اعتدنا على الترديد الرتيب والمكرور للقول: إن الشباب قوة تغيير في المجتمع وطاقة بناء لصوغ المستقبل. لكن ثمة من منتجي هذه المقولة والمروجين بسخاء لها من يبالغ-حد السذاجة غير العاقلة- في الرهان على مشاركة الشباب في الحياة السياسية والمؤسساتية منها على وجه الخصوص، وثمة من يغالي-حد الهوس والتشكيك- في الحذر من تلك المشاركة السياسية بقوتها الفاعلة ومضامينها النقدية التي تحفظ للنضال ألقه ووثاقته. الأفكار الجاهزة الحادة والقصية غير النقدية، تكون دائما عرضة للخطأ ومظنة لتكريس الأوهام وتزييف الوعي بالدور والوظيفة. مفهوم الشباب أصلا متحرك ديناميكي غير ساكن ولا متساكن مع المواقف الرتيبة والحركات الساكنة والخطابات الممجوجة. فئات الشباب العمرية متعددة ومواقعهم الاجتماعية مختلفة وخياراتهم الفكرية والسياسية متعددة، وانتماءاتهم الاجتماعية والفئوية متنوعة. فنحن غالباً ما نخلط بين قصد الشباب في الحركات الاجتماعية ذات النمط الاحتجاجي والمنظمات الطلابية المكافحة من أجل التغيير المناضلة من أجل إقرار الحريات والدفاع عن المطالب الديمقراطية العادلة، وبين الحركات الشبابية المبادرة التي تتجاوز تلك المرحلة-الموسومة بالعبور والتجاوز- إلى الانخراط في هيآت المجتمع المدني الطوعي والسياسي الأوسع، والمندرجة على وجه التخصيص في الكيانات الحزبية والتنظيمات السياسية الملتزمة بقضية الإصلاح السياسي والديمقراطي. لكن بالرغم من ذلك، يبقى الشباب قوة تغيير وحالة يقظة وعي ونباهة ضمير وتوثب إرادة وصحوة نقد وطاقة اقتراح وبذل صبور للمواقف بعيدا عن المواقع ونأيا عن ثورة التطلعات التي قد تتلبس بالعديد من الطامعين والطامحين، ببساطة لأن تلك القوة لها من التحرر الفكري والاستعداد النضالي والروح الواثقة في المستقبل، ما يجعلها أكثر الفئات الاجتماعية استجابة لنداء الضمير الحي ولروح الفكرة الناقدة، وتقبلا للأفكار الجديدة بلا مركبات نقص، ورفضا للجاهز من الخطوط السياسية الجامدة، وتقييما للترتيبات التقليدية المناهضة للتجديد والتبديل، ولا ننسى أنها تكون في مراحل النمو الأول والتشكل في فترة العمر الأولى بلا التزامات اجتماعية تذكر ولا قدرة لها على أن تصير منتجة تساهم في الدورة الاقتصادية، وهي غير محددة المصالح والمطامح في شبكة العلاقات الاجتماعية. وتعد هذه المرحلة-زمنيا واجتماعيا- الأقصر والأقدر على تشكيل القناعات والمقدمات والانحيازات والمواقف والملامح والانتماء إلى عالم الأفكار الكبرى والميولات الحياتية، لكن-إذا لم تتأطر بما يفيد الانبثاق في رحم الموقف النقدي في الحياة- تليها زمنيا مرحلة البحث عن الانخراط في الحياة العملية ومواجهة ضغوطها وشروطها واكراهاتها ومعطياتها، خصوصا إذا كان مسلسل التحصين الفكري والنضالي والمنهجي والمعرفي والتربوي والقيمي والسياسي ، محدودا وغير مستوف لشروط النضج والاكتمال حتى تتحقق شخصية الإنسان من الاستواء وبناء كيان مستقل الإرادة والموقف بعيدا عن روابط المصالح والمواقع والارتباطات النفعية والتحيزات المجالية والنفعية والسلطوية-ماديا ورمزيا-. بناء على كل ذلك فإن حجم الاستقلال النسبي في خيارات الشباب إزاء الاكراهات الظرفية من مطالب الحياة الخاصة منها والعامة تصير محسوبة وخاضعة لمقاييس الوجاهة الاجتماعية والجاه العمومي والريع السلطوي وربما الارتهان لسلطة الموقع وما يخلقه من مزاج وما يبصمه فيه من ملامح وميولات، شأنه في ذلك شأن كثير من المنتسبين لدائرة العمل العام من النخبة المنتجة للرموز إلى حد ما، حين تبدأ تتكون لهذه الفئات مصالح متباينة وارتباطات متضاربة، تجعل المساومة تشتغل بلا وعي وربما بوعي على تقدير كلفة الموقف على الموقع وأثر رصيد المصداقية على سلطة الوجاهة. من المؤسف-بالنظر لسلطان المصالح على المبادئ-أن تكون التحولات التي تحصل عند هؤلاء اللفيف من الشباب المعني هنا، غير منتظرة دراماتيكية وسريعة وغير مرتكزة على موقع اقتصادي حياتي واحد وربما تكون تلك التحولات السلبية مبنية على جملة من الأوهام التي يتكسبها الكثيرون من سلطة الموقع التنظيمي والسياسي والإداري والفئوي، سلطة تكسبوها بسهولة ويسر بلا استحقاق نضالي ولا رصيد كفاحي في الحياة ولا قدرة على الوعي بمدى أهميتها ولا متطلباتها لأنها جاءت بلا أدني بذل ولا رصيد كفاح. في تجربتنا المغربية المعاصرة –والحزبية منها على وجه الخصوص-خلال السنين السابقة تحول بعض من مناضلي الحركة الشبابية المشاركة وجزء من رموزها من موقع سياسي وتنظيمي إلى مواقع سياسية أخرى بفجائية وبلا أدنى تأهيل ولا ترتيب في العمق. واحد من أسباب أزمة قوى التغيير في البلاد، والتيار المشارك في قدح أسئلة الإصلاح السياسي في مقدمتها، أن الشباب المناهض للتقليد الفكري وللنزعات الاستبدادية سياسيا والمؤمن بقضية الإصلاح الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وبمسألة بسط الحريات وضرورة الكفاح من أجل التغيير مع بذل الثمن، هذا الشباب الطليعة الذي يعد طاقة وعي وتعيير وفعل في العمق، والذي ساهم في إحداث هزات فكرية ومراجعات سياسية ومطارحات تجديدية سواء في التنظيمات السياسية والحركية أو في الجمهور الأوسع، ذلك النمط من الشباب لم يندرج بالشكل الوافي في أسئلة المرحلة ولا متطلبات التغيير الديمقراطي ولم يوف بمستحقات المشاركة الفاعلة والناجعة في الإصلاح السياسي العام. بل الذي وقع بالضبط أن بعضهم انفلت من هذه الدينامية الانعزالية أو التهميشية الطاحنة –بمحض مكيافيلية سمجة- وفي لحظة غفلة وشرود من الزمن أعاد اندماجه التنظيمي واثت الفراغ واستثمر فيه، ورتب انخراطه في الحياة السياسية بصورة تبدو أحياناً غير متوقعة وغير مفهومة . غير صحيح بالمطلق أو غير دقيق أن هذه التحولات والتبدلات في الواقف تبعا للمواقع تعد ظاهرة تلتف بالحياة الحزبية المغربية على وجه الحصر رغم شفافية الصورة في بلدنا وسرعة التقلبات الفكرية لدى النخب والتحولات العميقة لدى الجيل الحالي في حياتنا الحزبية وتجربتنا السياسية . الجميع عليه أن يتذكر الآثار المدمرة التي خلفها تراكم الأزمات السياسية التي تعرض لها انتقالنا الديمقراطي والإعطاب التي تركتها الاحباطات التي طالت العملية السياسية برمتها منذ عقود من الانفتاح السياسي في البلد مرورا بإحباط محاولات إصلاح النظام السياسي من خلال الإسهام في إرساء حياة سياسية ومؤسساتية سليمة، وإفشال التناوب السياسي وتسييج الحياة العامة وتهشيم التجربة الحزبية وضرب استقلاليتها والهجوم على المؤسسات المستقلة للمجتمع من خلال العمل على إلحاقها بالمركز السلطوي المتنفذ ونسف سيادة التنظيمات على نفسها ومحاولات ارشاء نخبها وإنهاك قياداتها ومناضليها. كل ذلك خلف آثارا مدمرة على المشهد الحزبي والمدني والسياسي ووطن ثقافة سياسية تركز الريع وتوطن الاختراق الوصولي، مما بصم أجيالا بالقيم الانتهازية والمكيافيلية الشيء الذي جعل الطلب على السياسة المقرونة بالمبادئ والكفاح والمصداقية يخفت ويشح، لصالح نمط بديل يقرن العمل العام بالنزوع الشره نحو التربح ومراكمة المنافع الرمزية والوجاهية والتوق الخفيض والسريع للتسلق في أعلى المراتب الإدارية والتنظيمية والسياسية بلا مكنة ولا كلفة موقف ولا امتياز كفاح أو كدح نضال . لكن هناك نماذج أخرى عن التحولات التي حصلت هي مضيئة، لكنها محسوبة ومحدودة ومسيجة وينظر لها بريب وتوجس وحقارة واستصغار. أما في تجارب سياسية مماثلة كانت تناضل وتمارس العمل السياسي بالتزام ومبدئية للتمكين لخط الإصلاح الديمقراطي ونراها تتداعى رأي العين أمامنا وتنهار بألم-الإنهاك الذي فقر الاتحاد الاشتراكي وجعله ينفصل عن القوات الشعبية- فهناك نعاين الانكسار الأكبر والذي انطلق بدمج قطاعات من المعارضة التاريخية المؤسساتية في التدبير الحكومي وتسيير بعض من سلطة التنفيذ على اختلاف مواقعها وألوانها، ومنها العمومي والقطاعي الوطني والمحلي، إدماج نخبها القائدة لكن المتعبة في نسق المشروع السلطوي حتى صار تدميريا للذات والأداة والمشروع برمته منهكا للنخب والقادة والتنظيم والشبيبة والفئات والمثقفين وغيرهم إلا ما رحم الله ممن بقوا على العهد، عهد الكفاح بلا ثمن من أجل الديمقراطية والإصلاح . أنا على يقين أن تجربتنا لها سياقها السياسي والتنظيمي المميز ولها ظروفها الخاصة، غير أن عموم التيار الإصلاحي- بمرونته السياسية الواسعة داخل حركة الإصلاح الديمقراطي في البلد- وجملة من الشباب المنساق في ركاب الحركة السياسية المنظمة مؤسساتيا، إن عموم ذلك التيار بمكوناته قد دخل –بلا إعداد فكري ولا تهيب أخلاقي ولا قدرة وعي سياسية-في مسارات للتنازلات السياسية المستجيبة للضربات الظالمة للتجربة الإصلاحية في البلد، مسارات إما تسووية قصوى وإما ديناميات الاندراج لتعزيز منطق التوافق السياسي والتحالف الظرفي وما يتطلبه من خفوت في النقد السياسي والتأمل الحر في المسار، أو تدبير اكراهات السلطة وضغوطها الكثيفة التي فرضها منطق المبادرة الى قيادة دفة العمل التنفيذي من موقع الحكومة والسلطة في تجربة ائتلافية وبغاية إنجاح التجربة والتمكين لرسوخها السياسي التوافقي . وما تعنيه كل تلك المسارات من تخل عن روح النضال الديمقراطي أو طاقة التغيير العميقة التي فرضت ذات حراك مضى إقدام الدولة على الإصلاح الدستوري والانفتاح السياسي والتطوير المؤسساتي. وكان في بعض من بقاع عالمنا العربي الحزين ربيع الديمقراطية المتفجر بينابيع للمطالب العادلة والمستجيبة لمنطق الاحتجاج المدني والسلمي من أجل الإصلاح، هو نفسه تاريخ القطيعة بين انتفاضة الشباب والناس بعامة على القيم الاجتماعية المكرسة للجمود والرتابة وبين ضرورة البحث بذكاء واتساق عن مخارج سياسية وفاقية ومسالك إصلاحية تدرجية، لكن مع الإبقاء على روح النقد والفكر والموقف والتحليل والكفاح والصراع والصراحة والمبادرة والمثابرة والوثوق في الخطو والنضال. وفي بعض من عبر التاريخ في الكون الفسيح- في زمن ليس بالبعيد -أنتجت البشرية بعض المناهضات التغييرية والكفاحات الثورية رجات في عالم الأفكار هزت كثيرا من الأنماط الجاهزة والجامدة من النظريات والمقولات والأولويات والمفاهيم والأنساق، تم ذلك مع إيقاع كثيف من التحولات الكونية الرهيبة إلحاقا للنظريات في عالم السياسة وحشرا للقيم في دروب الكفاح والنضال، وقطعا لتجارب الإصلاح بالمعايير النمطية لرؤية التغيير، والإنهاء مع ظاهرة المحافظة السياسية التي نطالعها في الموقف السياسي لكثير من القادة الجدد ونقدا لاذعا لمنطق بعض الجماعات الخلاصية أو الكيانات المغامرة والعدمية. إن تلك الرجات والتحولات السياسية والانتفاضات الشعبية والاحتجاجات المزلزلة لأنظمة في السياسة والفكر والثقافة، أنتجت أجيالاً من الشباب أكثر انبهاراً بالمشروع الديمقراطي وبالقيم الإصلاحية وبالتجارب النهضوية الناجحة، أجيال غدت تقارن وتقارب وتنظر وتنتقد وتعترض بلا تردد وتقيم وتقدر المواقف والرؤى وتأخذ العبرة من الجاريات من الأمور، أجيال بالرغم من انغماس بعضها في القيم الاستهلاكية للمرحلة فهي تتوق وتتوثب لغد أفضل وتنحاز لبناء الحرية في وطنها والانتصار للديمقراطية في بلدها. في لحظات الهم الديمقراطي والغم الإصلاحي، وفي ما سبق أن أثث البيت السياسي المغربي، شهدنا في مراحل العراك من أجل بسط الحريات وبناء الديمقراطية مرحلة من العداء الشرس الواعي للسياسة والكره المبرمج والسلطوي للأحزاب الحقيقية النابعة من رحم الشعب، ولا زالت بعض من مراكز القوى السلطوية تحن لاستعاذة ذلك الزمن بمسحة جديدة وبحلة بديلة لكن بالمنطق والتوجس ذاته. في الثمانينيات وعبورا لبداية الألفية الثالثة مرورا بعقد التسعينيات، تكرس رفض الشباب -عموما والجامعي منه بخاصة -للاهتمام بالسياسية، نظرا لبعدها عن النبل، وجحودا في الروح الوطنية لاتصالها بالتسلط والاستبداد، وخفوتا في النزعة التغييرية لارتباطها بالعجز واليأس . غير أن الجيل المتقدم من أولئك الشباب تم احتواؤهم فكريا وسياسيا في المزاج النفسي والسياسي والقيمي للسلطة السياسية بمختلف أبعادها لما بعد الحراك الديمقراطي بغية نسف ذاكرة الصراع مع الاستبداد والرهان على النسيان، تم ذلك على نطاق واسع أي في إطار التسوية السياسية الصريحة والمعلنة مع الأمر الواقع. الغريب أن بعضا من قوى الإصلاح وبالضبط الأحزاب الحاملة لأمل التغيير الديمقراطي بالبلد –وضمنها العدالة والتنمية نفسه- إما شاركت في تدبير السلطة التنفيذية بهته الملامح مراعاة لانخفاض السقف الديمقراطي ومراعاة لطبيعة التوازنات السياسية التقليدية، وبعضها الآخر بدلت أدوارها وركبت منطق المعارضة السلطوية وانتظرت تلك المشاركة المؤسساتية من موقع التدبير التنفيذي للسلطة ولو عبر نسف الطريق الديمقراطي، وهددت بتقويض المسلسل الانتخابي بل وشككت في فعاليته ونجاعته. وهذا ما أسس –موضوعيا-لنمط جديد من الممارسة السياسية الانتهازية، نمط يتموضع في مواجهة أسئلة الإصلاح السياسي الحقيقية، وهو نقيض لدينامية الانتقال الديمقراطي في المرحلة، حاملاً معه الكثير من الأوهام والثقافة والإعلام والنخب والقادة، فتبدلت كل الأولويات لديهم وتبددت كل مشاريع التغيير والإصلاح العميق بحسبانه مطمحا حالما ويوتوبيا بعيدة المنال . فجأة انهارت بعض من الآمال المعلقة على تجربة ما الحراك الديمقراطي والانتفاض الشبابي سياسياً واقتصادياً وفي عالم المعاني والروح والمفاهيم. جاء هذا الانهيار في الحلم في سياق مناخ إقليمي ودولي جديد يعصف بمجمل التركيبات والترتيبات الإصلاحية المنبثقة عن ذلك الحراك -في مصر واليمن وليبيا وسوريا ووو- وتحجيما من قدرة التجارب الإصلاحية القائمة على الإلهام-المغرب وتونس-. بالأمس في هذه التجارب الإصلاحية خرج الشباب إلى الشوارع بمئات الآلاف، مطالبين بالإصلاح تائقين للتغيير، ولكنهم الآن انكتم عندهم صوت التغيير وانحسرت بعض من آمالهم داخل الأطر القائمة، حفاظا على جمودها وتحت إدارة القوى التقليدية القادرة بشراسة على حماية تقليديتها ومحافظتها والإبقاء على ذات التوازنات الصلبة داخلها. لن أخشى القول- ولو بتوجس وتردد -أننا لم نكن في لحظة بناء وهم كبير من احتمالات التغيير والانتقال إلى الديمقراطية، بل كنا إزاء تحول تاريخي له ما بعده بمقاييس الشعوب والتحولات التاريخية الكبرى. لكن ربما بعضنا كان مأخوذا بسطوة الأوهام على منطقه وفكره وموقفه، تلك الأوهام ذاتها التي كانت تؤطر الحراك الديمقراطي بين ضفاف البلد المطالب بأسئلة وشعارات الوحدة والحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة، تلك الشعارات والأسئلة التي انبعثت من رحم فترة الاستقلال الوطني لتنفجر مجددا في الساحات العامة. يقينا إن ما حرك الناس وقتها كان فعلاً حلم بناء الدولة القوية العادلة الديمقراطية المكرسة للاستقرار السياسي بالتطوير المؤسساتي، والكفيلة بتوطين مصالحة تاريخية بين الدولة والمجتمع حيث تصان الكرامة والعدالة ويؤسس القانون كمرجع للحق، لكن شروط ذلك لم تكن متوافرة-بالقدر الكافي- موضوعياً وذاتياً. لقد كان الجمهور من الناس البسطاء –وحتى من النخبة-برؤية وتقدير وحلم، لكن قوى التغيير ومعها النخبة كانت في اللعبة السياسية بتقدير وتقييم ومحدودية حلم أقل انخفاضا وانحباسا ومحافظة. أعدنا إنتاج الانقسامات الرتيبة في ساحتنا العامة وانزلقنا في الرهانات على قوى سلطوية ناعمة للحفاظ على التوازن السياسي المختل لصالح قوى المحافظة السياسية ضد منطق الإصلاح العميق للدولة والمجتمع . أدخلنا البعض في الحروب الصغرى للآخرين بإرادة حرة واعية، أي بإرادة النخب السياسية والثقافية وأصحاب القرار. للأسف لم يعد الشباب والجمهور المؤطر قادرا على أن يصنع حدثاً مستقلاً نافذا منقدا صريحا موجها للبوصلة، موذنا بانفلات غير منظم ولا منهجي لانتفاض احتجاجي غير مؤطر هو آت لا ريب فيه إذا تم إفشال صيغة الإصلاح التدريجي الهادئ الجارية الآن. قرارات شاردة مرتبكة وحرب مواقع عبثية واغتيالات معنوية وسياسية لقيادات وضربات تحت الحزام لرموز وطاقات ناقدة وقائدة تؤشر على اتجاه البوصلة الديمقراطية للبلد في المستقبل، وريع سياسي يقود العصبيات ويبرمجها ويغتال المستقبل ويئده بلا منبه جماعي ولا صحوة ضمير للشبيبة المغربية، تنبه على حجم الانهيار القادم، وتكون وفية لشعارات الحراك ولمنطق الشعب كل الشعب. شباب هذا الزمن الرديء هو شباب هذه الأزمة السياسية المفتوحة في الوطن، هم ضحيتها. الخشية على الشباب من استخدامه كأداة تحوير للمعركة من أجل الديمقراطية والإصلاح العميق، استعماله كأي وسيلة أخرى في اللعبة السياسية والمؤسساتية المستثمرة في محاصرة الأحلام وتلطيف الطموحات لتصير خفيضة عجلى، واقتياده إلى الزنزانات الانعزالية السياسية للطائفة التقنوية ذات التطلعات التنظيمية والوجاهية، الخشية كل الخشية من الادمان على حشره في الانتصار للروح الزعامية بدون استحقاق ولا رؤية ولا انحياز لقيم الانتصار للمبدأ والقيمة في العمل العام، من دون أي اعتبار أخلاقي أو إنساني أو مرجعي. لقد أنتجت الطبقة السياسية الحالية والقائدة للمرحلة تسويتها بمنطق الانتصار لأطروحة الإصلاح في إطار الاستقرار، وحلولها الخاصة التوافقية لسلطتها لتدبير التحالف الحكومي وتجاوز مطبات المرحلة بخطاب نضالي يركز على التعاون لا التنازع والمغالبة. لكن المشكل أن يخرج الشباب من ميدان الفعل النضالي المكافح الصادح بالحقيقة كما هي ليستقيل من مهامه التاريخية. ما تريده عموم الطبقة السياسية المضادة-قوى المعارضة السلطوية المفككة- والممثلة للمصالح الاجتماعية القابضة على روح البلد الكامنة في التعبير العميق في الدولة، هو أن تعيد إنتاج جوهر السلطة الاستبدادية. فما تختلف حوله هو السلطة التنفيدية وميزانها برئاستها الحالية، وما تتفق عليه هو النسق التحكمي للسلطة وركائزه الإكراهية، هي تحن لاستعادة زمن السلطوية ثلاثية التركيب: الاستبداد والاستفراد والاستبلاد. لكن وجب الانتباه إلى أن إنتاج السلطة الديمقراطية المؤسساتية التي تتقوى بالفصل بين السلطات في إطار توازنها مع التكريس الديمقراطي لمنطق المسؤولية السياسية، كل ذلك يبدأ من داخل الأحزاب السياسية ويتعمق بالتمكين السياسي للتيارات الديمقراطية والمستقلة عن سلطة التحكم والاكراه، ويمتد بعدها إلى المجتمع وينتقل بالتبع إلى النظام المؤسساتي. إذا كان الشباب لا يعرف كيف ينتظم في حزب ديموقراطي أو يحاسب زعيمه أو ينتخب قيادته بشفافية واستحقاق أو يناقش بعمق ونضج برنامجه ويراقب مسلكياته، فلن يكون الأمر متاحاً في المدى السياسي الوطني العام، وما نشهده حاليا هو الغياب الطويل والعميق المؤذن بالخراب . نحن في بيئة سياسية فيها أحزاب سلطوية تعيد انتاج منطق السلطة السياسية في الاكراه والتحكم، أحزاب تقصي الفكر والحرية والديمقراطية والوطنية الجامعة والمصالح الاجتماعية المشروعة لصالح ولاءات القرابة والنفوذ والهيمنة والاصطفاف جهة الاستبداد والتحكم. إن البحث عن إنعاش قوة التغيير وممكنات الإصلاح تحتاج لأن نعرف المغاربة بدور المواطن الفرد الطبيعي وكيانه، معنى الإنسان ودوره، معنى الوطن ومرجعيته، والدولة ومؤسساتها، ومعنى الحق بالاختيار وحاكميته، انطلاقاً من المعرفة وفهم الأشياء في حقيقتها خارج التزييف بكل أشكاله. نحتاج إلى دور الشباب في تكريس معنى السياسة الحقيقية والنقد الجريء والفعل القاصد والعمل المبدع في الانجاز والتطوير في التجربة والنضج في بناء الموقف، والإصرار على المضي في طريق الصمود وبذل المواقف من أجل الاصلاح .