منذ أن خلق الله الإنسان بمدركاته العقلية الفذة وهو مستفز بأسئلة وجودية تنتظر إجابات مقنعة عن أشياء يراها وأخرى متوارية خلف حجب الغيب وهذا الغيب هو المجال الذي يلتبس فيه الدين بالخرافة، وقد بين القرآن الكريم الحدود الفاصلة بين الغيب النسبي الذي يتحول إلى عالم الشهادة عبر الاكتشافات العلمية ووفق سنن مضبوطة التي أدرك بعض منها ويبقى آخر ينتظر البحث التجريبي لمزيد من الاكتشافات التي تنقل مزيدا من الغيب إلى عالم الشهادة، وبين العلم المطلق الذي يستأثر الله بمعرفته ويجعله شرطا للإيمان به كالجنة والنار واليوم الآخر والبرزخ والملائكة والجن . إن أقوى سلاح يمكن به مواجهة عالم الغيب والشهادة هو المعرفة العلمية الصحيحة التي تضبط الرؤية وتنير العقل، إلا أن هذه المعرفة قد تتوارى في زاوية بعيدة عن نيل حظها من طرف جميع أبناء المجتمع ليحل محلها الخرافة في تفسير كثير من الظواهر الغيبية خصوصا في المجتمعات التي تعرف ارتفاعا في نسبة الأمية بمختلف أشكالها بما فيها الأمية الدينية فيفسح المجال للتفسير الشعبي الخرافي الذي يبقى المتحكم سسيولوجيا في تعريف بعض الظواهر الغيبية فينقل بكل يسر عبر الأجيال دون أن يجد ممانعة ولا رفضا. ولعل عالم الجن والسحر من أكثر العوالم الذي تلتبس فيه الخرافة بالدين فكثير من الناس يؤمن إ يمانا شبه مطلق بقدرة الجن الخارقة على الاطلاع على الغيب لخاصيتهم في الخلق وهذا ما يفسر الانتشار الكثير للعرافين وقارئي الطالع والمنجمين والراجمين بالغيب . وإن كثيرا منهم ليلبس لبوس الدين في هيئته ويدعي أن الله قد خصه بقدرات هائلة تجعل الجن مسخرا له طيعا لكرامات يمتلكها بل ويدعي امتلاك العلم اللدني والولاية التي تقربه من الله مما يسهل عليه خداع الناس حتى يكسب ثقتهم فيلجؤون إليه عندما توصد أبواب الحلول لمشكلاتهم أو لاستعصاء الشفاء من شقاء نفسي مجهولة أسبابه والتي يفسرونها بالغيبيات كتلبس الجان أو سحر معمول أو عين شريرة . وقد اتخذ كثير من هؤلاء حوانيت ودكاكين في أحياء شعبية سموها زورا وبهتانا( بالعيادات) وقد قادني الفضول يوما إلى واحدة من تلك (العيادات) فأردت معرفة ما يدور بداخلها فاستقبلتني بالمدخل لوحة كبيرة مكتوب عليها :العلاج بالرقية الشرعية ،التداوي بلسعات النحل، فك السحر وطرد الجان ،شراب للتخصيص (والقصد التخسيس أي فقدان الوزن ) وأشياء أخرى نسيتها ثم اقتربت من المرأة المكلفة في هذا الدكان الأشبه بالمعشبة من كثرة روائح الأعشاب فسألتها عن ( الرقية الشرعية) فأخبرتني أنها بالموعد وأثمنتها تختلف حسب الحالة وشكلها وقد تصل إلى مبلغ عال إذا تنقل الشيخ إلى منزل المريض وبينت لي أن مناقشة الثمن هو من يتكفل به وأثناء الحوار سمعت صوت قارئ للقرآن يأتي من الطابق العلوي فأخبرتني أنها حصة الرقية الشرعية الجماعية وبعد قليل نزل هؤلاء المرضى الذين يثير فيك حالهم كل المشاعر الآدمية وقد وقعوا بين كماشة المرض أو الوسواس الذي لم يعرفوا له تفسيرا وابتزاز هذا المشعوذ الذي يشتري بكلمات الله عرضا من الدنيا ويحسب نفسه طبيبا معالجا أفنى عمره في التحصيل والدرس . وحتما هذا غيض من فيض ما يقوم به هؤلاء الدجالون وما حدث راقي بركان عنا ببعيد. ولعل الناظر في أحوال المجتمع يستنتج أن من الأمور التي تساهم في انتشار هذه الظواهر شدة رواج المرويات الشعبية وكذلك مرويات بعض الكتب الصفراء المحسوبة زورا على الإسلام من مثل حكايتهم عن الشيخ العابد الزاهد الذي يمشي على الماء. وكيف يمتلك خوارق جاوز بها حتى الأنبياء . وكذلك القنوات الفضائية الربحية المروجة لهؤلاء الدجالين والمشعوذين . والمؤسف في الأمر كله أن هذا كله يؤذي الإسلام ويسيء إلى أهله ويثير فوضى فكرية تجعل بعض الحاقدين عليه يتسلل منها للنيل من صفائه . لذلك وجب تكثيف الجهود للتخلص من هذا الالتباس وتنقية الدين من الخرافة عبر رفع الوعي المعرفي الديني الصحيح وهذه مهمة منوطة بأعناق جهات عدة ينتظر منها أن تؤدي دورها كاملا.