قرأت البارحة افتتاحية لكاتب عظيم، تحت عنوان: “إطلالة على فنجان 2018″، كان قد نشرها قبل دخول سنة 2018 بيوم واحد، وتوقع فيها حدوث مجموعة من التطورات على المستوى الوطني، كأن “يخرج معتقلو حراك الريف من زنازينهم، إما بفعل سياسة التهدئة ومحاولات نزع الفتيل من حراك أصبح يلهم آخرين، ويحرج الدولة في الداخل والخارج، أو بفعل الزوابع التي ستضرب القاع الاجتماعي المعبأ بكل المواد المتفجرة: البطالة، الفقر، التهميش، غياب المرافق الحيوية، وتغييب المحاورين الاجتماعيين أو السياسيين” بحسب تعبيره، لكنه لم يتوقع أبدا أن تفتح أبواب السجن -ليس ليخرج معتقلو الحراك- ولكن ليدخل كاتبنا الزنازين الباردة، ثم يغلق السجان “الكرية” وراءه بعنف، تاركا إياه وحيدا أمام ثلاثية السقف والحيطان والأرضية. لم يتوقع توفيق، وهو الصحفي الذي يتقن تطريز الكلمات وتحليل الأحداث ومناقشة السياسات، وبيع الجرائد قصد التثقيف وفقط، أن تكون تهمته الكبيرة هي “الاتجار في البشر”، وهو الذي ما قام بتصدير الفتيات للخليج، ولا ترأس شبكة للهجرة السرية نحو أوروبا. لم يتوقع أن يتحامل عليه كثير من زملائه في مهنة الصحافة، ليصفوه ب”المتاجر في البشر”، وينسجوا التأويلات، ويحوروا التصريحات و”الأحداث”، في “الصباح” و”النهار”، وفي كل وقت وحين، قصد “إعدامه” معنويا ورمزيا قبل حكم المحكمة. كما أظن أنه لم يكن يتوقع قط، أنه ولغرض مهاجمته واستفزازه والنيل من كرامته، سيتحرك محامو المدفوعات لتقديم الشكاوي، المغلفون بالسواد، داخل المحكمة -بحسب ما رواه دفاعه- بأريحية وبهلوانية مصطنعة، كمن يملك ضوءا أخضرا، أو كمن يعلم أنه محمي مادام يؤدي دوره المطلوب، حتى وإن تطاول وسب “الرب”، غير آبه بأخلاقيات المهنة. اليوم، لم يتبقى على نهاية سنة 2018 سوى القليل، بينما لا يزال توفيق بوعشرين صحفيا معتقلا احتياطيا، لأسباب بينت وتبين المعطيات والأحداث المتعاقبة هشاشتها. بوعشرين، قرأت له افتتاحية أخرى، تحت عنوان: “حكايات من زمن الاستبداد”، قال فيها إن “مشكلة الاستبداد مثل المخدرات، مع طول الاستعمال يقود إلى الإدمان، وتصبح الشعوب راضية به، بل ولا ترى لها وجودا ولا أمنا ولا راحة دون وجود مستبد فوق رؤوسها”. وأنا أقرأ، خلته يقول لي: “إني أعرفهم جميعا بالاسم.. أعرف جميع السفلة بالاسم.. جميع اللصوص بالاسم.. جميع الخونة بالاسم .. جميع الفاسدين وجميع من تورطوا في إهانتي ومحاولة كسري تدميري”. كنت أقرأ وأربط بين الأمس واليوم، بين حملات التضامن المخضبة بالخوف، وبين أخرى متحالفة مع الصورة و”المايكروفون” والإشهار المجاني فقط، وأقارن بين أمس كان فيه “الشعب” متضامنا صارخا، وبين حاضر نسي فيه “الشعبُ” السمكُ أن بحره.. بحره الشعري الذي كُتبت عليه آلاف الكلمات الموزونة والوازنة قد كُبلت أمواجه. وأنا أعيد قراءة مقالات توفيق القديمة، وجدت أنه كاتب عظيم. والكاتب العظيم هو ليس الذي يكتب بلغة عظيمة، لا.. لا.. بل هو الكاتب الشجاع الذي صنع له بجده وحبه لوطنه اسما، ثم صار يحاكم بالاسم، فتجده في كل مرة بنفس ذاك الاسم يكشفهم، ويعريهم، ولا يخاف من سجن ولا طعنة غدر أو تلفيق، ثم يقاوم – ويا للأسف- وحيدا بالاسم.