المدخل تمهيد 1 – المعطيات السياسة 2 – المعطيات السوسيو اقتصادية 3 – المعطيات الفكرية. تمهيد : يتوقف فهم التوجه الصوفي المعتدل لمحمد الحراق، وتفسير بعض مواقفه السياسية المتأنيةوالاجتماعية الإصلاحية، وتعليل قوة الدرقاوية في عهده، على معرفة أهم معطيات العصر الذي عاش فيه سياسيا واجتماعيا وثقافيا وفكريا، سواء في المغرب عامة أم في تطوان خاصة. معطيات، وإن كانت تتميز بالتكامل والتفاعل الدائمين، سنعمد إلى مساءلة كل منها على حدة. 1- المعطيات السياسية: عهد المولى محمد بن عبد الله حينما تقلد سيدي محمد بن عبد الله (1) زمام الحكم 1757 م/ 1171 ه، وقد مضت أزيد من ثلاثين سنة عن استفحال أزمة العرش، وعن استبداد جيش البخاري بالسلطة وعن تحكمه ” في اختيار وخلع الملوك على غرار ما حدث من استبداد قادة الجيش التركي في الدولة العباسية بعد المعتصم ” (2)، التفت حوله كل الطوائف والقبائل من جراء وهن تلك السنين، و” لم يتخلف عن بيعته أحد من أهل المغرب ” (3). وهو الأمر الذي خفف من وطأة سياسة إقرار السلام التي أخذها على عاتقه في كل ربوع البلاد : يباشر الحروب بنفسه، ويخمد الفتن، وينشر الأمن بين الرعايا … وهكذا تقوى عضده بجيشه، فاهتم بقواده، وشجع الأبطال منهم، وأحيى به سنة الجهاد التي بدأها جده المولى إسماعيل: ففتح مدينة الجديدة التي كانت في قبضة البرتغاليين وطردهم منها، بل إنه لم يدع ثغرا من الثغور المغربية إلا حصنه، حتى كان عدد عساكر البحر في مجموع الثغور: ستة عشر ألفا وخمس مائة، وراتبهم ثلاثين أوقية لكل واحد في كل ثلاثة أشهرفلما كانت […] سنة مائتين وألف، أنعم السلطان رحمه الله على عساكر الثغور بتعجيل راتب خمس عشرة سنة بحساب مثقال للرأس في كل شهر. وهذا مال له بال فإنه يقارب ثلاثة ملايين ” (4) إضافة إلى هذا، احتسبت لسيدي محمد بن عبد الله في مدة ولايته تدابير إصلاحية، لعل أهمها : – إقامته في كل مرسى من المراسي المغربية بيت مال (5) يفتح كل ثلاثة أشهر ينال منه عسكر الثغور ما يساعدهم على القيام بواجب الحماية….. – حزمه وحسن تدبيره إبان الأزمة الاقتصادية التي أصابت المغرب أعوام التسعين ومائة وألف للهجرة، والتي وصفها ووصف مواقف السلطان إثرها محمد أكنسوس بقوله : ” وفي عام تسعين ومائة وألف، ارتفع المطر ووقع القحط واشتدت المجاعة في المغرب إلى عام ستة وتسعين ومائة وألف، فالستة الأعوام كلها مجاعة إلى أن أكل الناس الميتة والخنازير [……]، والسلطان يكابد المشاق العظام في ذلك ويصرف على جيشه الأموال الثقال الراتبة المتوالية إلى أن خلصوا من المجاعة، ورتب الخبز في كل مدينة يفرق على الضعفاء والمساكين في كل حومة، وأسلف القبائل الأموال الطائلة […] إلى أن يردوها في زمن خصب، ولما حصل الخصب وأرادوا ردها، قال: ما أعطيتها بنية الرد وإنما ذكرت الرد لئلا يستبد بها الأشياخ إذا سمعوا عدم الرد “. ويضيف أكنسوس معددا أهم التدابير التي واجه بها محمد بن عبد الله هذه الأزمة قائلا : ” وأسقط عن جميع القبائل الوظائف والمغارم في هذه السنين الست حتى برئ الناس وتمولوا، وكان رحمه الله في سنين المجاعة يعطي الأموال للتجار لجلب الأقوات من الأقطار لبلاد المغرب، ويأمرهم ببيعه بثمنه الذي اشتري به رفقا بالمسلمين ” (6) على إثر هذه التدابير وغيرها مما لم نذكره كثير، تمتع المغرب في ظل ولاية هذا السلطان التي امتدت من سنة 1139 ه إلى سنة 1171 بهدوء نسبي برا (7)، وتحصن ذي بال بحرا، مقابل عصر الاضطراب السالف الذي دام أزيد من ثلاثين سنة. عهد المولى سليمان ما إن توفي المولى محمد بن عبد الله (8)، حتى طفت أزمة عرش جديدة على سطح الأحداث، ترتبت عنها انعكاسات سلبية على الحياة السياسية بالمغرب، فقد بويع يزيد (9) بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي، بعد وفاة والده سنة أربع ومائتين وألف للهجرة. فما كاد يستقر حتى فكر في محاصرة سبتة التي عدل أسلافه عن تحريرها، ولكنه فوجئ باستقلال أخيه هشام بالحوز، فنهض لحربه سنة ست ومائتين وألف للهجرة فلقي حتفه في السنة نفسها بمراكش، فكان ذلك سببا في قيام أميرين آخرين من أبناء محمد بن عبد الله هما : مسلمة الذي كان خليفة لأخيه يزيد ببلاد الهبط والجبل فدعا لنفسه لما أنهي إليه خبر مقتل شقيقه المولى سليمان الذي بويع بفاس، فهزم أخاه مسلمة وطرده لناحية سجلماسة، فلما تمت له البيعة بالمغرب، جهز الجيوش لإخماد ثورة محمد بن عبد السلام الخمسي، الذي ثار سنة ثمان ومائتين وألف بالأخماس من جبال غمارة بشمال المغرب. ثم توجه السلطان نفسه إلى أنفا لتأديب ابن عمه عبد الملك (10) الذي بايعته الشاوية فأدبه وأبطل العمل بمرسى أنفا، ونقل من كان بها من تجار النصارى إلى الرباط وفي سنة تسع ومائتين وألف للهجرة، بايع الرحامنة بمراكش أميرا ثالثا هو حسين بن محمد بن عبد الله بعد اتهامهم أخاه هشاما بقتل أحد قوادهم فتسلل ناجيا بنفسه إلى آسفي. وما لبث الرحامنة أن اختلف قوادهم سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، فانضمت جماعة من أعيانهم للمولى سليمان الذي كان بدكالة، فزحف منها إلى مراكش، فلما شارفها فر عنها سلطانها حسين، فأرسل المولى سليمان إلى أخيه هشام من أمنه بآسفي فوفد عليه إلى مراكش، وبذلك خمدت فتنة الأمراء وأصبح المغرب كله تحت لواء سلطان واحد هو المولى سليمان (11)، فكيف يا ترى كانت ولايته ؟ نستطيع أن نقرر ومن خلال جملة من المصادر المؤرخة لعهده، بأن ولايته لم تكن كسالفتها التي كان عليها والده محمد بن عبد الله، سواء من حيث التدابير المتخذة، أم من حيث الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي لم تكن سانحة لإقرار السلام. وهكذا فقد عمل الملك الجديد-علاوة على وطأة الظروف المتردية التي طالعته بسحابتها- على إبطال سنة الجهاد التي كان قد أحياها المولى محمد بن عبد الله، فترك شؤون البحر بعدما اضطر تحت الضغط الماكر لأروبا حل الأسطول المغربي العتيد (12)، واتجه قصدا للأحوال الداخلية عما عداها، فأسقط ما كان موظفا أيام والده على أبواب المدن والأسواق من مكوس كانت قد شملت جميع أنواع الغلل والجلد وعشبة الدخان. وبذلك يكون المولى سليمان قد أسقط خمسمائة ألف مثقال، كان والده يصرف منها على تجهيز الجيش بكل ما يحتاج إليه من مؤونة وسلاح وكسوة، وينفق ما تبقى منها على دوره السلطانية وعلى الأشراف […] وتبقى أموال المراسي وأعشار القبائل في بيت المال (13). وبالإضافة إلى ذلك احتسبت على السلطان سليمان موافقته على تصديرالحبوب إلى المسيحيين في وقت أتى القحط بكل قوته على البلاد (14). وهكذا، فالبموازنة بين ما كان عليه عهد محمد بن عبد الله وما آل إليه عهد ابنه المولى سليمان، يتضح لنا أن فتنة الأمراء – في مستهل القرن الثالث عشر الهجري –وإسقاط التدابير السالفة الذكر على إثر الظروف المتردية (15)، هذا فضلا عن إبطاله المواسم والتنديد بعبادة الأولياء…. (16)،قد نشأ عنها جميعا نشوب فتن داخلية متوالية، كان المولى سليمان أول من اصطلى بنيرانها بالرغم مما كان عليه من استقامة وتقشف،وكانت تلك الفتن تفتر حينا، وتشتد أحيانا، فحتم ذلك عليه مواجهة بعض القبائل الثائرة سعيا لتحقيق الأمن وطلبا لاستقرار الأحوال بالداخل، ومنعا لبعض القبائل من التعامل مع تجار النصارى، وخاصة أهل الريف الذين أفرطوا في وْسق الحبوب والمواشي إلى الخارج (17). فكانت أشد هذه الفتن، فتنتان كان لهما أثرهما السيئ على وضعية البلاد الداخلية هما : 1- فتنة برابرة فازاز والقبائل الموالية لهم، وقد انتهت هذه الفتنة بموقعة (ظيان) (18)التي تضامن فيها البرابرة، فهزموا المولى سليمان وكسروا شوكة جيشه، فاجتمع على المغرب في سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف الفتنة والوباء معا. فكان من النتائج السلبية لهذه الموقعة، قيام أهل فاس على عاملهم، ثم نهب البرابرة لأموال المولى سليمان وهو في طريقه من مكناسة إلى فاس سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف، وفي السنة نفسها عبث الودايا بفاس الجديد، ونهبوا حارة اليهود فتوالت الفتن، وانتشرت عدواها بين القبائل في باقي بلاد المغرب، إلى أن خرج أهل فاس على طاعة المولى سليمان، وبايعوا ابن أخيه إبراهيم بن يزيد سنة ست وثلاثين ومائتين وألف. في خضم هذه الظروف، تجدر الإشارة إلى أن شيخنا الحراق الذي كان يومها رئيس الطائفة الدرقاوية بعد ابن عجيبة، قد تمكن من التملص من البيعة السالفة الذكر، وكذا التملص من بيعة السعيد بن يزيد (19) ” فلم يندفع وراء هذه الحركة الفتية رغم أن مولاي العربي الدرقاوي كان أحد المناصرين لها (20)، بل ورغم ما تضمنه نص بيعة ابني اليزيد من اتهامات ضد سياسة السلطان سليمان، وبالرغم أيضا مما يشاع عن السلطان سليمان من معارضته وانتقاده المتواصل لبعض الطرقيين وأنصاف المتصوفة، وبالرغم من مواتة الفرصة بتطوان للانتقام من هذا السلطان” (21).فكان من الطبيعي بعد عودة الحياة السياسية بالمغرب إلى مجراها الطبيعي تحت ظلال مولى سليمان، وانتهاء ” حركة أبناء اليزيد “،أن تكبر نفس هذا السلطان عن عدم الاكتراث بمن ساندوه في محنته وأولهم الحراق، فينظر بعين الود إلى الطريقة الدرقاوية بتطوان، رغم ” أن زعيمها الروحي- الشيخ الدرقاوي- مدان من طرفه” (22)، ثم يقدم لها الدعم المادي والمعنوي الذي كان يوجه سالفا إلى الريسونيين (23)، قبل أن يتورطوا في الفتنة السلطانية السالفة، ويؤيدوا حركة إبراهيم بن اليزيد (24). هكذا، وعلى إثر ميل ميزان القوى لصالح الدرقاوية، لم يعد الشيخ الحراق يخشى على طريقته من عامل المدينة ولا من الفقهاء ولا من الريسونيين، سيما وجل معارضيه كانوا ممن شقوا عصا الطاعة على السلطان بتأييدهم لحركة أبناء اليزيد الفاشلة. كانت هذه إذن رواسب الفتنة الأولى، أما الفتنة الثانية التي أتت على ما تبقى من عضد المولى سليمان فكانت هي : 2- فتنة الشراردة بناحية مراكش:لما عاد المولى سليمان إلى مراكش التي كان قد قصدها في الفتنة السالفة، مستخلفا على فاس ابن أخيه عبد الرحمان بن هشام (25)،وكأنه – في آخر حياته – قد أصبح على مواعد مع الفتن والهزائم، مني بهزيمة ثانية لا تقل نتائجها السيئة خطورة عن هزيمة (ظيان)، تلك موقعة زاوية الشرادي التي كانت سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف، والتي انهزم فيها كل من كان معه، فانحاز إلى الشراردة الذين صحبوه – بعد ثلاثة أيام مكثها بزاويتهم– إلى مراكش، وبها توفي بعد أن عهد بالبيعة لعبد الرحمان بن هشام سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف للهجرة (26). عهد المولى عبد الرحمان بويع عبد الرحمان بن هشام بفاس (27) سنة 1238 ه/ 1822م، فتحمست جل القبائل وكذا جيش الودايا وسائر فرق الجيش النظامي لبيعته …… تحمس، وإن لم يكن عاما (28) حسب ما تواتر عن المصادر المؤرخة للفترة، لم يحل دون توحد الصفوف تحت لواء العاهل الجديد، هذا الذي عقد عزمه على إنقاذ دولة ألفاها كما يقول أكنسوس: “قد ترادفت عليها الهزاهز، وصارت بعد حسن الشبيبة إلى قبح العجائز، قد تفانت رجالها، وضاق مجالها، وذلك من وقعة (ظيان) إلى موت المولى سليمان” (29) قلت، عقد عزمه على إنقاذها، فكان على إثر هذا العزم يواجه المواقف بما يلائمها : – فكان مرنا لينا، وهو حاله مثلا مع “غمارة” التي كان مدركا لأهمية وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية، حتى إنه كان يوكل ولايتها أحيانا لأشخاص يرشحهم سكانها (30). – وكان حازما صارما، وهو حاله – مثلا لا حصرا– مع قبيلة الأخماس التي فرض عليها أداء ذعائر قيمة كعقاب وتعويض عن اعتدائها على جيرانها بالنهب وأعمال العنف سنة 1840 (31). أما بخصوص تطوان التي لما يزل بها شيخنا الحراق على دأبه في التوجيه الصوفي (32)، وفي اجتلاب الأتباع مدعوما من طرف السلطان، ومسنودا من عامله على المدينة ومن العامة والأعيان، فقد عمد السلطان عبد الرحمان إلى استئصال ” شوكة ” الثورة منها، وذلك من خلال قائدها الجديد ” محمد أشعاش ” لقد كان هذا القائد عموما بمثابة يد السلطان الباطشة في المدينة المذكورة : يظهر الغلظة مع المعفو عنهم سابقا من طرف السلطان سليمان، ويعدم متزعمي حركة انقلاب أبناء اليزيد، ويبعد الأعيان الذين لم ترقهم قيادته ويستولي على ممتلكاتهم… كل هذا وكثير غيره من الإجراءات (33) التي لم نذكرها، كان ” بإيعاز من السلطان نفسه، ليخمد بذلك شوكتهم ولا يفكروا بعد في مثل ما عملوه مع عمه السلطان ” (34). وهكذا، أصبح بوسع السلطان أن يحل على تطوان سنة 1243ه، “وقد توطدت العلاقة بينه وبين الزاوية الدرقاوية التي كان يرأسها الشيخ محمد الحراق، في حين فتر تأييد السلطان للزاوية الريسونية والأشراف الريسونيين ” (35). تلك إذن، أهم التدابير الداخلية التي سنها السلطان عبد الرحمان،أما عن التدابير الخارجية أو على الأصح سياسته الخارجية، فالجدير بالذكر أن السلطان الجديد، وعلى إثر دعمه للجزائر الشقيقة، وتدخله المسلح لنصرتها في محنتها مع الاستعمار الفرنسي، أدخل المغرب في مواجهة مباشرة مع فرنسا، أسفرت عن انهزامه في موقعة ” إيسلي ” سنة ستين ومائتين وألف، أي سنة واحدة قبل موت الشيخ الحراق من هنا وعلى إثر هذه الموقعة وموقعة ” تطوان ” التي تلتها سنة ستين وثمان مائة وألف للميلاد، تحفز الغرب الاستعماري أكثر من ذي قبل للوثوب على المغرب لاهتراء بنيته السياسية والاجتماعية، فغدا متربصا به الدوائر…. فكان على الملوك الذين تعاقبوا بعد السلطان عبد الرحمان أن يجابهوه ويجابهوا أطماعه اللامتناهية.