يُعتبر الوقت رأسمال مُهمّ ومفصلي في حياة الأفراد والمجتمعات، ونجاح أو فشل كل المشاريع والإستراتيجيات لدى كبريات الشركات و الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة في كل أرجاء العالم وعبر التاريخ يتوقف أساسا على طبيعة استثمار «الوقت » إيجابا أو سلبا. لهذا لا غرابة أن تجد في جل الدول المتقدمة مختصين وباحثين مُهمّتهم الأولى والرئيسية : تدبير ودراسة وتقييم الوقت في كل المجالات والقطاعات خصوصا الحيوية منها كالمال والأعمال، والاقتصاد والسياسة و بكل تأكيد أيضا التعليم والصحة باعتبارهما قطاعين اجتماعيين حيويين. وبنظرة سريعة على وضعية المنظومة الصحية ببلادنا تحت إشراف ومسؤولية وزارة الصحة وعلى طبيعة التفاعل والتعامل مع مؤشر «الوقت» يلاحظ أن أحد أهم أسباب الاختلال والضعف التي أدت إلى عدم تحقيق الأهداف المسطرة وبلوغ النتائج المرجوة هو ” الهدر الزمني” و التضييع المجاني غير المفهوم « للوقت » بل أكثر من ذلك غياب أي جهاز خارجي أو داخلي له سلطة المحاسبة القانونية أو الإدارية أو الأهلية الأخلاقية لمحاسبة ومراقبة المنظومة الصحية في شخص القائمين عليها ، على هذا التبذير الذي تجاوز كل الحدود المنطقية والذي لا يقل أهمية عن تبذير الموارد المالية والميزانيات المرصودة للاستثمار أو التسيير التي يُدَبر بها القطاع . وتوضيحا لحجم الخطورة ولتبسيط الفهم وتقريب الصورة أكثر للمهتمين من أجل التصحيح ، أجرَيْتُ دراسة مقارنة وقُمْتُ ببحث بسيط لم يكلف سوى رصد وتتبع وتقييم الغلاف الزمني لإسناد مهام المسؤولية بوزارة الصحة مركزيا وجهويا وبالأقاليم خلال السنتين الأخيرتين ، بدءا بتحديد الخصاص في المناصب واعتمادا على تاريخ الإعلانات وتاريخ المقابلات و تاريخ النتائج إضافة أيضا إلى تاريخ استلام المهام . النتيجة للأسف كانت جد سلبية ومُؤثرة ترابطيا بمردودية المنظومة ككل و نعطي أمثلة على ذلك : 1- فقد كلف ملف تعيين المدراء المركزيين بوزارة الصحة مؤخرا وقتا طويلا ، الشيء الذي أوقف خلال سنتي 2017 و 2018 ما يقارب 68 % من المشاريع المبرمجة وأخّرَ 54% من الأشغال التي كانت في طور الانجاز و رهن قرارات إدارية مهمة وجعل بعض المديريات تعيش فراغا وانتظارا كبيرين هذا دون ذكر المخلفات المباشرة في تغيير الأطقم والأطر التي يختارها كل مدير جديد حسب قناعاته وأسلوبه الإداري أو حسب أمور أخرى، إضافة إلى ما يتبع ذلك من ضياع أو بعثرة للملفات والمعطيات وفي أحسن الأحوال انتظار وقت ليس بالقصير للاستئناس والتأقلم مع المهام والمسؤوليات الجديدة مقابل خسارة الخبرة والتجربة في بعض الحالات والتأثير السلبي على الاستمرارية في تدبير الملفات ومعالجتها. 2- أما تعيين المدراء الجهويين فقد أهدر وقتا ليس باليسير الشيء الذي جعل 87% من الجهات مقيدة بانتظار النتائج و بالتالي توقيف وتعثر القرار الإداري بالجهات بنسب مختلفة حيث تضرر التسيير وتعثر التدبير بشكل ملحوظ ، وجعل غالبية المدراء الجهويين وقتها كالواقفين بين منزلتين في وضعية المُعلقة مما صعب عليهم اتخاذ العديد من القرارات سواء في تسيير الموارد البشرية وما يحمله من متاعب ومشقة أو في تدبير العلاقات مع الشركاء في المصالح الخارجية الأخرى أو في تنزيل البرامج والمخططات الوزارية والحكومية إلى غير ذلك من المهام الموكولة إليهم دون الحديث عن فرص للابتكار أو التحديث أو التخطيط أو التنظيم الجهوي الذي يحتاج إلى التفكير والإبداع في ظل استقرار المسؤول نفسيا واجتماعيا واطمئنانه على مستقبله الإداري. 3- وما قلناه عن المدراء الجهويين ونظرائهم المركزيين لا يختلف كثيرا عن ملف تعيين مندوبي الصحة الذي لازال لحد الساعة رهين قرار السيد الوزير وكأن آخر ما يجب الحسم فيه هو ملف تنصيب وتعيين المناديب مما يجعل أكثر من 76 إقليم دون بوصلة ودون جرأة أو قدرة على الحسم في القرارات أو اتخاذ ما يلزم من الإجراءات المطلوبة . 4- كارثة هدر الوقت أيضا لم تقف هنا بل لازالت جولات و جولات ستأخذ من وقت المنظومة ومن عمر التدبير الوزاري حصة أخرى و هي تعيينات مناديب جدد ومدراء المستشفيات ورؤساء شبكات المؤسسات الصحية ومتصرفي الأقاليم والجهات والمؤسسات لهذا يتضح أن « معضلة تدبير الوقت » في ملف تعيين المسؤولين بوزارة الصحة والذي يعتبر نزيفا حادا في زمن الحكومة والوزارة ، سبب كاف وحده لجعل منظومتنا الصحة غير قادرة لحد الآن على مغادرة قسم الإنعاش والمعاناة ، مادام جل المسؤولين الذين يشكلون عقل وقلب الوزارة و رئة التسيير في حالة توقف وانتظار دائم يترقبون دوريات الترشيح أو إعلان النتائج علما أنهم أيضا يعانون في صمت من إكراهات عديدة أهمها الاستقرار العائلي والنفسي هذا مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تسليط الضوء على ما عاشته منظومتنا الصحية الوطنية تضييعا فوقيا للوقت بسبب “البلوكاج” الحكومي في وقت سابق نتيجة الأوضاع السياسية وما رافقها من تجاذبات أثرت تأثيرا بالغا على المنظومة الصحية بشكل كبير وما تلاها بعد ذلك بسبب إعفاء الوزير السابق الحسين الوردي والانتظار طويلا مرة أخرى إلى حين تنصيب السيد أنس الدكالي الذي بكل تأكيد لم يبق له إلا ما بقي للحكومة من وقت ، حيث من الصعب جدا تدارك ما تراكم على وزارته من ملفات و من قضايا ، إحداها لم يستطع لحد الآن استكمالها المتمثلة في اختيار وتعين وتنصيب المسؤولين بوزارته أيضا لم يتم تسليط الضوء على ما خلفته موجة التعيينات في مناصب المسؤولية مؤخرا بسبب التوجهات والانتماءات السياسية ، هذا الأمر الذي دفع دفعا العديد من المسؤولين السابقين والجدد وأُطر عديدة إلى الاجتهاد في البحث عن مظلات سياسية واستثمار أي علاقة أو قرابة تمكنهم من الحصول على قدم في خريطة المسؤولين الجدد ، حتى ذوي الكفاءة والخبرة منهم وجدوا أنفسهم مرغمين على دخول غمار البحث عن الدعم والمساندة من هنا وهناك خوفا من الإقصاء ، و هذا الاصطفاف والتموقع جعل أصحاب القرار في الوزارة يتأثرون بالضغوطات وبما يروج أو بما يُملى عليهم أحيانا وجعلهم يترددون كل مرة في الإعلان النهائي الشيء الذي استهلك وقتا إضافيا له كلفته الإنتاجية على مستوى الخدمات وتحقيق الأهداف. وكخلاصة أعتقد أن الوزارة لم تكن لتقع في هذا الوضع وفي هذه التداعيات السلبية لعملية اختيار المسؤولين وكان استثمارها للوقت سيكون مغايرا وإيجابيا ، لو أنها قامت بترسيم وترسيخ منهجية واضحة وثابتة في إسناد المسؤولية وفق برمجة محددة زمنيا (ابتداء من الترشيح إلى إعلان النتائج) ضمن قوانينها وتشريعاتها التنظيمية ولو أنها صادقت بصفة دائمة ومستمرة على معايير تضمن حكامة جيدة ترتكز على الكفاءة والخبرة دون إعطاء الفرصة لأي تأويل أو تدخل مادام هاجس الشفافية والنزاهة يحكمان العملية برمتها ومادام تجويد التسيير ونجاعة التدبير من أهداف المنظومة ككل. وفي الختام تبقى بعض الأسئلة مطروحة تبحث لنفسها عن جواب أهمها : هل تضييع و إهدار وقت وعمر المنظومة الصحية ببلادنا أمر مقصود أم نتيجة لغياب الاهتمام والوعي وإدراك قيمة الوقت ؟؟ أعتقد أنه لا أحد سيستفيد من جعل منظومتنا الصحية تدور في حلقات مفرغة كلما حاولت النهوض سقطت في نفق تبذير وتضييع أهم ما تملكه المنظومة وهو الوعاء الزمني لتنفيذ السياسات و هدره في قضايا تنظيمية مثل التعيينات في مناصب المسؤولية ، التي لم تعد تستهوي العديد من الأطر وتشجعهم بسبب التأثير على نفسيتهم واستقرارهم الإداري والعائلي الذي يغفل عنه أصحاب القرار بغض النظر عن ما يعانونه من كم هائل من المشاكل والإكراهات ومن ضغوطات داخلية وخارجية ستأتي الفرصة إن شاء الله مستقبلا للحديث عنها . الجكاني الحسين خريج المدرسة الوطنية للصحة العمومية باحث وإطار بوزارة الصحة .