إن الملاحظات التي أثرناها سلفا حول إشكالية الإيديولوجيا عند حزب الأصالة والمعاصرة ستنعكس بشكل جلي وواضح على طبيعة التنظيم وما عرفه من تحولات غريبة وسريعة خدمت توجهات معينة على حساب تنظيم حزبي محكم تحت شعار إعادة تنظيم الحزب على أسس جديدة من أجل تقويته وتطويره، غير أنه ولسوء التدبير ظل التنظيم يراوح مكانه إن لم نقل إنه عرقل أي توسع جماهيري للحزب لاستناده على عنصرين أساسيين هما: أولا الولاء الشخصي، وثانيا هيمنة التنظيم الانتخابوي وكل منهم حاضر بوجود الآخر، ذلك أن حضور الشخص المفرد داخل الحزب كان نتيجة طبيعية لإنشائه وانطلاقه كقوة سياسية، فالحزب قد انطلق بشكل أفقي وبموازاة زمنية مع استقالة أحد مؤسسيه المحوريين من مهامه داخل الدولة ليتفرغ للمجال السياسي، وفورا تحلق بعض المثقفين حول الشخص المؤسس الذي ترجل من وزارة الداخلية ليصعد المجال السياسي بشكله الحزبي بكل ما يحمل هذا التصرف من دلالة رغبة الدولة في خلق قوة سياسية تنتج النخب أمام عجز المكونات الحزبية التقليدية في أن تكون مصدر إغراء للمواطن لدفعه إلى ولوج عالم السياسة، غير أن هذا التحول بقدر ما اعتبره اليساريون المنخرطون في التجربة قبولا بنوع من التحالف الجديد بين اليسار القديم المضطهد والمخزن الجديد، بقدر ما هو وسيلة لحل أزمة اليسار؟ قبل أن يكتشف هؤلاء اليساريون بعد ذلك أنهم خلقوا وهما وصدقوه بدون طائل، لأن المخزن لا بد أن يكون لكل الوطن وليس ليساره أو يمينه، والمترجل من وزارة الداخلية جاء ليعالج قضية عامة تهم الدولة ككل وليس من أجل فئة محدودة تكمن في اليسار القديم وانهزاماته التاريخية، في حين اعتبرته الأحزاب السياسية والقوى الأخرى محاولة من المخزن لإلغائها كقوى سياسية لفائدة المولود الجديد (نظرية المؤامرة)، وهكذا حين انضمت إلى الحزب أحزاب الإدارة وبعض المكونات السياسية الجنينية توجهت الأحزاب التاريخية إلى مواجهته من خلال إحياء الكتلة التاريخية تارة، وتارة أخرى من خلال تصريحات نارية بإبداء أوصاف تخيف الرأي العام منه وتحكم عليه بالفشل من مهده وحتى دون منحه فرصة التعبير عن مواقفه، وبإلغاء حق المغاربة في أن يكون لهم حزب يجعل دفاعه عن الملكية شعاره الأساس كما يوجد مثل هذا التوجه في الديمقراطية الفرنسية الجمهورية رغم اضمحلال الملكية، ويوجد كقوة سياسية في بريطانيا تدافع عن الملكية بكل مكوناتها، فما المانع أن يشارك حزبا جديدا أحزابا أخرى دفاعهم عن الملكية كثابت من الثوابت، ولكن كما أسلفنا دون الإدعاء باحتكار ذلك، ومند البداية دخلت تلك الأحزاب في مواجهة معه، وكانت مبرراتها تكمن تارة في الدفاع عن الذات وتارة عن موقف سلبي مسبق، وتارة أخرى للابتزاز السياسي قصد ضمان التموقع الحكومي، والأحداث الموالية أكدت ذلك، بينما بقي بعض من مفاصل اليسار القديم يصنعون لأنفسهم وهما يكمن في أن النظام سيكون في خدمتهم كأنهم هم وحدهم يحملون الشرعية التاريخية أو أن النظام لن تكون له شرعية إلا إذا قدم خدمات سياسية يكفر عن تصرفاته المخالفة لحقوق الإنسان اتجاههم فيما مضى، أو كما كانوا يعتقدون بأنها عودة لنوع من الوعي إلى القرار السياسي، بل أخذوا يبلورون مواقف وهمية لا توجد إلا في أذهانهم ويرتبون عليها مكاسب سياسية ذاتية وفردية، قبل أن يكتشفوا حقيقة الوهم، وهي أن السياسة لا ترحم، فعلى قدر ما تمثل شعبيا تأخذ. لقد كان لحضور الشخص المؤسس لهذا الحزب في مجال التنظيم يشكل نوعا من قوة التوجيه بشكل سمح بتحلق الجميع حوله -الصالح والطالح-، فأمسى اليساري يناقش ذلك البيروقراطي أو الانتخابوي أو الفيودالي أوحتى البورجوازي في ظل نوع من الزمالة الحزبية باحثا عن وحدة فكرية وتنظيمية قد تلم بهذه التناقضات المتباعدة إن لم نقل المتضاربة فلم هذا الحزب بين جوانبه ذلك المثالي الذي يحلم بإنجاز مشروع المستقبل الذي اضطهد من أجله في الماضي بمعية ذلك الرأسمالي الذي تهمه مصالح ظرفية ومصالح آنية، فكان النقاش بينهما كنقاش الصم لا أحد يسمع للآخر، لأن سبلهما تختلف ولأن مواقفهما لا تنسجم بل ترتطم بعضها البعض، فأدى ذلك إلى خلل عظيم في طبيعة التنظيم ومكوناته لكون التنظيم في خدمة الإيديولوجيا ولكل إيديولوجيته وكان من الواجب إيجاد إطار إيديولوجي عام يسمح بتواجد أفكار كل هذه المكونات و يجسدها تنظيميا، وفي ظل هذه التناقضات كان الحزب ينظم تجمعات تعرف حضورا جماهيريا كبيرا يراهن فيه على الكم دون النوع، ترفع فيه شعارات جديدة ذات دلالات عامة مثل "العودة إلى السياسة" و"جيل جديد لملك جديد"، في حين كانت الأحزاب السياسية تريد أن تحافظ على مواقعها في الساحة الانتخابية، وهذا مشروع، وفي الحزب كان حضور الشخص المؤسس يوحي للبعض بسهولة الوصول إلى المواقع داخل السلطة، كما يوحي للبعض الآخر بسهولة بناء المجتمع الديمقراطي من خلال التحالف مع الملكية ضد التوجهات المحافظة التي بدأت تطفو على السطح ويتمدد وجودها بشكل مثير للخوف، خاصة وأنها تشترك والنظام تلك المرجعية الإسلامية التي تحدثنا عنها سابقا، وهذا الحزب الآخر فهم أن الوصول إلى علاقة مع إمارة المؤمنين يجب أن تكون مباشرة وبشكل منفرد لذلك أعلن العداء لحزب الأصالة ليس فقط لأنه حزب ولكن لأن الشخص المؤسس أولا وقبل كل شيء قريب من الملك، لذلك كان الصراع في مواجهته حادا من الحزب الآخر في الوقت نفسه الذي كان حوله داخل الحزب صراع من طينة أخرى ومن منطلق أن الأقرب إليه سيقترب أكثر من مصدر السلطة (أي حرب المواقع داخل الحزب). وإذا كانت (ممارسة السياسة تعني التحكم في مصير الناس) "عبدالله العروي في موضوع آخر"، فلقد كان الجميع يعتقد أن التحكم في العلاقة مع المؤسس سيؤدي إلى بلوغ سلطة القرار ومكاسب ذاتية، فخلق نوع من الانتهازية الحزبية التي اعتمدت على تقديم الخدمات وإعلان الولاء المطلق على حساب بناء المؤسسة الحزبية بشكل يساهم في تأطير المواطنين ويخلق نخبا جديدة من المثقفين والسياسيين قادرين على المساهمة مستقبلا في إدارة الشأن العام، وكان لكل ذلك انعكاس سلبي على التطور الطبيعي لهذا الحزب، ليصبح حضور المؤسس معرقلا بعد أن كان مصدر الديناميكية والدفع، لذلك اعتقد الجميع أن ذهاب المؤسس سيدفع الحزب إلى خلق ذاته من ذاته، أي سيبني تجربته وخطه السياسي بشكل مستقل، ولكن يبدو أن هناك مشكلة كان يجب حلها أولا وهي أن رحيل المؤسس خلق فراغا جعل التطاحن شديدا بين الأشخاص المتحلقين من حوله، وذلك حول من سيحتل ذلك الموقع، أو لنقل تلك المساحة، وما لم يفهمه الكثيرون أن حجم الشخص المؤسس بكل ما حمله معه من دلالات سياسية وقدرة في التأثير على المشهد السياسي العام لارتباطه المباشر مع الملكية قد رحلت معه عند رحيله من الحزب وعودته إلى موقعه كمستشار لجلالة الملك ومن تم الانفصال النهائي مع الحزب، ولم يعد يملك منها الحزب إلا التاريخ، وبدل أن يتحول هذا الفراغ إلى خلاف فكري وخلق تحالفات مبنية على توجهات سياسية قصد بناء أداة حزبية تنظيمية قوية تعتمد على الإمكانيات الذاتية وعلى الرصيد الذي جمعه الحزب في بداية انطلاقاته استمر الصراع ولأن مساحة الفراغ كانت شاسعة توازي أهمية الشخص، فلا يمكن لأي كان أن يحتلها، فانضاف إلى ذلك مناوشات ما يدعى بالربيع العربي ليزيد من أزمة الحزب التنظيمية لينتهي الحزب تنظيميا إلى نوع من التحالف الجهوي وسيلة للهيمنة على الحزب ككل استعملت فيها وسائل اليسار القديمة من الكولسة إلى التكليف بالمهام لمن يضمن فيهم الولاء أو الانتماء الجهوي بتبرير مفاده أن الحزب سيكون وسيلة مثلى لرد الاعتبار سياسيا لمنطقة جغرافية بعينها من خلال خلق حزب قد يوحي بأنه يمثلها ومنها ستعود تلك الجهة إلى الصدارة السياسية بعد أن همشت لعقود عقابا لها عن ثوراتها في بداية الاستقلال، وشيئا فشيئا أصبح الحزب يعرف بمنطقة من مناطق المغرب، وبشكل قصري بعد أن كان من المنتظر أن تعرف المنطقة بالحزب مما جعل الحزب ينحني جغرافيا وينحو منحا جهويا، وقد أكدت النتائج الانتخابية الأخيرة هذا الافتراض، وحققت هذا الاختيار الجغرافي السياسي، ذلك أن الحزب كله بوسائله المادية والسياسية والبشرية كان في خدمة تحقيق نجاح سياسي انتخابي في تلك المنطقة لإبراز قوتها وبناء نوع من مشروعية الهيمنة على الحزب من خلال حضور أبرز وجوههم في إدارة الشأن الجهوي وحضورها كذلك في إدارة إحدى المؤسسات الدستورية وبتحقق هذا المكسب سيعود الحزب من جديد إلى نوع من السكون التنظيمي أو لنقل نوعا من السكون الانتظاري الانتخابي القاتل، فلم يوظف ذلك الحجم الكمي من الدعم البشري الوطني الذي راكمه قبل أن يبدأ في التسرب من بين أنامله، وقد ساهم الحزب ذاتيا في ذلك عن إرادة ربما من أجل بعث رسائل الطمأنة للقوى السياسية الأخرى، غير أن القيادة الحزبية لم تفهم أن إشكالية الحزب تكمن في طبيعة وجوده وليس في حجمه.