إن القارئ لرواية “عيون الفجر الزرقاء”، يكون بمثابة الوالج لعوالم يَسِمُها الاندهاش والتأمل في المشاهد والأحداث المتدفقة المتناسلة والمتعددة الأبعاد والمرامي، فالكاتب يقدم الأحداث المختلفة المدهشة متعايشة ومتمازجة تقديما أفقيا وعموديا، بل تشعر أحيانا أنك تبتعد شيئا فشيئا عن الحدث الذي تعتقد أنه سيخضع للتمديد و الصيرورة وسرعان ما تجد نفسك تواجه أحداثا تُشركها مع أخرى غرابة المكان وعتمة الزمن والإحساس بالتهميش ،أحداث منعشة للتأمل مثيرة للأسئلة ، ومدعاة لاستعادة ذكريات مشابهة قيدتها الذكرى لا تنعمل إلا بذكر مثيلاتها ، هكذا تبدو شخصيات الرواية شخصيات تتأرجح علاقاتها بين المودة وما يشبه العداء أحيانا ،ولعل لعبة الكاتب بالحدث والوصف يجعل القارئ لا يستطيع القبض على الحدث والشخصية في سيرها نحو الغاية والهدف المحدد التحقيق، وبذلك تصير الرواية بانية لعوالمها المتميزة المفعمة بنفس درامي مؤثر بصورة أو بأخرى . أحداث الرواية وعلائق وأفعال وأقوال شخصياتها تستدعي التركيز، ولكن هذا الأخير لا يمكن أن يتم في عالم متشضي الأحداث والكلمات بشكل مبلبل يبعث على التوقف بغية البحث وإعادة القراءة بحثا عن تكامل يلم مضامين ومرامي المعاني ، واتصال الحدث بغيره ، ولكن سرعان ما تتبدد بعض حيرتك والكاتب يعود بك إلى حدث قد يعتبره المحور والرئيسي ، ففي الفصل الأول والذي عنونه ب ” مقام البداية أو الولادة”اللا تكتمل ” نجد البؤرة البارزة في خضم الأحداث تتعلق بولادة ، ذلك أن الأحداث وهي تسوقك لتعيش تنوع تناسلها وتنوع مشهدياتها بما تثيره من أحاسيس وهواجس وتوجسات،تعود بك نحو بداية معلومة باهتة كي تحاول العودة بالذاكرة نحو البداية رغبة في تأثيث مسار حدث تحاول البحث له عن اكتمال وترتيب مفض … الكاتب يجعل أشياءه وكائناته تنبض بالحياة ، فهو يسند لها أدوارا وصفات تجعلها تقوم مقام الإنسان الفاعل والمفكر حتى ، وبذلك يجعل العبارات كلها تنبض بالحياة ” النسر نفسه يصد عن الجميع بعيون الرغبة في النصر ن لكن المقر الذي يحمل الجدع ولا يسمح لتلك العيون المختصرة بان تشد أناملها بالأطفال ،دون أن تدرك أن النسر له حاجة في نفوسهم ،عن لم تكن للرغبة تميل غالى دقات الحنين المحاذية للباطن في وصلة يتظاهر فيها النسر بالحب للجميع ،ورغبة في إنماء جناحيه الطويلين .” (1).هكذا تصير فقرة كاملة تتقاطع أحداثها ومقصدياتها البارزة على الأقل في الحديث عن النسر في علاقة بالمحيطين به ، فالشخوص على نسيج الرواية تختلط بالأحياء من غيرا لناس وبالجمادات أحيانا وهي مشخصنة تتحدث وتفعل وتصدر منها المواقف .” تأكد في الحال أن المخلوق الآخر و القرين لا محالة ، وتمتم مع نفسه كي يرحل عنه الغلام ، ولحسن حظه انه كان يحمل شيئا في جيبه اليمن ، فر الحذاء وبقي السؤال ، لمن ؟ “(2) . فالحذاء صار الفارَّ ، وفراره أثَّر على بقاء السؤال ، حيث ينزع تصور القارئ إلى النظر نحو السؤال وكأنه شيء آخر غير ذاته . ومن مميزات رواية ” عيون الفجر الزرقاء إبراز فعل شخصيات وحياتها بعد أن يتبدى للقارئ موتها وفناؤها في خضم أحداث الرواية المتشابكة الموحية إلا أن الكاتب يفاجئك وهو يعود إليها حية يتحدث عنها من جديد ،إلى جانب ذلك نجد عدم الاستقرار والثبات على الحدث المعين حتى يستكمل وحدة فروعه وحتى ينبني جسده الفعلي والزمكاني ممتدا نحو نهاية محددة . فالطفل المنسي المعطوب في مجريات أحداث من أحداث الفصل الأول يعود كي يصير الجذوة لأحداث الفصل الثاني الذي عنونه الكاتب ب” مقام الاستنارة أو الرحلة ” اللاتنتهي ” ويتميز إدريس الجرماطي بلغة خاصة تسم كل سردياته وهو ما سيلاحظه القارئ لروايته الأولى” رحلة في السراب “الصادرة عام 2008م ، مرورا بقصه القصيرة التي قرأنا بعضها مباشرة ، وبعضها عبر منابر إعلامية وطنية وغيرها … ففي أسلوبه جمالية حادة التميز وبارزة التجديد ، إنه بأسلوبه المتنوع في تشاكله وتداعياته يدفع إلى تفجير وجداني عميق ومُسائِل ، فومضاته ومناظره العجائبية الموصوفة المدهشة تنحو بك كي تتعايش مع الأحداث متفاعلا أو متأملا باحثا عن صيغة توصل على مقصدية ما من مقصديات محكيات الكاتب. فالكاتب يمتلك مهارة تحويل مدلولات حسية قريبة لينا عبر الوصف والتصرف الفني على مدلولات معنوية موحية من خلالها نعيش عالما من الغرابة والغربة إزاء عالم بيننا وبينه روابط وقرابة وفي ذات الوقت مسافات تجعلنا متوجسين وحذرين أحيانا أخرى . فنحن من خلال رؤية شاملة نجد الشاعر يملك القدرة على توهيج الحدث وإيقاد معطياته في كل أبعادها . وكأن الكاتب ينطلق من وحدة الرؤيا و لْنقلْ إنه ينطلق من رؤى متعددة في ذات الوقت ، فتجده يترك الحرية لذاكرته والصور والأفكار تتوارد عليها بتلقائية وحرية . وعبر الاتساع والتقارب بين الموصوفات والأحداث والمُنطَّقات في أحياز مختلفة نجده يحاول جاهدا وهو يناور ويحاور انطلاقا من أبطال روايته ليقول شيئا ربما أثقل كاهله أعواما . فهو يعود بك إلى طفولة وتاريخ ليخلق جوا وفضاء يحتاج إلى أكثر من رد وأكثر من سؤال من أجل إعادة التشكيل وفق خلفيات معينة…إنه يتعامل مع الكتابة بإحساس خاص يمكن اعتباره حلما عن الذات يُحكى على الآخرين في انتظار طرح تأويلاتهم إزاء معطياته المتنافرة أحيانا والمتشابكة المتداخلة أحيانا أخرى . ونحن مع الذين يرون أن الإبداع عامة والأدب خاصة مجال من خلاله يحاول المبدع بسط وعرض ذاته بمواقفها وقوتها ونواقصها وما يميزها عن ذوات الآخرين . يقول صلاح عبد الصبور معترفا : “ليست غاية العمل الفني إلا الظفر بالنفس “وهو اعتراف يفصله الشاعر فيضيف : ” إن أهم ما يميز ذات الفنان ورغبتها العارمة في عرض ذاتها على ذاتها ، فما يكاد الوارد يجيء حتى تسارع الذات على التأمل ، إن كنزا لِيفُتح ،وإن أ رضا لتكتشف ، ووديانا وجبالا لتنجلي أمام النظر،وغن حياة لتولد” (3) . في الرواية تتعايش الشخصيات لتستبين عن مواقف الكاتب إزاء ماضيه وحاضره وحتى عن آماله وذلك عبر أدوات من ها النرجسية والنكوص وإحباط و التدامج الاجتماعي إلى جانب عنصر مهم هو التخييل المساعد على التحقيق و التماهي , ويبدو وكن الكاتب يترك لرؤياه الانسياب ، ولذاكرته لفظ ما تكتمه خارج الإبداع منبسطا وعاريا أمام القارئ . إن التشابك الملحوظ في تقديم الكاتب لأحداث روايته يجعل القارئ يبحث عن امر يعلق به بحثه وتطلعه نحو معرفة ما الذي يجري ، والحال أن البارز في الرواية يتعلق بالولادة وعلاقتها بأسرة بدوية قدم الكاتب علاقة أفرادها بشكل درامي مدهش مؤثر. لذا نجد تماهي وتداعي الحدث ا يردعه سوى العودة للحديث عن الصبي الفريد في علاقة حميمية بأمه وبمن يحيطون به . ” المولود برأسه المحلوق كليا يثير الشفقة، وحظه في الدنيا أنه صنو ل” موريس ” ، وأنطوني ” و” ألان “الذين رحلوا عنه وتركوه يركض ، يسكب الموروث في القراطيس ؛ ليصنع منه رحلة وهمية ليحكي فيها عن لعبة الزمن ، يروي خلاصته الهامة بقامة رجل . (…) المولود ن وبخار البداية ينسل من فمه ، منحنيا بذاته النحيلة على حافة الرصيف يحمل الأنامل الناضجة القادمة من بعيد ، م يكن يتذكر معلميه الأولين زمن “مواس و”لوغي”اللذين رسما أطراف المساطر على خدود الأطفال ، والنية في ذلك حسن التربية ” (4). هكذا يبدو ن هاجس الولادة والطفولة يؤرق الكاتب من بعيد أو من قريب ، فالحدث يتمدد تمددا “مروحيا ” مختلط المكونات ، وفجة يعود هاجس الطفولة بغرائبيته كي يملا حيزا بعد حي في متن الرواية . عند الانتهاء من الفصل الأول تكون متشوقا على انفراج ما وإذا بك تواصل البحث عن مَنْفذ ينهي تساؤلاتك التي تناسلها الدهشة والغرابة والبحث عن أفق موحد للرؤيا .” وتغيرت معالم المفهوم في منظورهم تجاه الطفل اليانع الذي قدم غليهم من فجر لا يمكن أن ينسب إلى الأرض ، وعلموا أن ما نطق به لم يكن خريفا سيحل موضع الربيع ن وتجتمع لديهم ثنايا القماش ن الطفل موضع الغرابة ويبدو آية في الوضوح قبل بزوغ الفجر وظهور الهلال . قدم الليل بسواده والبوم من جديد يستقر ، الخالة الهرمة لم تعد موجودة ، رحل الإخوة الثلاث.”وحين سينشأ الحوار بين الإخوة تتعقد الأحداث والمرامي بشكل صادم يدعو إلى التفكير في منطق الانزياح المغلف للأقوال والأوصاف المتعلقة بالشخصيات ،يقول الكاتب ” هو كوكب يغزو فيه العناد ، وتوضأت القلوب باليحموم ، كان ذلك صبيحة يوم جديد صادف فيه الصباح الباكر سحابا يوحي بالقطرات ، والطرف الأخير من الشاة مشدود بين ركبتي الم ، تخرج خيوط الحليب وبين نالها الجرة تمتلئ ، بينما الحمل ينافسها ، وحقا يملك الأمومة ، تجاهلت كل شيء في المولود ، ولعصاميته لم تجد سندا ” (5). بهذا الأسلوب ، وبهذه التوصيفات يخلق الكاتب تشويقية تلعب بخاطر القارئ الذي يعيش بين الوضوح والغموض و قل بين الواضح الغامض المثير. إن ما كتبه المبدع إدريس الجرماطي متميز في أسلوبه وفي عوالمه وأبعاده ، ولعل أعماله القادمة ستعمق تقنيته بشكل يجعلها تؤسس لفنية قد تجد ما يساندها نقديا ويجعلها تنضاف إلى فنيات وتقنيات البناء الروائي . و تبقى رواية ” عيون الفجر الزرقاء ” إضافة نوعية تستحق التشجيع والتناول النقدي الفاحص المسدد المقوم للمُعتَمد فيها من أدوات ورؤى وخصائص ومنطلقات. *رواية عيون الفجر الزرقاء إدريس الجرماطي الطبعة الأولى 2009م الناشر :سندباد لنشر والإعلام بالقاهرة (1)رواية “عيون الفجر الزرقاء ” ص 10. (2) نفسه ص 13. (3) الفيصل العدد 363جمادى الأولى 1419ه/سبتمبر / أيلول 1998م ص99. (4) عيون افجر الزرقاء ص 31. (5) نفسه ص 41. كلمة بصدد إدريس الجرماطي بمناسبة توقيع مجوعته القصصية الجديدة : لحسن ملواني عرفته ذات مساء وكان الإبداع ملتقانا صديقا كريما متواضعا يؤاخي الكتابة ويكابد من أجلها فصارت جزءا من انشغالاته ،يساهم بها كي يعبر عن سرائه وضرائه ونحن من قرائه وخلانه نبادله الرأي ويبادلنا البدائل فنتشاجع من أجل المضي في درب الإبداع نقرأه ننتج في رحابه ، و نغوص به في الأعماق كي نرى عن قرب ، وكي نقترح البديل والأنجع .فيجدد جذوة الإبداع فينا كي يلوذ إلى عالمه قبل أن يخرج علينا بجديده الذي يراه جديرا بالرؤية والإنصات ، يتطلع كل مرة إلى ما يراه يؤلق ما يكتبه ، في كتاباته يصنع أعشاشا يؤوي إليها شخوصه ، يقاسمها زوايا الرؤية الفريدة نحو فضاءاتنا بخضرتها وترهلاتها ، ونحو ما يعتمل في ثنايا الهم اليومي ، إدريس يقابلنا دوما بجديده يطرحه متواضعا ، فهو يجتهد باذلا ما في وسعه من أجل إبداعاته المفعمة بأبعاد المتأمل في المجريات كي يقترح بديلا عبر الحلم وعبر نافذة السرد ، عوالمه تزيد فضاءاتنا فسحة وانبساطا ، كي تنمحي الحدود والسدود عبر العبارة الجامحة ، تنطلق كي نستعيد الأنفاس ونجدد العلائق في أفق يرسمه بأوصافه الغريبة و الحميمية في نفس الآن . إدريس يمدد من خيالاتنا بعوالمه التي يرسمها بعباراته التي تحمل الصور الناطقة بلسان اللون والحركة والوجهة، تتخذ العبارة في سرده التعدد في المعنى فتجعلك تقف تتأمل قبل آن تنصرف إلى المزيد . إدريس صديقنا المبدع في صمت ، يحاول أن يرتاد بالإبداع أودية جديدة كي يورق ويثمر فاكهة بنكهة جديدة ، ففي كتاباته إزعاج يدفع للبحث ، في كتاباته استعصاء ما تقابله عوالم الجذب والتوغل ،السرد في قصصك وديع الانقياد عفوي الانعمال لكنه متماسك متشابك متلون يخلق فضاءات متداخلة ،وبلغة مألوفة أحيانا وأنوفة أحيانا تجعلك تعيد النظر قصد القبض على بدايتها ووجهتها ونهايتها. إنه الكاتب الذي اختار أن يغرق في بحر الإبداع كي يلتذ بعذاباته كسائر الغارقين ، يبذل الجهد ، يكابد متأملا ، يتعلم النسج عبر منتجه كي يحظى بما يجعل من إبداعاته ما يستحق الرؤية والعشرة . إنه يعتقد جازما أن الإبداع خليق بالرعاية والاحترام ، لذا كان حديثه في كل لقاء ينضح بما يتطلبه وما يقتضيه.لذا فهو لا يخشى النقد ولا الانتقاد ، فهو يؤمن بان الإبداع رحلة أكبر وأطول من رحلة النبتة ، رحلة الإبداع سائرة وسارية تنشد المحطة الأخيرة فلا تدركها . إدريس يراعة مواهة تغرف من بحر الخيال وتأبى الجفاف والركون ، بسعيها الدؤوب تحاول أن تجود على تربة الإبداع بما يزيدها تنوعا وألوانا ، يغرف من الحاضر ومن المنسي كي يتراكب الحدث ضاجا بالمثير والملتبس ،في قصصه نسافر بعيدا ،بعيدا ، نراقب الأحداث وتصرفات الشخصيات ، في قصصه تتعدد اللقطات عبر الفضاءات في حيز زمني وجيز ، وفي قصصه تتحقق الصورة الاستعارية الحسية حية تعبر عما يراه أو يحلم به وفي كل ذلك نافذة نحو حالته النفسية . أخاله يتعلق بالمشهد الخاطر بباله تعلقا ، يخاف أن ينسحب دون تدوين ، يؤمن بجدوى إبداعه فكد وكدح ولازال من أجله ، صار ككل المبدعين مجنونا بين العقلاء ، يرى ما لا يرون ويحيى حيث لا تطيب لهم الحياة يحيى ب وفي كتاباته . في إبداعات إدريس نهج ووهج لا يحيد عنهما وكأنه مجبر بفطرته على تأسيس طريقة ستصير علامة تميزه ، وتجعل منتجه لصيقا بلمساته الفريدة. فهو يتعامل مع الصورة تعامل الأديب راجي الراعي الذي يطلق الصورة من خياله ،فلا يدري أين ستستقر ، هل في قاع البحر أم في مراقي الكواكب ، أم في الأرض أم في السماء، فهو الأديب الذي كلما اخذ القلم ليكتب جاء بالشمس والقمر والنجوم والليل والفجر والبحر والصحراء والنار والفضاء والعبقرية والحياة والقلب والدماغ والجمال والألم والينبوع والشجرة وما بقي من بدائع الطبيعة وعظائمها وأسرارها وأوقفها كلها أمامه واستنزل منه الوحي راجيا أن تغيثه وترعاه ” أعلام من لبنان “جورج غريب دار الثقافة ص 139140 إدريس ، لقد قرأت رحلتك في السراب فوجدت في عمقها طريقا نحو رذاذ وموج للغوص نحو القرار …قرأت عيون فجرك الزرقاء فوجدت بها ألف عين وألف بوصلة نحو المجاهل وهاأنذا انتظر بشوق ولهفة قراءة مجموعتك الجديدة ، فقد تأتي محملة بشئ يجدد بعض رؤيتنا للعالم وقاطنيه …فأهلا وسهلا بك صديقا حميما بيننا لحمة المكان والزمن وبساط الإبداع عبر الحرف والرؤية النافذة. قدمت جزءا من هذه القراءة في برنامج منتدى الإبداع للإذاعة الجهوية لاكادير يوم 17- 7- 2011 الأحد صباحا. 1. وسوم