مع اقتراب شهر أبريل/نيسان من كل عام، يطفو موضوع مفاوضات الصحراء المغربية على الساحة الإعلامية المغربية التي تواكب الظهور الجديد للملف بين أروقة الأممالمتحدة، خاصة على مكتب الأمين العام للمنظمة، السيد أنتونيو كوتيريس، و على مكتب السيد عمر هلال، الممثل الدائم للمملكة المغربية بذات المنظمة، و على أجندة تحركات وزير الخارجية و التعاون الدولي المغربي، السيد ناصر بوريطة، مع تغير في أسماء القائمين بهذه المهمات بحسب الولايات الانتدابية و الانتخابية لأصحابها. لقد راكم هذا الملف أرشيفا ضخما بالمعنى العمودي (التاريخي) و الأفقي(الأطراف “المعنية به”)، منذ ظهوره قُبَيْلَ إبداء إسبانيا نيتها في الانسحاب من المنطقة. و سأعرج هنا على أقوى المحطات في الملف قبل المرور إلى أفكار أعتبرها “ثاقبة و غير مسبوقة” في التعاطي مع هذا النزاع الذي سيطفِأُ شمعته الخمسين بعد بضع سنوات. أهم هذه المحطات : رأي محكمة العدل الدولية (ICJ/ International Court of Justice) التي أبدت رأيها بناء على طلب القيادة المغربية بزعامة الحسن الثاني، طيب الله ثراه، الموجه لمجلس الأمن، في 17 شتنبر 1974، و الذي أحاله هذا الأخير على محكمة ICJ تحت قرار رقم 3292 . وقبل أن تبدي المحكمة رأيها في قضية مَنْ لَهُ الحق في السيادة على “الصحراء الغربية”، كان المغرب و إسبانيا قد اتفقا مبدئيا على أن يكون الرأي “رأيا استشاريا، و غَيْرَ مُلزم، لكلا الطرفين”. بعد سنة تقريبا، و بالضبط يوم 16 أكتوبر 1975، جاء قرار المحكمة كما يلي: “إن تلك الأراضي (الصحراء) لم تكن أرضاً خالية من السكان terra nullius))، و أنه كانت هناك روابط البيعة بين سكان هذه الأراضي و بين المملكة المغربية –there were legal ties of allegiance between the inhabitants of this territory and the Kingdom of Morocco" – حدث تنظيم المسيرة الخضراء التي شارك فيها 350000 مغربي في نونبر 1975، و الذي ربما شكل رأي المحكمة حافزا قويا لتنظيمها، حيث جاء بعد أقل من نصف شهر من رأي المحكمة العلمي، و التي انتهت باعلان ما يسمى في الإعلام الدولي بالصحراء الغربية أرضا مغربية مسترجعة من سطوة المستعمر الإسباني. هذا الحدث لم يأخذ حقه من التفكير الأكاديمي العميق الذي كان سينظر لهذه المقاربة على أنها سابقة في التاريخ في حل النزاعات، مسيرة سلمية، لم تتبنى العنف و الحرب و إراقة الدماء في استرجاع اسمى حق لدى الدول، ألا و هو مبدأ “السيادة”. ظهور ميليشيا (إسم تتبناه العديد من المصادر الأكاديمية) مسلحة مباشرة بعد التحرير السلمي للصحراء تحت مسمى جبهة البوليساريو، و التي رفعت السلاح في وجه القوات المسلحة الملكية، ليس من فوق رمال الصحراء المسترجعة، بل من فوق أراضي توجد تحت سيادة دولة مجاورة ! صدور قرار الأممالمتحدة رقم 690 بتاريخ 29 أبريل 1991 القاضي بوقف إطلاق النار و بانطلاق مخطط التسوية الذي كان بند تحديد الهوية (أهلية المشاركة في الإستفتاء الذي كان يرتقب أن يكون في غضون أقل من سنتين). القرار وضع نهاية لأزيد من ستة عشر سنة من الحرب التي راح ضحيتها العديد من الأرواح، عن طريق حرب العصابات التي اعتمدتها الجبهة. و بغض النظر عن عدد القرارات التي ظلت تصدر سنويا حول تطورات النزاع سواء من نيويورك أو جنيف، أو الرباط أو تندوف-الجزائر، علاوةً على المبادرات الملكية في هذا الباب، كإطلاق مبادرة الحكم الذاتي، و تأسيس المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، و إطلاق ورش الجهوية الموسعة، فإن الملف على المستوى الدولي لم يحقق أي اختراق، و بقي شوكة عالقة بقدم الوطن، تعيق أوراش التنمية فيه، و تسبب له الكثير من التحديات، كالمشاكل الاجتماعية المرتبطة بالتنمية(أحداث فاس، سيدي إفني، زاكورة، الريف..)، و غياب العدالة المجالية بين الأقاليم و الجهات، ضعف الخدمات…تدني مستوى الثقة في المسار السياسي/الديموقراطي… وذلك راجع للتكلفة الباهظة لهذا النزاع على ميزانية الدولة و أولويات التنمية و الحكامة المجالية.. و إذا كان ما سلف ذكره تحصيل حاصل من وقائع تاريخية و اجتماعية و مراجع أكاديمية ، يمكنني الآن المرور إلى طرح بعض التساؤلات الموضوعية و إبداء بعض الاقتراحات التي قد تساهم في حل هذا النزاع، على ضوء تخصصي في الوساطة و حل النزاعات: أولا، أرى أن الصحافة المغربية، و قبلها أهل القرار، يعتبرون مشاركة الجزائر في المفاوضات أمرا مُسَلماً به، و يجب أن تكون الجارة الجزائر جزءًا منه. أنا أرى أن وجود الجزائر حول مائدة التفاوض هو توريط (بل إدانة) لها. فصراع المغرب هو صراع مع ميليشيا حديثة، ظهرت فجأة للوجود و ليس لها تاريخ، وحتى و إن ادعت أنها تمثل إخواننا الصحراويين، فإن التاريخ يشهد أن سكان الصحراء – بل حتى ما وراء الصحراء جنوبا و شرقا – كانت لهم روابط متينة مع السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب بحكم أن المغرب حينها كان له مكانة اعتبارية كتلك التي عند واشنطن و نيويورك اليوم، نظراً للبعد الروحي و العلمي لمدينة فاس (جامع القرويين). لذلك فأنا أعتقد أن أول سؤال يجب أن يوجهَهُ وزير الخارجية المغربي للجزائري رمطان لعمامرة هو “بأي صفة تجلس أنت هنا؟”، قد يكون جوابه “إيماني بحق الشعوب في تقرير مصيرها يخول لي ذلك”، (و هي النافذة، بل الأسطوانة التي تقفز من خلالها الجزائر داخل دائرة النزاع). “نعم، لكن يمكنك أن تقول ذلك خارج القاعة و عبر وسائل الإعلام !” ثانيا، و بالنظر للشرعية التاريخية و الجغرافية، و للإجماع الوطني حول مغربية الصحراء، على المفاوض المغربي أن يتوقف عن القول “تسوية القضية من خلال حل يرضي الطرفين”؛ فكيف لك أن ترضي من لا شرعية و لا حق له في أرضك؟ إنك بهذا الخطاب تهديه “حق الشرعية الذي يبحث عنه مجاناً” !! كيف لك أن ترضي هيئة لا ترقى لصفة “منظمة”، اللهم إن كانت منظمة إرهابية، مُسْتَعْمَلَةً كآلية أو جهاز من طرف القيادة الجزائرية (وليس الشعب الجزائري الشقيق) من أجل أهداف جيوستراتيجية. ثالثا، فالصراع في حقيقته هو صراع بين الجزائر و جبهة البوليزاريو، تدور رحاه حول “مَن يَستعْمل مَن”: الجزائر تستعمل/تستخدم البوليزاريو، و البوليزاريو تستعمل محتجزين بالإكراه أمام صمت دولي من أجل فُتاة السلطة و عائدات المساعدات الدولية. لكن الغاية التي تتوخاها القيادة الجزائرية تستحق كل هذا الدعم الذي أغدقت به — (و يجب أن تحاسب دوليا كدولة تهدد استقرار دولة مجاورة) — على الجبهة و كل هذه السنوات الطوال من معاكسة مصالح الشعب المغربي البالغ عدد مواطنيه أربعين مليونا. الصراع، في نظري، هو صراع ذي أبعاد بيئية و اقتصادية، أكثر من أنه وليس صراع سياسي أو حقوقي: الجزائر تريد أن تبسط سيطرتها على الموارد الطبيعية للمنطقة، و في مقدمتها الحصول على منفذ للمحيط الأطلسي، و قطع الجذور المغربية من عمقها الإفريقي. لذلك، على المغرب أن يفكر في حل لقضيته الترابية/السيادية بعيدا عن الجزائر، و الحل في نظري يكمن في إعداد تصور بيداغوجي و اجتماعي و تنموي يكون المواطن الصحراوي، داخل أرض الوطن و في المنفى، محوره و مركزه الأساسي. التصور سيكون مرجعا ينهل من تجارب الدول التي استطاعت أن تصنع السلام لنفسها من رماد، بل من بحيرات الدماء و غياهب السجون، و لنا في تجارب كل من ضحايا الميز العنصري بجنوب إفريقيا (تجربة لجنة الحقيقة و الإنصاف بقيادة القس ديسموند توتوDesmond Tutu /) ، و الحرب اليوغوسلافية ، و ضحايا التطهير العرقي (بين قبائل الهوتو و التوتسي) بجمهورية الكونغو الديموقراطية الكثير من العبر و من جرعات الإلهام. فتلك التجارب، و إن اختلفت جغرافيا و عرقيا، إلا أنه جمعتها قواسم كثيرة: معاناة الإنسان، العنف المطلق، و الاعتماد على الأبعاد التربوية و الدينية في حل النزاعات. 1. وسوم