الأسباب عديدة وراء ولادات الجماعات الجهادية والسلفية، فأياد أغ غالي زعيم حركة أنصار الدين كان قنصلا لمالي في جدة، وانخرط قبل ذلك في حروب إقليمية في الشرق الأوسط، واستطاع لأول مرة في تاريخ المنطقة دمج الفكر السلفي في النسيج الإثني، و تلعب حركة أنصار الدين دور خزان أكسجين للحركات الجهادية، كما أن نشاط التهريب وتجارة المخدرات والسلاح وسقوط نظام القذافي وهجرة كتائب برمتها كانت مجندة في الجيش الإفريقي الإسلامي أعطى قوة لحركة أنصار الدين، وعدد من زعامات هذه الحركة يقال إنهم متورطون في شبكات ذات أنشطة متعددة. إلى جانب حركة أنصار الدين سطع منذ خريف 2011 نجم حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا وهي امتداد لكتيبة الملثمين التي كان يرأسها المختار بلمختار وهو عسكري جزائري سابق، وبروز التوحيد والجهاد أقلق قيادة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الموجودة في منطقة القبايل شرق العاصمة الجزائر، فتمت إقالته، لكن رجال الكتيبه ظلوا أوفياء له فالتحق الجميع بالتوحيد والجهاد، تم أعلنوا في الخامس من دجنبر 2012 تكوين كتيبة جديدة تحمل اسم " الموقعون بالدماء"، وهي التي كانت وراء الهجوم على المركب الغازي بعين أميناس، ونقلت روايات من منطقة الصحراء الكبرى أن المختار بلمختار وسع نفوذه نحو الشرق وبدأ اتصالات مع جماعات جهادية في الجنوب الليبي، خاصة مع " أنصار الشريعة"، وهذا ما يفسر " جغرافيا" الهجوم على المركب الغازي في عين أمناس. حدث يأتي في سياق الحرب الجارية في مالي ، ويبرز التحولات التنظيمية في صفوف الحركات الجهادية، وهذا ما سيعطي الامتياز للتوحيد والجهاد التي خرجت من صلب كتيبة الملثمين التي كان يتزعمها المختار بلمختار وكتيبة " الموقعون بالدماء" التي تعد تطورا نوعيا في ولادات الحركات الجهادية، وستعكس التركيبة الإثنية مستقبلا التوجهات الجهادية للحركتين، فالمختار بلمختار سيجعل تحركاته أفقيا على طول الصحراء الكبرى من غرب السودان إلى موريتانيا، في حين أن حركة التوحيد والجهاد ستتحرك من الجنوب إلى الشمال أي من دول غرب إفريقيا إلى العمق الجزائري، ويبدو أن ثقل الحركتين سيكون بارزا في الصحراء الجزائرية بدءا من الورقلة باتجاه حمادات تندوف غربا وعين أكزام شرقا. حركة التوحيد والجهاد يتكون عمودها الفقري من موريتانيين وصحراويين من مخيمات تندوف، وزعيمها الحالي ولد خيرو الموريتاني وأبو الوليد الصحراوي وهو إطار سابق في "اتحاد شبيبة الساقية الحمراء ووادي الذهب" واسمه الحقيقي، سيدي الحبيب إدريسي ولد سيدي عبدي ولد سيدي سعيد، إضافة إلى زعامة عسكرية ميدانية من المخيمات يدعى أبو حمزة الصحراوي، دون الحديث عن مامين ولد أفقير الذي كان وراء اختطاف ثلاث رعايا غربيين من "مديرية الأجانب" بالرابوني والتابعة مباشرة لمصالح " الوزير الأول". ويوجد أيضا ضمن الجماعات الجهادية، القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وخاصة كتيبة طارق بن زياد بزعامة أبو زيد وهو جزائري الجنسية، كان على خلاف مستمر مع المختار بلمختار، كما أنه وراء خطف ستة من الفرنسيين في منطقة الساحل، ويبدو أن الضربات العسكرية الفرنسية ركزت بالخصوص على المناطق التي تقع تحت نفوذ حركتي أنصار الدين والتوحيد والجهاد. وتوجد قاعدة " المرابطون" بالمنطقة الجبلية بيكيدال. الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، كانت المعبر عن تطلعات سكان شمال مالي في رفض التهميش، وكانت الورقة التي وظفت بذكاء من لدن " حركة أنصار الدين " بزعامة أياد أغ غالي، بالإعلان عن انفصال شمال مالي في أبريل الماضي غير أنه تم تحييدها من الميدان، وطردت قياداتها نحو دول الجوار. المعطى الجديد هو أن الحركة الوطنية لتحرير الأزواد أعلنت تأييدها للتدخل العسكري وأنها مستعدة للقيام بمهام في شمال مالي. هذه المعطيات جميعها تبين صعوبة مواجهة الحركات السلفية والجهادية فالأمر يتطلب على الأقل عقد من الزمان ولن يتم ذلك إلا بواسطة مقاربة سياسية واجتماعية تراعى فيها وضعية شمال مالي والاعتراف بالتعدد الإثني للدولة وضرورة تقديم حلول سياسية قد تمر من خلال حكم ذاتي للشمال، وموازاة مع ذلك على المؤسسات الفقهية والصوفية التحرك بدينامية جديدة لإعادة المذهب السني المالكي والحفاظ على التراث الصوفي المتمثل في الطريقتين التيجانية والقادرية، والإنهاء مع نزاع الصحراء، عن طريق حل سياسي ينهي مأساة مخيمات احمادات تندوف إذ أصبحت مشتلا للفكر الجهادي وشبكات التهريب والاتجار في السلاح والمخدرات، وقد كشفت أطراف لم ترض عن التعيينات الأخيرة لقيادة البوليزاريو محضرا مؤرخا في 29/1/2009 ل"لهيئة الوطنية للأمن" من صفحتين، وأهم ما جاء في التقرير ، ارتباطا بسياق حديثنا، هو النقطة الثالثة في السلبيات إذ يركز على الوضع في المخيمات ويتحدث عن " تطور وتنامي الجريمة ونشاط عصابات تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية ووجود أعداد كبيرة من الآليات تحمل الترقيم الأجنبي ...". وجاء في النقطة الخامسة ما يلي : " غياب الإشراف على المساجد وسيادة خطاب التشدد والتفكير في الاعتداء على الأجانب" وفي النقطة السادسة :" تواجد الجماعات الإرهابية بالمناطق الحدودية مع موريتانيا...". وستتطور الأمور إلى جريان الحديث داخل المخيمات عن " التكفيريين المتشددين" الذين تسربوا أيضا إلى المدارس التي كانت مرتبطة إلى العهد القريب بقيادة البوليزاريو، بل إن المؤسسة المسؤولة عن الشأن الديني داخل البوليزاريو لم تعد باستطاعتها تعيين أئمة من لدنها، فتم رفض جل الأئمة المعينين، بدعوى أن المساجد بنيت من وقف وتبرعات "المحسنين " ( نموذج مسجد تشلة )، وهذا يعني أن المؤسسات الدينية أصبحت مستقلة، من حيث التدبير والتمويل والتوجيه، عن سلطة البوليزاريو، وأن جهات أخرى تقوم بالتمويل والتأطير . وأصبحت المساجد والمدارس القرآنية تدار من لدن لجان مستقلة ترفض قراءة خطب الجمعة المرسلة من القيادة، وتتهكم على القرارات الصادرة من " المسؤولين"، بل إن هذه اللجان المستقلة أصبحت مرجعا للإفتاء والتفسير وفق المنهج السلفي، وظهر مصطلح " التكفيريين" في البيانات الصادرة هنا وهناك وفي المواقع الإلكترونية التي تترصد من الداخل تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين في المخيمات، بل جرى تكفير قيادة البوليزاريو لعدم تطبيقها " لشرع الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام". وهذه الأشياء كلها تفسر لماذا تتمسك الآن قيادة البوليزاريو بورقة النجاة الوحيدة : " حقوق الإنسان في الصحراء الغربية وجنوب المغرب"، ويمكن الحديث عن خروج جل هذه المخيمات عن سلطة قيادة البوليزاريو، وتنبهت السلطات الأمنية الجزائرية إلى ما يجري داخل المخيمات وتأثير ذلك على الأمن القومي الجزائري، فاتبعت سلسلة من القرارات كتقنين توزيع المواد البترولية و مراقبة تحرك سيارات المخيمات وانتهت منذ مدة قصيرة إلى قرار بناء أحزمة رملية حول المخيمات والمراقبة المباشرة لدخول وخروج السكان. يضاف إلى هذا وذاك غياب الحكامة الرشيدة والبنى الاقتصادية والاجتماعية وهذا ما يشكل مكونات بروز الجماعات الجهادية والحركات السلفية في منطقة الساحل والصحراء، وما يزيد الطين بلة هو أن هذه الحركات بدورها أصبحت أوراقا لصراعات إقليمية تستفيد من دعم هذا الطرف أو ذاك لاستخدامها وطنيا أو في صراع دول المنطقة، ويكفي الاستدلال بامتدادات حركة أنصار الدين أو الحركة الوطنية لتحرير الأزواد داخل أجهزة بعض دول الجوار لمالي. تداعيات الحرب في مالي يمكن لتداعيات الحرب الجارية في المنطقة أن تعيد إنتاج السيناريو الأفغاني والباكستاني خاصة بالنسبة للجزائر وموريتانيا ، فالآلاف من عناصر حركة أنصار الدين والتوحيد والجهاد سينكفئون نحو الجنوب الجزائري حيث توجد نفس الإثنية ( الطوارق والقبائل العربية ) والتضامن القبلي يفرض نفسه في مثل هذه الحال كما هو الأمر مع قبائل البشتون في أفغانستان وباكستان، ونفس الأمر يطرح بالنسبة لموريتانيا حيث الامتدادات قائمة مع القبائل العربية الموجودة في شمال مالي، وثقل المتغيرات العسكرية الجارية الآن سيتحول نحو هذين البلدين، علما أن الجزائر تجد صعوبة في مراقبة ألف كلمتر تشكل حدودها مع ليبيا إضافة إلى أكثر من ألف كلمتر أخرى مع مالي دون الحديث عن ألف كلم من الحدود مع النيجر وموريتانيا وتونس، علما أن ليبيا وعبر قرار من المؤتمر الوطني العام أقفلت الحدود الجنوبية لتغلغل الجماعات الجهادية ووقوع ارتباط بين حركة التوحيد والجهاد وجماعة المختار بلمختار. ومع إقفال ليبيا لحدودها مع دول الجنوب سيزداد الثقل على دولة الجزائر، وهذا ما سينزف مدخراتها المالية إلى جانب المطالب الاجتماعية المتنامية للشعب الجزائري سواء في مجال السكن أو توزيع البنزين أو الشغل وغيرها من القضايا الاجتماعية، وستحتل قضيتا المطالب الاجتماعية والأمن قائمة اهتمام الدولة الجزائرية في السنين المقبلة، خاصة وأن ورقة التهديد الخارجي توظف بشكل منهجي من مؤسسات تستفيد من بشكل مريح من العائدات البترولية. تعد الدولة الموريتانية الحلقة الأضعف في محيط الصحراء الهائج، ويحتمل أن يطالها بشكل مباشر شظايا الحرب في مالي، فيستحيل التحرك عسكريا في غرب مالي دون توظيف منطقة النعمة والجنوب الشرقي لموريتانيا، كما أن ورقة النازحين التي تتضخم يوما عن يوما قد تشكل قنبلة في الأمد القريب، وكيفما صار الأمر في مالي وتأثيره على دول الجوار، سيبقى ملف الأمن الأبرز في اهتمام دول المنطقة بشكل عام، وهذا يتطلب منها مقاربات مشتركة والإسراع بحل النزاعات القائمة، وربما أن الأممالمتحدة عبر تقاريرها عن منطقة الساحل والصحراء هي الأقرب إلى قراءة واقعية لما يجري في منطقة الساحل والصحراء وتأثير ذلك على الأمن الجهوي والدولي. في هذا السياق تطرح أسئلة متعددة عن الوضع الأمني للمغرب في ظل هذه المتغيرات، باعتبار العلاقات التاريخية والروحية والفقهية التي تربطه بالشعب المالي، وعلاقاته المتميزة مع الدولة الفرنسية. يبدو أن هناك تحكما في الوضع الأمني من حيث مراقبة الجماعات الجهادية التي تتشكل بين الفينة والأخرى، وهذا ما يفسر الاعتقالات الدورية لجماعات هنا وهناك، والملاحظ مؤخرا أن الاعتقالات لم تعد ممركزة في مدينة أو ناحية بل أصبحت تنتشر رويدا رويدا ( من الناظور شمالا إلى العيون جنوبا )، ويبدو أيضا أن الأجهزة الأمنية المغربية تتبع نهج الحملات الدورية، وهو ما يسمح بتكسير التنظيمات الجهادية أو على الأقل إضعافها، وهي طريقة تستعمل من لدن الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول غرب إفريقيا، غير أنها تتم بالطريقة المغربية، وهو ما يفتح الباب لطرح قضايا حقوقية غالبا ما تؤثث تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية. التهديدات الأمنية التي قد تمس المغرب قد تأتي من الجنوب الغربي للجزائر، الذي يعرف فراغا أمنيا نظرا لتحول ثقل الحضور العسكري والأمني والمخابراتي والإعلامي من الغرب إلى الجنوب والشرق، وهي جبهات ساخنة بالكاد تستطيع القوى الأمنية والجيش الجزائري الحد من تنامي قوتها، وترك الغرب الجزائري والجنوب الغربي سيشكل ضغطا على المغرب، وقد يكون هذا من الأهداف الاستراتيجية لبعض الأجهزة الأمنية الجزائرية. كما يشكل الشريط الشرقي المحاذي للجدار في الصحراء مجالا سيطرة جماعات التهريب وتجارة المخدرات والجماعات الجهادية، كما بينا ذلك من خلال التعرض لتقرير" الهيئة الوطنية للأمن" التابعة لجبهة البوليزاريو، والمؤرخ يوم 29/1/2009 ، شريط يقع رسميا تحت مراقبة الأممالمتحدة، غير أن جبهة البوليزاريو تسمي هذا الشريط " الأراضي المحررة" لكن الحقيقة هو أن المكان تحول لقواعد للجماعات الجهادية خاصة حركة التوحيد والجهاد، وجماعات تهريب السلاح والمخدرات والهجرة السرية، وهذا قد يشكل خطرا أمنيا على المغرب، إذ أن الغالب في أي مجال جغرافي تتكون هذه الشبكات ببناء خلايا التهريب وتجارة المخدرات لتشكل فيما بعد النسيج الذي تتسرب منه الجماعات الجهادية. لكن يبدو، وانطلاقا من مجموعة من المؤشرات، أن حركة التوحيد والجهاد، والمشكلة أساسا من موريتانيين وصحراويي مخيمات الحمادات، تتوجه نحو عمق الأراضي الجزائرية، لاعتبارات متعددة، وهذا ما يفسر هجوم هذه الجماعة على مركز الدرك في تامنراست والورقلة واختطاف سبعة دبلوماسيين في غاو في أبريل الماضي. من حيث الدعم الدعائي والتنظيمي للجماعات الجهادية ، تعالت بعض أصوات سلفيي المغرب تضامنا مع إخوتهم بمنطقة الساحل والصحراء، والتساؤل الذي يطرح مدى عمق هذا التضامن، هل سيتوقف عند الدعم البلاغي أم يتعدى إلى الدعم المادي، علما أن القتلى من المغاربة، في صفوف القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركة التوحيد والجهاد، ينتمون في جلهم إلى إحدى المناطق المغربية.