المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف ، و لا حول ولا قوة الا بالله الخبير اللطيف. هكذا نمضي في سياق الرد على حملةِ الترويجِ للقُصاصات الإعلامية حول لقاء سري جمع السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية المغربي مع بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية. و بلغة الوضوح المحمود ، نجد أنَّ سياق المقال يقودنا إلى ضرورة تقديم شرحٍ أصيلٍ لِمعنى تطبيع الدول العربية و الإسلامية مع دولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة. فما الذي نَعْنِيهِ بمصطلح التَّطْبيع ؟ و من هم المَعنِيون بِواقِع التَّطبيع ؟ إنَّ التَّطْبيع – لُغةً- مصدرُ فعلِ طبَّع ، و على سبيل تبْسيط المعاني نقول – مثلا – طَبَّع إِبْنَهُ على حُبِّ الخير و السلام : أيْ عَوَّدَهُ عليْهما . كما نقول في مثال آخر طبَّع العلاقات بين البلدين : أيْ جعلها طبيعيّة عاديَّة. و قد ارتبط إستعمال هذا المفهوم اللغوي العربي المصدر ، ارتباطا وثيقا بمسار الصراع العربي الإسرائيلي حول القضية الفلسطينية العادلة. و اليوم ؛ بعد أزيد من 70 سنة على إعتراف الأممالمتحدة بعضوية دولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة ، لازالت ذكريات ماضي ” حكومة عموم فلسطين المحتلة” تبحث عن حدودِ دَوْلَتِها الجغرافية دون الوصول إلى زمن ميلادها التاريخي، رغم أننا نعيش في حاضرِ إعتراف السلطة الفلسطينية المُفَاوِضَة بنشأة الدولة الإسرائيلية و ” حَقِّها” القانوني في الوجود . هكذا – إذن – يجدُ العرب و المسلمون أنفسَهم تائِهين حائِرين وسط دوامة الوقائع الملموسة الدّالة على حقيقة وجود مفاوضات طبيعية تجمع بين القيادة الفلسطينية المُنْتخَبَة و بين حكومة إسرائيل، أَ كَانَ ذلك أمام عدسات الكاميرات ( فتح الضفة ) أو خلف كواليسِها ( حماس غزة ). بل .. نجد الحقيقة مُوَّثَقَة بِمداد التوقيع على صريح مضامين إتفاقيات أوسلو، بمباركة هيئة الأممالمتحدة و الدول العظمى الراعية لمسلسل السلام و معهم جامعة الدول العربية. و كذلك ضمن متون إتفاقيات التهدئة التي تلتزم بها حركة حماس بوساطة مصرية. قد يقول قائل أن العداء لازال مُتَرَسِّخًا بين الشعبين الفلسطينيّ والإسرائيليّ ، و الشاهد على ذلك العدوان المتواصل على حرمات و حقوق الفلسطينين الأبرياء في قطاع غزة و الضفة الغربية. إلاَّ أن هذا القول المَرْدود على أصحابِه ، يكشِفُ – أولًا و أخيراً- عن شلَلِ جامعة الدول العربية ، و قبل ذلك الانقسام بين الفريق الفلسطيني المفاوِض في العلن و بين الفريق الفلسطين المفاوِض في السّر، و عدم قدرتهما على إحقاق الإتفاق الأخوي الحازم لِتأمين الأرض و حماية الشعب الفلسطيني . أَ يَا معشر الأخوات والإخوة غير المُنْصِفين ! هذا خبر التطبيع ، إنّه مسار مفاوضات سنين جمعت بين العرب و الفلسطينين و بين الإسرائليين .. على طاولة السلام مُتَقابِلين مُتَصَافِحين .. وَ ” لِواجب” العزاءِ مُتَبادِلِين!. وَ لَعمْرِي ؛ ما رأيت مثل هذا التناقض الإنفصامي إلاَّ بين ثنايا خطاب سياسوي غير عقلاني ، يعتمدُه أولئك الذين جعلوا من عنفوان القضية الفلسطينية مَطِيَّة لِخدمة أجندات و مصالح دول عظمى و أخرى إقليمية، دول متصارعة حول الهيمنة المذهبية أو التوسع الإقليمي ، أو التَّحَكُّم في الموارد الطبيعية الاستراتيجية ( النفط و الغاز ) بالمنطقة العربية. نعم ؛ هَا هُوَ خبَر الصدمة يأتي بعد مبتدأ النكبة ، وَ هَا هيَ كرونولوجيا الحقائق الملموسة تؤكد لكل عاقلٍ لبيبٍ ما يَلي : ☆ سلام أول : تطبيعُ تركيا كأول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، و تبني معها شراكات استراتيجية سارية المفعول إلى حدود اليوم رغم مظاهر المدِّ و الجَزرِ. ☆سلام ثانٍ : تطبيعٌ بين مصر و إسرائيل. ☆سلام ثالث : تطبيعٌ بين الأردن و إسرائيل. ☆سلام رابع : تطبيعٌ بين منظمة التحرير الفلسطينية و إسرائيل. ☆” سلام” خامس خط أزرق بين لبنان و إسرائيل. ☆سلام سادس : تطبيعٌ وارد ضمن مبادرة سلام أقرَّتْها جامعة الدول العربية. ☆سلام سابع : تطبيعٌ شامِل ٌ قادِمٌ مفروضٌ بِقُوَّة “صفقة القرن ” بين دول الخليج و إسرائيل. و كل الجرد الذي سبق ، يَخْتَصِرُهُ التعبير الغنائي الشعبي المغربي في عَيْطَة : ” سَبْع سْلاَمَات في سْلاَمْ يَا الغَادِي زَرْبَانْ “. فَلِمَ نُقَابَلُ بِكُل هذا الرُّكام المُتَرَاكِم من التضليل المُمَنْهَج ؟! ، لِمَ اللَّعب على حبال العاطفة الجياشة للعرب و المسلمين ؟! ، و لماذا هذا السُبَاب المُنْبَعِث من أفواهِ جمهورِ القومية العربية المفقودة و دعاة الخلافة الكهنوتية المزعومة ؟! هي الأجوبة واضحة ، هي التعابير لا نُرِيدُها مقالة جَارِحَة … فلا ذنب لنا – كشباب مغربي حداثي شعبي- إلاَّ مَطلب الوضوح و الواقعية ، و العمل الصادق وفق إستراتيجية عقلانية سديدة من أجل إحقاق حلٍّ عادل يضمن حقَّ شعب فلسطين الأبية. نحن الذين نُعايش زمن الثورة الرقمية ، بل نحن قد. ابتعدنا بِمَسَافَة السِّنِين الضَّوْئيَّة عن أكذوبَة” القَوْمَجِيَّة العربية” ، و إصْطدَمْنَا بِجاهليةِ العنفِ و التطرفِ ، و ديماغوجيةِ دعوةِ ” الخَوَانْجِيَّة الكَهَنُوتيَّة”. ثم تَمَظهَر عَلَيْنا حَشْدُ أولئك الذين جَلَسُوا القُرْفُصَاء ينتظرون ظهور ذاك ” المهدي ” . قبل أن يَسْتَبْسِلوا في لَطْمِ الخدودِ ، و ضربِ الصُّدورِ ، و كَسْرِ جماجم الحداثة و الديمقراطية و التنمية. بِئْسَ القوم نحنُ ؟! إِيْ وَ رَبِّي ؛ نحن أجيال النكبة الجديدة، خُلِقْنَا و نحن نصرخ ضد نضالات الرِّياء.. وَ هَا نحن نُلامِس زمن أنترنت الأشياء … إِيْ وَ الله، نحن نَسْتهلك دُونَ مسايرة لذكاء الصِّنَاعَة .. نحن شَرِبْنا حليب مختبرات الأعداء ، و ليس لنا إخوة من الرَّضاعَة.. كلَّما طالبنا بتحرير الوعي من أجل عِتْقِ رَقَبَة دولة فلسطين ، يقف ذاكَ ” القَوْمَجِي ” الذي خَسِرَ القضية في ماضي المعركة.. يقف -اليوم- إلى جانب ذاكَ ” الإخْوَانْجِي ” ، حَامِلِين أبْواقَهم بالهُتَافِ لِفَيَالِق الحَشْدِ التي تَتَوَعَّدُنا بِحَاضِرِ المَهْلَكَة !. وَ يَا لَيْتَ شِعْري ؛ مَا الفرق بين حماس غزة و بين فتح الضفة ؟! مَا الفرق بين إسماعيل هنية و بين أبو مازن ؟! جوابكم صحيح ؛ كُلُّهُم أمراءُ طوائفِ فلسطين المَنْكوبَة. غيرَ أن المُراد من طرح الأسْئلة ، هو الغَوْص العميق في أربعينيات ماضي الصراع . هذا الغَوص العقلاني الذي يفيد أن قطاع غزة كان تحت إدارة “حكومة عموم فلسطين المحتلة” التابعة لِمصر الملك الفاروق ، في حين ضمَّ الملك عبد الله الأول قطاع الضفة الغربية إلى مملكتِه بكل قوة تفاوُضِية . صهٍ صَهٍ لَقَدْ وَجَدْنَا مَكْمَن الخَلَلِ ، فَبَعْد أن جمعَ الإنتدابُ البريطاني حقائِبَه و غادر الأراضي الفلسطينية ، تَاهَ الطوق العربي عن توحيد غزة و الضفة و الإعتراف بقيام دولة مستقلة. و تركوا الأبواب و النوافذ مفتوحة لكيْ تدخل دولة إسرائيل المُستحْدَثَة إلى عرين هيئة الأممالمتحدة ، ثُمَّ حَازت على قوة الإعتراف الأممي بحقوق العضوية. و أضحت مشروعية مطالب الشعب الفلسطيني في مواجهة قرارات ” الشرعية الدولية”. وَ لعلَّ الجميع يتذكر انبثاق لجنةٍ من الجمعية العامة في سنة 1947، التي خَلُصَت – مُجْتَمِعَةً – إلى طرح حل التقسيم : تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين يهودية و عربية، و إنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، و إقامة وحدة المصلحة الاقتصادية بين الدولتين قصد التمكين لمرحلة التطبيع الكامل. إعتبر العرب الفِلسْطينيون و معهم أغلبية الدول العربية، أن لجنةَ الأممالمتحدة قد تجاوزت ” صلاحياتها في هذا الشأن “، و إختاروا -مُوَّحَدين- مواجهة دولة إسرائيل المُستَحْدَثَة عام 1948 . فكانتِ النتيجة تقسيم أرض فلسطين بين اسرائيل و الأردن و مصر ، دون أن يَتمكنَ الشعب الفلسطيني المغبون من حقهِ الطبيعي في الإعتراف بدولته المُسْتَقِلَّة. و بين متاهات القرارات الأممية و مصالح الدول الكبرى العالمية، ضاعت الأرض العربية و ضاعت القدس الشرقية بعد انهزام مصر الناصرية و الأردن و سوريا و لبنان ثم تَغَيَّرَت خريطةُ الحدودِ و ملفات المطالب العربية. تَجَدَّدَت جبهاتُ النِّضال ضد الإحتلال بعد أن صَعَدَ إسمُ القائد الشهيد ياسر عرفات – رحمة الله عليه- فاسْتَجْمعَ هِمَمَ الشباب ، و ترأس منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت فيما بعد الممثل الشرعي و المخاطب الوحيد باعتراف هيئة الأممالمتحدة. حمل القائد الشهيد غصن الزيتون في يدهِ اليمنى و حملَ -أيضا- خيار البُنْدُقِيَّة ، فأعاد للشعب الفلسطيني بعضا من كرامَتِه المُغْتَصَبة. كما إسْتَرْجَعَ الفقيد محمود درويش وَهَجَ القَضِيَّة بمداد القلم و أبيات الشعر القَويَّة. ما كانَ بالإمْكان أكثر مِمَّا كانَ ، فَظَهَرَ القائد الشهيد أحمد ياسين – رحمة الله عليه – بِحَماسِه الوطني و أعطى زخماً كبيرًا للمقاومة الفلسطينية. و استمرَّ جُنْدُ قطاع غزة في مسيرة الكفاح إلى أن وقَّعَت – أيضاً- حركة حماس على اتفاق التهدئة مع دولة إسرائيل بوساطة مصرية. و هكذا ؛ تجمدت خريطة أراضي السلطة الفلسطينية ، في حدود جغرافيا زمنِ الحاضر ، منقسمةً بين أرخبيل قطاع غزة و بين الضفة الغربية . ثم نَرجعُ عوداً إلى بدءٍ ، لكيْ نكتشفَ بأنَّ ذاكَ الحلُّ الأممي الذي طُرِحَ قَبْلَ نهاية عقدِ الأربعينيات من القرن الماضي . ذاكَ الحل المرفوض من طرف جامعة الدول العربية حينذاك ، و القاضي بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين يهودية و عربية بنسبة 55 % للإسرائيليين و 45 % للفلسطينين ، مع إنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، و إقامة وحدة المصلحة الاقتصادية بين الدولتين. نكتشف – اليوم – أنَّ ذاكَ القرار الأممي أَرْحمُ بكثير من هَوْلِ الخَطْبِ الجَلَلِ القادم من تسويات ” صفقة القرن الحالي ” التي لن تضمن للشعب الفلسطيني سوى 25% من الأرض، مع شكوك قوية حول ضمان حق العودة لباقي الفلسطينيات و الفلسطينين ، و تحويل مدينة القدس إلى عاصمة” أبدية” لدولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة. و رغم أن جهود المملكة المغربية تعبر بكل وضوح عن مقاومة عقلانية قوية لإنقاذ أرض إسراء النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- و تمكين الشعب الفلسطيني من آليات الصمود و الثبات حتي نيل مطالِبهم العادلة و الراسخة، إلاَّ أن سياق التحولات الجديدة لدول الخليج و الطوق العربي و التشرذم الإسلامي الحاصل ، و كذلك الاكتساح الإيراني للعديد من الأراضي العربية ، و توقيع الرئيس الأميركي على قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس الشريف و ترسيمها عاصمة” أبدية ” لدولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة، جُلُّها عوامل تجعلنا أمام إرهاصات نكبة جديدة. # اللَّهم إنّا نعوذ بكَ من شتات العقل الجمعي العربي. ملحوظة لا بُد منْها: بِلُغَة العلوم الرياضيَّات فإنَّ نقطة الإنْعِطاف هيَ نقطة واقعةٌ على منْحَنَى، يَحدُثُ عندها تَغَيُّرٌ في إشارة الإنْحِناء ؛ أيْ أنَّ المنْحَنى يتغير من شكله مُحَدَّبًا نحو الأعلى ( إنْحِنِاء مُوجَب) لكيْ يَصِير مُحَدَّبًا إلى أسفلٍ ( إِنْحِنَاء سَالِب). و الفَاهِمُ يَفْهَمُ ؟! 1. وسوم