لمْ أُخمّن يوما أن يكون السيد “فيسبوك” شيخي، آخذ منه الدرس وأستلهم منه الفائدة، ولكني رمقت قصة عنونها صاحبها الذكي ب”قصة ملهمة” أُغرِيتُ بقراءتها كاملة، علما أنني ناذرا ما أهتم بغير روابط المنابر الإخبارية، التي تُنشر عبر الفيسبوك، باحثا عن مقال رأي أو خبر أو حدث ذا بال.. صديقي الافتراضي الصحفي المتألق “أنس رضوان ” ناشر القصة كان هو نفسه موجه الشابة الطموحة ودالُّها، فقد وجدت نفسي أقرأ تدوينته مرات ومرات، كأنني أحاول بلا شعور حفظ هذه القصة، أو نقش حروفها واحدا واحدا في ذهني وعقلي، كأنها معجزة مستحيلة الحدوث في زمن لا يعترف بالخوارق ولا يؤمن بالمعجزات، زمن نذرت فيه الكرامات الجليلة، وقلّت فيه الحكايات الجميلة. مُلهِتمنا شابة في مقتبل عمرها، اختارت بسبب اليتم إضافة إلى تحملها عبء رعاية أخويها الصغيرين، ترك دراستها والاشتغال عاملة نظافة صباحاً، وفي المساء نادلة بإحدى المطاعم يقول صديقنا الافتراضي، غير أن حلمها في التعلم والحصول على الماستر في الاقتصاد، دفعها إلى التفكير في عرض معضلتها على صديقنا الذي نصحها بتعلم اللغة الفرنسية أولا، لتطوير نفسها ولم لا الحصول على وظيفة مدرة للدخل وتحسين ظروفها الاجتماعية بعد ذلك. من هنا بدأ نجم صاحبتنا في البروز، فقد عجَّلت بالتسجيل وتلقي دروس الفرنسية، وبجدية بالغة واصلت التهام الجرائد والمجلات الفرنسية وتفكيك مصطلحاتها الغامضة، حتى أصبحت من الفاهمين العارفين، وواصلت طريقها نحو القمة بالبحث عن عمل جديد بعد أن تم رفضها من عملها الأول بسبب انكبابها على قراءة القصص والمجلات، فلم يتقبل مشغلها التزامها بحضور حصص التعليم، ولم يتحمل رؤيتها وهي تقلب الكتاب وتلتهم ما فيه عوض غسل الأواني وتنظيف المرافق، هكذا دفعت الثمن مسبقا، في سبيل تغيير مسار حياتها وتحقيق حلمها الذي سيسير نحوها طائعا بإذن ربها الذي منحها الصبر والعزيمة القوية. يروي صديقنا الصحفي، أن الشابة الملهمة تمكنت من مواصلة تعلم لغة “مولير”، حتى أتقنتها، كما تمكنت من الحصول على شهادة الباكالوريا كطالبة حرة، مكنتها من ولوج الجامعة والترقي في مدارجها في طريق تحقيق حلمها الأكبر. حصلت صديقتنا على وظيفة جديدة في إحدى مراكز النداء وتمكنت من الحصول على راتب أفضل أضعافا من الذي كانت تحصل عليه، ستعرف كما حكت بلسانها لصديقنا لأول مرة ما هو الحساب البنكي، وستُدخل بيتها أول مرة أيضا بعض الأطعمة والفواكه التي كانت في السابق تكتفي بالنظر إليها من بعيد. كم هو مؤلم هذا الجزء بالضبط من القصة، حيث ستتمكن رفقة أخويها لأول مرة من مغازلة الموز ودانون والحليب، أصبحت وأخويها يلبسون اللباس الحسن ويُحَسِّنُون حياتهم شيئا فشيئا، حياتهم بدأت في التغيير، إنها حقا مرحلة مؤثرة في هذا الفصل من فصول قصتنا النادرة، “شفت أن حياتي تبدلات كاملة، وليت أنا وخوتي كنلبسو مزيان كناكلو مزيان، وأول مرة في حياتنا ولا كيدخل البنان ودانون والحليب لدارنا..” عندما حصلت شابتنا على شهادة الباكالوريا فرحت كثيرا، زغردت، وصاحت، قفزت وعانقت أخويها كما لم تفعل من قبل، اشترت اللحم، وأولمت أخويها والجيران، ولأول مرة كما تحكي تناولت الأناناس، وأحست أنها إنسانة كالناس، ومواطنة على قيد الحياة، غادرت الموت وطلقت البؤس، وانطلقت نحو المجد. مثل هؤلاء الأشخاص يستحقون التكريم والتعظيم، فبينما أدار لهم المجتمع ظهره، قرروا هم تحدي العجز ومقارعة الصعاب، والتصدي للحرمان، بصدور عارية صامدة قرروا النضال من أجل لقمة العيش ومن أجل غد أفضل. قصة هذه الشابة التي اخترتُ لها كعنوان “إنها ملهمتي”، فعلا قصة ملهمة تأثرتُ بها أيما تأثُّر، انسكبت دموعي وأنا أكرر قراءتها، تألمت كثيرا، أوجعني وجود هؤلاء بيننا، بينما يرمي الأثرياء والأغبياء ما فضل عنهم مما لذ وطاب من أطعمة وأغذية، يوجد بيننا من لم يتذوق “البنان” ولم يتلمس الحنان، تستحق هذه القصة في رأيي المتواضع أن تدرس في المؤسسات، أن تنشرها الجرائد، وتستحق هذه السيدة الشريفة ميدالية الخلد وجائزة الشرف. مثل هؤلاء العظام يستحقون التقدير والتقديم من الأمة في كل المناسبات، تستحق قصصهم أن تروى في المدارس على الأطفال، كل الأطفال، البؤساء منهم وأبناء الأثرياء، لعل هؤلاء يشقون طريقهم بطموح الجبال، ويحمد أولاء ربهم على نعمة الأبوة والثراء. يختم صديقنا روايته بحكمة بالغة على لسان الشابة الملهمة نفسها: “ما عمرني ننسى فاش قلت لي: حنا غادين نموتو غادين نموتو، اللهم نموت وحنا كنحاول نعيش، ولا نموت وأنا مدفون تحت السباط..” ما أجلها من حكمة وما أعذبها من كلمات 1. وسوم