربة الإحصائية السابقة. 9** علاقة بالنص أعلاه، ولبيان تاريخية العقوبات الشرعية، ذكر الأستاذ مجموعة من عقوبات القتل والجلد والرجم وغيرها في العصر الجاهلي، أو انطلاقا من التراث اليهودي أو المسيحي، والسؤال هو: هل يُشترط في الأحكام أنها لا تكون شرعيةً حتى تختلف عما كان في الجاهلية أو عند أهل الكتاب؟ وإذا توافقت جزءا أو كُلاّمعهم فهي ليست شرعية؟ هذا شرط بيّنُ البطلان، لأن الإسلام لم يتعامل بالقطيعة مع عادات الجاهلية وأعرافها، فأبقى على القسامة، وهي من وسائل الإثبات عندهم، وترجم البخاري في صحيحه بقوله: “باب القسامة في الجاهلية”، والفقه الإسلامي يتحدث عن العمرى والرقبى، وهما من عطايا الجاهلية، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم” “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وهذا ليس من القطيعة، ومنها إشادة النبي صلى الله عليه وسلم بحلف الفضول، وشعيرة الحج كانت في الجاهلية أيضا،وحيث كان الحجيج يتوافدون على مكة ومنى وعرفات، وكانوا يطوفون ويسعون، وكانوا يصومون عاشوراء، وكل هذا أقره الإسلام باعتبار شرعيته لا باعتبار تاريخيته. وما يقال عن تقاطع الأحكام الشرعية مع عادات الجاهلية، يقال عن التقاطع بين الأحكام الشرعية وبعض الأحكام في التراث اليهودي والنصراني، وهذا التقاطع أولى من سابقه، لأن مصدر اليهودية والنصرانية في أصلهما هو نفس مصدر الشرع المحمدي، لأنها كلها تشريعات ربانية، لهذا نجدهم يتطابقون في الدعوة إلى وحدانية الله تعالى، ولنا أن نتأمل بعض الأحاديث التي يحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن شخص أو أشخاص ممن كانوا قبلنا، بل لنا أن نتأمل: “ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله”، وقوله تعالى: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم”، فهل هذا التوافق بين التقوى والتقوى، وبين الصيام والصيام يخلع عن التقوى والصيام نعت الشرعية، ونلصق بهما نعت التاريخانية؟ هذه جملة ملاحظات على مقتطف قصير من الكتاب المذكور، تبين من خلالها ضعف الكاتب وبعده عن التخصص، وامتطاءه صهوة الاجتهاد بدون عُدّة، وطريق الاجتهاد وعرة المسالك، ولا بد لسالكها من زاد، وتزودوا، فإن خير الزاد العلم والتخصص والاستبحار، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.