إستعمَلت إيران ذراعها حزب الله و بَسَطَت سيطرتها على جنوبلبنان و احْتَلَّ الحرس الثوري ما خلف هضبة الجولان .. إنقسمت دول الخليج بين سلطة فتح و سلطة حماس ، و تاهت الجامعة العربية عن مبادرة السلام التي طرحها الملك عبد الله – رحمة الله عليه- . كما يبدو أن الخوف على عطش الأردن يَدْفَعُه إلى أولوية التفاوض حول المياه ، ثم بَقِيَ ما فوق طاقةِ مِصْرَ هو القيامُ بوساطة إنسانية لا تُلاَمُ عليها. إختلطَ الحابل بالنابل و أصبحت قضية القدس الشريف مجموعة قصَصِيَّة أو روايات ، كل رواية تُصاغُ سرداً من أجل تقديس مرجعية “أبطالها” و معارك “شهدائها”. و عن سبق إصرار و تعمُّد يَتَغافَلَ الكثير من كُتَّابِها عن التمعن المتين في عمق نصيحة الحكمة التي أفادَنا بها الملك الحسن الثاني – رحمة الله عليه – قصد الإنطلاق من الواقع لإصلاح الواقع ، وَ وَاقِعُ قضية القدس الشريف لا يُمكن تفادي صراعِه الدموي إلاَّ عبر إعتراف الجميع بحقوق الجميع في مدينة القدس ، و الحوار من أجل كلمة سواء تجعل من مدينة القدس عاصمة عالمية لرسالات السَّلام . بالتأسيس على ما سبق جرْدُه ، وجب التَّنبيهُ إلى أن مُسْتَجَدَّ التحولات التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط ، و بالخصوص دول الخليج و الطوق العربي، تعلن عن زمن نكبة جديدة تتمظهر في وقائع انهيار حلم قيام دولة فلسطينية موَّحَدة و كاملة السيادة ، أما القدس الشريف فقد صار بعد سبعين سنة من الصراع “عاصمة” مُعترف بها لدولة إسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- من طرف الدولة العظمى الراعية لمسلسل السلام !. إن كرونولوجيا خسارة القضية المشتركة للشعوب العربية و المسلمة ، قد انطلق مسلسلها التاريخي بوقائع مفصلية منذ سنة 1948 : عام إعلان الاعتراف الأممي بقيام دولة اسرائيل. ثم كان اندحار المشروع الناصري الذي جمع الأمة العربية من أجل وهم رمي إسرائيل في البحر الأحمر . لِتكون النكبة الصاعقة سنة 1967 مع إعلان ضياع الحدود العربية لأرض فلسطين ، و ذلك بعد أن تَوَغَّلت جيوش اسرائيل في عمق صحراء سيناء العربية. لذا أصبحت دولة مصر مُجبَرَة على الاعتراف بوجود دولة اسرائيل مُقابِل استعادة أراضيها الحدودية فقط !. فَجاءَت معاهدة سلام كامب ديفيد شَارِحَةً للعربِ مضمونَ الخبرِ الصحيح عن نصر حرب أكتوبر سنة 1973 ، ذاك النصر الذي كان التهديد بوقف تصدير النفط سِلاَحَهُ الفَاصِل ، و هو – أيضا- الذي أوحى لصُنَّاعِ القرار داخل البيت الأبيض بضرورة تغيِير الرؤية الأمريكية لمستقبل منطقة الخليج ، حيث تحوّلت المنطقة إلى مرسى البوارج البحرية و مطار المُقَاتِلاَتِ الحربية و ميدان المعارك المدمرة. و كان أن تحوَّلَت إيران نحو العقيدة السياسية لِذاك ” الوَلِيِّ الفقيه ” في انتظار ظهور “المهدي المُنْتَظَر ” ، غير أن الذي ظهرَ هو صدَّام العراق بالمفيد المختصر . و بعد أن خاضَ العراق البَعْثِيُّ حَرْبَيْن مُتناقِضَتين ، باتَ ثمن البقاء هو النفط مقابل الغذاء إلى أن قبض عليه جنود صاحب واقعة الضرب بالحذاء . وَ صَمتَتْ سوريا البَعْثِيَّة عن المطلب المُباح ، فَبَقِيَ الجولان مُحتلاًّ إلى آجلٍ غير معلوم. هكذا ” أَتْقَنَ” حافظ سوريا ضمان استمرارية نظامِه عبر توافقات جيو- ستراتيجية كبرى ، و كأن لسان البعثِ السوري يُرَدِّد : تحرير الجولان قضاء و قدر دون أن يهتف : الله أكبر ..؟! . و بعد نجاحِ انتفاضة “أطفال الحجارة” التي أَحْيَت الأمل الفلسطيني في تغيير أرقام الصراع ، جاءت معاهدة أوسلو بمسلسل سلام غير مضبوط. حيث وقَّع الطرف الفلسطيني على صكِّ الاعتراف بوجود دولة اسرائيل كَكِيان قائِم لهُ الحق القانوني في الحياة و البقاء ، و رَضِيَ نَفْسُ الطرف بِقبول التواجد على أراضي – معزولة عن بعضها- شَكلَّت ما يجوز تسْمِيَتُهُ بِأَرْخَبيل السلطة الفلسطينية من “جزيرة” الضفة الغربية إلى “جزيرة” قطاع غزة. و لعلَّ المُعْطَى الذي يستفز الانتباه العقلاني عند مطالعة مراحل هذا الصراع المرير ، هو مسار دولة اسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- التي لمْ تنقسم إلى شطرين متناحِرَين رغم وجود خلافات و اختلافات داخلية بين مُكوِّناتِها. وذلك لأن الهدف الذي يُوَحِّد قادَتَها هو إجماعهم على تحقيق مُعتقد ” الأرض الموعودة للشعب المختار” ، أو بلغة اللعبة الديمقراطية إجماعهم على المصلحة العليا لدولة اسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- . و على النقيض منه فإن السلطة الفلسطينية – كطرف يقود و يتزعم المفاوضات- تَشَتَّتَ شَمْلُها و ظهر أمراء الطوائف الذين أضاعوا القضية بين أوهام أَرْخَبيل جُزُر فتح الضفة و حماس غزة. إن هذا القدس الشريف مَا ضَاعَ حقُّ المسلمين فيه إلاَّ لِعَدَمِ العمَلِ بِنَصيحة الملك الحسن الثاني – رحمة الله عليه – ، و الذي طالب الجميع بضرورة التمييز الرشيد بين مسار التفاوض حول القضية الفلسطينة كصراع عربي – إسرائيلي ، و بين ضرورة الحوار مع الجميع حول قضية القدس الشريف. أيضاً ، فَواقعُ الضَّيَاع و التَضْيِّيع مَا كانَ لِيَتَحَقَّق إلاَّ عبر الإنقسام الداخلي ، و الإقتتال الطائفي و المذهبي بين الفصائل الفلسطينية اللاهثة وراء سراب الهيمنة السياسوية ، بشكل لم تَعْتَمِد فيه مبدأ النأي بالقضية الفلسطينية عن مُخاتَلات الصراع العربي ، الإقليمي و الدولي ، و خلافات مذاهب الشعوب العربية و المسلمة. و مِثْلَمَا فشل المشروع الناصري ، و البعثي و الخميني في تحرير الأقصى خلال القرن الماضي ، فإن صعود جماعات و أحزاب الإسلام السياسي – فيما اصطلح عليه زورا و بهتانا بالربيع العربي الديمقراطي – كان مقدمة تمهيدية لِحُلول زمنِ النكبة الجديدة . هذا الصعود غير العقلاني أعلن سقوط دوغمائية مسيرات ” الصحوة الإسلامية الموعودة ” التي لم تَدْخُل بيْت المَقدِس كما دَخَلَهُ المُسلمون أولَّ مرَّة. و من عبق النصائح الحكيمة للملك الحسن الثاني – تغمده الله بواسع رحمته – ، نود تصحيح بعض المدارِك عبر نقل القول أن قضية القدس ليست مشكلا سياسيًا أو استراتيجيًا … إِنَّ لَنَا كُلُّنَا حقوقًا في هذه المدينة المقدسة ، سواء كنا مسلمين أو يهودًا أو مسيحيِّين . و بالتالي فالقدس الشريف الذي يُشَكِّل قِبلة مقدسة جامعة لقلوب و صلوات المسلمات و المسلمين ، لا يمكن أن يَتَحَوَّلَ إلى قضية صراع أيديولوجي سياسوي بين أطراف جعلت من القضية الفلسطينية ورقة قابلة للتوظيف قصد تحقيق مكاسب بعيدة عن حقيقة الصراع الذي خسرنا فيه المزيد من الأرض و الأرواح. لقد شاءت ” إرادة ” الرئيس الأميركي ترامب أن تتَحَلَّى بالجرأة السياسية لِتَمْنَحَ مكسباً ثميناً لدولة إسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- ، عبر التوقيع على قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس . لأن الرئيس دونالد ترامب لم يُؤَشِّر على قرار جديد . بل .. هو قرار قديم حانَ زمنُ تنفيذِه ، بعد ظهور إرهاصات التحولات الجديدة في مواقف دول الخليج و الطوق العربي المحيطة بإسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- ، و كذلك بعد احتلال إيران لكل من جنوب دولة لبنان العربية و تمركزها بمواقع استراتيجية داخل الأراضي السورية العربية ، مِمَّا يساعد إسرائيل على تبرير توسُّعاتها الإستيطانية بالإستمرار في إحتلال الأراضي الفلسطينية !. و بالتالي ، يُفيدنا اعتماد الواقعية السياسية في القول أن الولاياتالمتحدة الأميركية – باعتبارها دولة عظمى حاميَّة لإسرائيل -المُسْتَحْدَثَة – قد وضعت القدس الشريف و كل الموروث الإسلامي تحت تصرف حكومة تل أبيب بشكل صادِم و مفزِع ، كخطوة ضاغِطة حاسِمة تسبق الإعلان عن التسوية الجديدة و التي تشترط فيها قيام دولة فلسطينية “محدودة” دون امتداد استراتيجي ، حيث أنها ستكون دولة فاقدة لحق الوصاية و الإشراف على مُقدسات أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام بمدينة القدس. و إذا كانت تحولات دول الخليج و الطوق العربي قد اقتربت من زمن الحسم و الكشف الصريح عن مواقفها الجديدة ، فإنَّ الأسْئِلَة المُحَيِّرَة نَطرَحُها وِفق الترتيب التالي : 1- ماذا تفعل ميليشيا فيلق القدس التابعة لقوات النظام الإيراني المتواجدة بمواقع استراتيجية في سورية العربية المُتاخمة لحدود دولة إسرائيل التي تهتف الشعارات في طهران بِمَوتِها؟! 2- لماذا لم تتحرك جمهورية إيران “الإسلامية” دفاعًا عن حرمات القدس الشريف كما كانت تتبجَّح بِه في خطاباتِها الحوزيَّة، رغم أن منصات صواريخها لا تبعد إلاَّ بضع أمتار على خطوط التَّماس مع اسرائيل ؟! و للتوضيح أكثر ، فإننا كشباب حداثي شعبي نقتبس الأجوبة من عبقرية الإعتدال في فكر الحسن الثاني – رحمه الله – ، لكي نُذَكِّرَ الجميع بأنَّنَا لاَ ندعو إلى حرب دينية ؛ لأننا نعرف خطورة هذه المعارك ، و نعلم أن الحروب السياسية تنقضي يوما ما حول منصة المفاوضات !. لكن الحروب العقائدية تبقى راسخة في الأذهان و عالقة بعشرات من الأجيال.. وبالتالي فالحكمة من الأسئلة مُوَجَّهَةٌ إلى أولئك الذين يُريدون أن يَرجعوا بنا إلى القرون الوسطى ؟! هكذا – إذن – يجب أن تتذكر الأجيال الصاعدة أنَّ المسلمات و المسلمين لم يستطعوا الحفاظ على أرض إسراء النبي محمد السراج المنير ، و ذلك ليس لقِلَّتِهم بل لأن الذكاء الإصطناعي يؤكد أن عقل المليار قد يساوي صفرًا إذا كانت الأرْقَام المُشَكِّلَة لهُ بعيدة كل البعد عن إستيعاب مَوْقِفٍ واحدٍ لِرَجُل حكيم . ملحوظة هامة : لستُ من هواة نظرية المؤامرة .. بل أودُّ التنبيه إلى أن سبب الهزيمة هو ضعف العقل العربي و ليس قوة إسرائيل !. 1. وسوم