يقول مثل فرنسي شائع: “الطبيعة تكره الفراغ” La nature a horreur du vide. بمعنى أنه كلما غاب “الفعل”، وكلما حلت “سكينة” سلبية، إلا وتحركت ديناميكية الطبيعة لتملأ “الفراغ” بأي شيء يُحدث صخبا ويغطي على “غياب الفعل”، و يمحو أثر الصمت الذي يترتب عنه. و يقول مثل آخر: “الإكثار من التواصل يقتل التواصل” Trop de communication tue la communication. هي أمثلة تنطبق على مجالات الحياة المختلفة، وتسريع في مختلف المجتمعات الإنسانية. لكن عندما يتعلق الأمر بالمجال السياسي، فإن المسألة تأخذ تجليات أخرى قد يختلط فيها المثلين، بحيث يسقط البعض في فخ محاولة “ملأ الفراغ” عبر “الإكثار من الكلام والتواصل”، الشيء الذي يؤدي إلى إنتاج سلوكيات غريبة، وبأثر أعمق على المحيط. وفي واقعنا الوطني، الموسوم بهشاشة الاستراتيجيات التواصلية، و بنسبية الأداء السياسي لمجموعة من الهيئات والأفراد، نجد بعض الفاعلين يسعون إلى ملأ الفراغ كلما وجدوا أنفسهم متضررين من أثره، دون انتظار أن تقوم الديناميكية التلقائية الطبيعية بهذه المهمة. وفي أغلب الحالات، لا يكون ذلك بسبب رفض الصمت الذي يعلو من “الفراغ”، وإنما هو رفض لما يرمز إليه من “غياب” و من “موت رمزي”، قد يفهم على أنه “نهاية وجود” أو “انتهاء أدوار”. وإذا استحضرنا أن أغلب ممتهني الفعل السياسي، عبر العالم، يعشقون البدايات و وهجها، فهم على نفس القدر، يألمون ويتحسرون، بل يبغضون النهايات التي تُخرجهم من دائرة الضوء، و تبعدهم عن وهج السلطة ومجد الجاه، و تُدخلهم في غيابات النسيان. لذلك، نجد العديدين يفقدون القدرة على ضبط النفس و تغليب الحكمة، وتراهم يجتهدون ويكثرون “الكلام” و “الخرجات”، و “إنتاج المواقف” بدون سبب ولا سياق موضوعي، ولا يهمهم في ذلك شيء سوى ملأ الفراغ، بأي شكل من الأشكال. المهم أن لا يقال عنهم أنهم “ماتوا سياسيا” أو انتهت “أدوارهم”. قبل ثلاثة أيام، انطلق في وسائط التواصل الاجتماعي سجال قوي، و انتشرت تعليقات تتفاعل مع كلام “من خرج” يُحدث الناس و يحكي “ذكريات أيامه الذهبية”، ويتقاسم معهم “أخبار تقاعده”، و يسوق لهم “التبريرات” المصاحبة له. لا أخفيكم أن “حديث الليل” هذا، و ما تبعه، جعلني أشعر بحزن و أسى بالغ من واقع هذه “الخرجات” و مما تنتجه من هدر للطاقات وللوقت في “الخوى الخاوي”. وبالنظر إلى ما صرنا في خضمه، خلال الأيام الأخيرة، من صخب و تواصل كثيف، يتم بشكل منسق، وكأنه جهد مضاعف يبذله “المتحدثون” لملأ الفراغ، أو لفت الانتباه، و التغطية على غياب أي فعل ينفع الناس في معيشهم اليومي، أحسب أن هذه السلوكيات لن تزيد إلا في تعميق الهوة بين عموم المواطنين، وبين “الفاعل السياسي و الحزبي”، كما قد تهدم ما بقي لدى الشباب من ثقة في العمل السياسي عامة. وكيف لا يحدث هذا، عندما يتكلم من ينعتون ب”الزعماء”، خلال ساعة كاملة، و يكون الكلام مزيجا من كل شيء، و حديثا عن كل شيء، إلا في ما ينفع الناس ؟ كيف لا يحدث هذا، إذا كان كلام “حكيم سياسي” و”جهبد مُحدث”، لا يرقى مضمونه ليمنح المواطن المهتم، أي فكرة مبتكرة أو اقتراح حكيم لتقويم تدبير الشأن العام، و لا يرقى ليمكن المواطن من استشراف مستقبل أفضل لأبناء البلد، من خلال حديث يتواصل بشأن سياسة عمومية جديدة في الأفق، أو برنامج حكومي يتم التفكير في تنزيله. ما فائدة الكلام من الأصل؟ أليس الصمت أفضل و أكثر وقارا؟ بالله عليكم… تصوروا معي حالة العجزة و ضعاف المتقاعدين الذين يئنون تحت وطئة الضيق المادي و المشاكل الاجتماعية… و تصوروا حالة شباب اعتقدوا أن بإمكانهم الاستثمار في بلدهم، و خلق فرص عمل لشباب غيرهم، و وجدوا أنفسهم في النهاية يتخبطون في البيروقراطية الإدارية و يتعرضون للابتزاز و ضغط المرتشين… وتصوروا حالة شباب مغربي حاصل على دبلوم عالي و يعاني من البطالة… تصوروا بؤس حالتهم، إن هم خرجوا من البيت، تحيط بهم عوالم المخدرات، وآفة الجلوس في المقاهي، و مخاطر عنف الشارع. و إن هم ظلوا في البيت، يتألمون لرؤية الوالد أو الوالدة يخرجون في الصباح الباكر ليشقوا اليوم كله، من أجل 2000 درهم نهاية الشهر، بدون تغطية صحية فعلية ولا تقاعد. بالله عليكم، ماذا يا ترى بإمكان هؤلاء الشباب أن يفكروا فيه وهم يستمعون إلى من يحكي عن أن “زمانه” كان “أفضل الأزمنة”، و ينصتون إليه و هو يروي حكاية “تقاعده” ؟ هل بالإمكان بناء تحليل منطقي ومنسجم، نحاجج به أولائك الشباب و نقنعهم بصدق كلام “الأمجاد الحكومية”، و نشرح لهم السياقات و المنجزات، في وقت لا يرون إلا البؤس ينبعث من حولهم؟ في اعتقادي، أن أقل رد فعل من أولائك الشباب الذين يتقاسمون وضعية تهميش حقيقي و هشاشة بلا أفق، هو أن يزيد يقينهم باستحالة أن يكون للمنطق “السليم” وللحكمة مكان بيننا يوما ما. والأخطر هو أن يكفر الشباب بكل شيء من حولهم، بالناس و بالوطن. ولعمري، هذا ما يجب أن يحز في النفس، ويؤلم أشد الإيلام كل قلب وطني غيور يحمل قيما إنسانية تتفاعل مع فقر الناس و مع عوزهم، وتطمح لتنمية مدمجة وشاملة. بكل صدق، أتمنى أن يعي الجميع أن التحديات التي تواجهها بلادنا كبيرة و متنوعة، كما هي كبيرة فرص الإقلاع الاقتصادي والتميز السياسي والدبلوماسي للنموذج المغربي، على مستوى العالم، لو انخرطت كل الفعاليات، حقا و صدقا، في خارطة الطريق الاستراتيجية التي حملتها كل الخطب الملكية، والتي ما فتئت تدعو الجميع إلى الحكمة و الرصانة والتعبئة من أجل حماية مشروع كبير اسمه المغرب، والمساهمة في تقويته وإعلاء شأنه، بنفس وطني يعلي مقام المسؤولية و يلغي التهافت. وعلى هذا الأساس، يستحسن على الجميع أن يعووا أن طريق العودة إلى “أضواء الإعلام و السياسة”، لا تتم عبر الإكثار من “الحديث” و “الخرجات” التي قد توحي بأن “العودة” متمحورة حول “الذات”، و حول ترطيب جراح “الأنا”. لكل هؤلاء أقول : لا تحتقروا ذكاء المغاربة، و لا تعتقدوا أنهم لن يستوعبوا أسباب حركية البعض وما يهدفون إليه. واحذروا، رحمكم الله، أن يشمئز منكم الناس، و يقللوا عليكم العفة و يكفوا عن توقيركم كما تستحقون. و هو والله ما لا يرضاه العقلاء لأي مواطن مغربي كيفما كان، فكيف يمكن قبوله على كبرائنا و “زعمائنا” مهما اختلفنا معهم، و مهما كان تضييقهم قد طال شبابا و كفاءات عديدة بغير وجه حق؟ أملي أن يدرك من يحملون وطنية حقة و حرصا على الصالح العام، أن خرجاتهم المسترسلة في الزمن و في اللامعنى، تقتل ما بقي من أمل لدى المواطنين، وخاصة الشباب، وتشجع على مزيد من القنوط من كل شيء، و تعزز النفور من “وطن” يراد لشبابه أن يقبلوا أمرين أحلاهما مر: إما “الصمت و الفراغ” و غياب سياسات عمومية تنمي البلد،؛أو صخب “الكلام” الذي لا يبني المستقبل و لا يراعي مصالح الناس. لذلك، أتمنى أن لا يساهم من يحسبهم الناس “حكماء”، في أن تختلط في الأذهان دلالات “الوطن”، وينقص في الوجدان وهج الانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية. فعوض أن يتم ملأ الفراغ بأي “حديث”، من الأجدى أن يوجه “البعض” ما تراكم لديهم من “تجربة”، و “علم بواقع المشاكل و صعوبات التدبير”، و “إكراهات المحيط الجيوسياسي والجيواستراتيجي”، و المساهمة من منطلق ما نضج لديهم من “حكمة”، في كل ما من شأنه تخفيف آلام ضعفائنا ومهمشينا، و ما من شأنه أن “يسهل” فتح الأوراش المُدمجة للشباب، و إطلاق مصالحات جادة مع كل الفئات المجتمعية ومع المهنيين الذين تعرضوا للتضييق والتعنيف المادي والمعنوي. تلك سبيل الحكمة والرصانة، وذلك شرط استمرار الأمل قائما في الوطن أولا، وفي المستقبل، ثانيا. لي اليقين أن اللحظة التاريخية الوطنية استثنائية بكل المقاييس، مما يفرض علينا أن نحيي الثقة في الذات، الفردية و الجماعية، و الثقة في الآخر، والتركيز بتجرد و بنفس وطني صادق، بدون انتهازية مقيتة، وبدون خوف من تحميل المسؤولية أو خشية استثمار أخطاء “الآخر” لتصفية حسابات سياسية. الأهم الآن، و الأكثر استعجالية في اعتقادي، هو أن نعمل على تجنيب الوطن تبعات التيئيس في واقع شبابي متردي، وذلك من خلال رزمة إجراءات لوقف نزيف العجز الإجتماعي، لعل أهمها في نظري: – إطلاق دينامية تأهيل شامل لآليات تدبير الشأن العام، على قاعدة الكفاءة والاستحقاق، وتملك حقيقي للقدرات التدبيرية؛ – تطوير هندسة الفعل العمومي لجعله مواكبا لانتظارات الناس؛ – تعزيز مشاركة المواطنين، و رفع الصعوبات التي تمنع تطوير فعل المجتمع المدني الجاد والمسؤول، – إحياء الوعي بقيم الحرية والديمقراطية والحق في الاختلاف، و حتمية التنوع والتعدد. – اعتماد سياسة إعلامية تجسد مقومات الهوية الوطنية كما تم الاتفاق عليها في الوثيقة الدستورية، حفظا للذاكرة الجماعية و تقوية للارتباط بتامغربيت الحقة. – تشجيع المبادرات الإنمائية والاستثمارية. – تعزيز المسؤولية الاجتماعية لكل المؤسسات، و إلزام الإدارة والمؤسسات العمومية على جعل المواطن المغربي قطب الرحى في الفعل التدبيري. وفي انتظار أن يتحرك الضمير الجماعي للقائمين على تدبير الشأن العام، لنرى شيئا من هذه الإجراءات على الأرض، علينا أن نحرص على أن تبقي شعلة الأمل، لكي لا نسقط في ما يريده دعاة التسفيه و العدمية من دفع الناس إلى ظلم الوطن ولعنه بدون مشروعية ولا سبب. أقسم بالله أن الوطن هو أول ضحايا ضعف الكفاءة والفساد في تدبير الشأن العام، كما نحن المواطنين، ضحاياه المباشرين. و بالتالي، لا ذنب للوطن فيما يعتمده البعض من سياسات عمومية يكون من نتائجها المباشرة إشاعة اليأس. و لنتفق بصفة نهائية على أن الوطن مقدس و هو أبقى، و أنقى، وأعرق من أي حكومة و رئيسها. و أن ثوابت الوطن هي الحصن المنيع ضد دعاة العدمية والتيئييس. و أن الحكمة هي في المسارعة إلى تجديد الثقة، و وضع مرتكزات جديدة لتعزيز السلوك المدني المتحضر، وبناء مستقبل مشرق بشراكة مع كل أبناء الوطن، على قاعدة تمجيد أصالتنا المغربية بكل روافدها، و فتح الباب أما نهضة شاملة نتدافع بها من أجل أن يكون مشروع “المغرب” تنافسيا و منفتحا على العصر و تحدياته العلمية والفكرية والثقافية. * فاعل سياسي ومتخصص في الحكامة الترابية