تمهيد: أصدر المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات تقريره البحثي السنوي المعنون ب “المغرب في سنة 2017”. والتقرير هو النسخة التاسعة في عقد سلسلة التقارير الرصدية التشخيصية التي يعدها عدد من الباحثين الأكاديميين والخبراء المهنيين في إطار رصدهم وتتبعهم وتقويمهم للسياسات العمومية في مجالات تدبير الشأن العام بالمغرب. السياقات: سياقات أربعة مهمة تحكم هذا التقرير: 1. في المستوى السياسي العام: يحضر الاعتراف الرسمي بفشل النموذج التنموي المغربي، والازدياد المطرد لحجم الانتقادات الموجهة من طرف الخطاب الرسمي ومؤسساته الاستشارية إلى الأداء الحكومي في تنصل بيِّن من ربط المسؤولية بالمحاسبة وحصر دائرة اللائمة المتتالية على المنفذين للسياسات التعليمات مع “فرنمة”(كبح) قوية خفية وعلنية عبر تقنيات “البلوكاج” حتى لهذه الدائرة الضيقة المسموح فيها بالحركة للمؤسسات التدبيرية. 2. في المستوى الاقتصادي: يحضر سياق ترسيخ بنيوية أزمات الوضعية الاقتصادية التي تعرف ضغطا قويا لحجم المديونية العمومية، وتفاقما مستمرا للبطالة، وزيادة تصاعدية في ضرب القدرة الشرائية للمواطن المغربي وتأثير كل ذلك على نمو الدورة الاقتصادية وجودة الخدمات المقدمة. 3. السياق الاجتماعي أيضا: ألقى بظلاله في إنجاز هذا العمل، خاصة أمام انفجار الوضع الاجتماعي في شكل احتجاجات شعبية متنامية في مناطق متعددة من البلاد، وهي الاحتجاجات التي وضعت المشاريع التنموية المحلية في مهب ريح سوء تدبير السياسات العمومية المتعاقبة التي لم تقدر بعد أكثر من ستين عاما على الاستقلال على ضمان خدمات الحد الأدنى من الحاجيات الأساسية للمواطنين. 4.إعلاميا: ستتعاظم قوة وفاعلية مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي في الرصد والحشد والتأثير في ظل تراجع قوي لفاعلية مؤسسات الوساطة الاجتماعية المتنوعة. مجالات الدراسات: ستغطي الدراسات المنجزة في إطار هذا التقرير مجالين كبيرين؛ في المجال السياسي والدستوري سيتم الوقوف عند تباين الأداء بين الملكية و بين باقي السلط العامة، وستخصص دارسة لرصد وتقييم السلوك السياسي للدولة المغربية في ظل تنامي قبضة المقاربة الأمنية في مقاربة الاحتجاجات الاجتماعية، كما سيتم البحث في السياسة الخارجية المغربية خلال سنة 2017 بين استمرار أعطاب الماضي و تنامي إكراهات الحاضر، ولم يفت التقرير أن يتناول الحصيلة العامة لحقوق الإنسان بالمغرب مع تخصيص بحث لقضية محاربة العنف ضد النساء بين الواقع والقانون. أما المجال الثاني فاهتم بمقاربة قضايا الشأن الاقتصادي والاجتماعي في المغرب؛ اقتصاديا من خلال البحث في استثمارات المغرب بإفريقيا وآثارها على الاقتصاد الوطني، وكذا عبر مدارسة تجربة إطلاق البنوك التشاركية وإشكالات التمويلات البديلة. واجتماعيا عبر البحث في التهديدات والتحديات التي تواجه القطاع الفلاحي ومستجدات الأمن الغذائي في ظل التغيرات البيئية والمناخية، وكذا في المشاكل العامة التي تواجه قطاع الصحة في الجانب المرتبط بإدارة الموارد البشرية وبظروف اشتغالها، وتم التطرق لواقع المنظومة التعليمية في المغرب على مستوى المعطيات الإحصائية وإشكالات التوجيه ومعضلات الجانب القيمي المتردي يوما بعد يوم. وكان الختم بدراسة رصدية للمشهد الثقافي بين إشكالات السياسة وإنجازات التدبير. المستوى المنهجي: سيجد القارئ اتكاء على رؤية منهجية تقوم على الأسس الثلاثة التالية: تجاوز التتبع الجزئي لوقائع وتفاصيل وأحداث السنة المرجعية، والاعتماد عوض ذلك على مركزة قضية معينة تكون قد بصمت السنة مما يجعل التقرير يتجاوز منهج “الحوليات” التاريخية إلى مقاربة انتقائية بناء على رؤية واضحة؛ الجمع في هذا الرصد بين استجماع معظم أهم تمفصلات القضية المعروضة للدرس والبحث، وبين التحليل النسقي الذي يضع القضية في سياقاتها العامة، كل ذلك باعتماد مقاربة كمية تقف عند المتوفر من المعطيات الإحصائية الدالة؛ الاستناد المرجعي على مصادر مختلفة، تتوزع بين التقارير الرسمية والتقارير الدولية، والدراسات العلمية والبحوث الأكاديمية، من خلال إعمال منهجية مقارنة تسائل الخطاب المعلن والمنجز الواقع، مع التعامل الحذر مع المعطيات الرقمية الوطنية بالنظر إلى “شحها” و ” تناقضها”، ومع المعطيات الدولية أيضا لكونها محكومة بخلفيات معروفة. لقد كان هم هذه الدراسات أن تقدم معطيات بحثية رصدية تضع القارئ العادي، والمتابع المتأمل، والباحث الأكاديمي أمام تشخيص للمشهد العام المغربي في مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد يكون بوسع هؤلاء جميعا أن يتلمسوا في ثنايا التقرير بضعا مما قد يكون مداخل جوهرية للتغيير قائمة أساسا على ضرورة توافر الإرادة السياسية للتغيير، وأهمية المقاربة التنموية التشاركية على أرضية تراتبية الأولويات، وفعالية القطع مع منهجية الاستفراد في تدبير الشأن العام. الخلاصات: ستكون الخلاصات التي يمكن استنتاجها من مجموع الدراسات المنجزة مرتبة كما يلي: تثبيت محورية السلطة الملكية وسط النسق السياسي المغربي مقابل التواضع العام في حصيلة وفعالية أداء السلطات الأخرى لوظائفها الدستورية تشريعا وتنفيذا من دون الجرأة على تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة في مختلف درجات المسؤولية؛ الارتهان في سلوك الدولة المغربية في معالجة الاحتجاجات الاجتماعية إلى المقاربة الأمنية التي تغلب الهواجس الضبطية التحكمية بعيدا عن المقاربة التنموية الشاملة التي تنظر في علل الاحتجاجات، وهو ما يطرح أسئلة عميقة على الحكامة الأمنية وعلى مصداقية شعارات حقوق الإنسان؛ تظل السياسة الخارجية في ملفاتها التاريخية والآنية وفية لنهج تحكم المربع الملكي واستبعاد الشعب ومختلف قواه المدنية الحية، مع تورط في “استثمارات” مالية ضخمة في التوجه نحو إفريقيا كان من الأولى تعبئتها في الاقتصاد الوطني، هذا إلى جانب تسجيل خفوت بارز في الالتزام بقضية فلسطين لصالح تنام متصاعد لصالح التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ أظهرت الحصيلة العامة لحقوق الإنسان بالمغرب أن هناك حرصا شديدا على أن لا يتغير أي شيء في العقلية الأمنية الحاكمة، وأن أعطيات اليد اليمنى لدستور 2011 على علاتها تستولي عليها اليد اليسرى للسلطوية المتحكمة مما يرسم صورة قاتمة للوضع الحقوقي الماثل في التعامل مع الحراك السلمي الشعبي، وفي قمع ومحاصرة قوى المعارضة والممانعة من خارج قواعد اللعبة الرسمية، وفي ضمور حماية الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؛ إن العنف الممارس ضد النساء عنف مركب، ومظاهره متعددة، ومسؤولية الدولية عن تفاقمه قائمة، والمقاربة القانونية الأحادية الجانب غير كافية ولا مجدية، والحل في انتهاج مقاربة شمولية على قاعدة تنمية حقيقية متكاملة الأبعاد تعالج الأسباب العميقة للهشاشة والفقر والتهميش انطلاقا من إرادة سياسية مستقلة عن إملاءات الوصاية الدولية؛ رغم الوضعية الاقتصادية الصعبة التي تتميز بتقشف في النفقات، وتدن في الخدمات الاجتماعية، نجد أن الدولة لا تلقي بالا لتراتبية الأولويات الاقتصادية خاصة مع إقدامها على ضخ أموال كثيرة في “استثمارات” بإفريقيا في تغييب تام لمؤسسات التشريع، وتغييب أكبر لنقاش عمومي حول سلوك الإنفاق العام لدى الدولة المغربية، وإذا تم التوجه نحو إقرار نظام للصرف المرن قد طرح سجالا سياسيا واقتصاديا كبيرين فإن اعتماد المالية التشاركية قد فتح الباب أمام نقاش حول جدوى الرسالة التنموية للصيرفة الإسلامية في ظل الارتهان إلى صيغ محددة من المنتجات البديلة، وضعف التكوين العام في المحال، وتحديات التضريب، وإشكالات التأطير القانوني، وفعالية مؤسسات الرقابة؛ في المجال الفلاحي يواجه المغرب تهديدات جمة وتحديدات كثيرة قد تمس بالأمن الغذائي في ظل تزايد ” الإجهاد المائي” وندرة الموارد المائية، وتعاظم الاستغلال غير العقلاني للثروات البحرية وللملك الغابوي، وهو ما يسائل القدرة على الوفاء بالتزامات الأهداف الألفية للتنمية المستدامة؛ إذا كانت المنظومة الصحية تركز رسميا على تعزيز المشيرات ذات الصلة بالتنمية البشرية، فإن درجة التقدم في تحقيق الأهداف المرسومة غير مطمئن خاصة على مستويات الجودة في الخدمات المقدمة، خاصة بالنظر إلى تفاقم الأزمة البنيوية في المجال والتي تمس السياسة الصحية، وتدبير الموارد البشرية؛ في مجال التربية والتعليم تظهر المعطيات الإحصائية التي تقدمها التقارير الرسمية والدولية عن استمرار ضعف المردودية الداخلية والخارجية للمنظومة التربوية، وعن طفو ظواهر ماسة بالوظائف التربوية والقيمية والتثقيفية للمدرسة المغربية خاصة أمام تنامي العنف وتردي القيم مما يرسخ أزمة الثقة في المدرسة وتأبيد الانفصام النكد بين التربية والتعليم؛ يظل المشهد الثقافي محكوما بإكراهات غياب التصور الواضح للمشروع الثقافي الوطني، وشح الموارد المالية المرصودة وسوء تدبيرها على شحها وقلتها، مما ينعكس سلبا على الحصيلة الثقافية العامة في مجال التأطير القانوني، والبنيات المستقبلة، والعرض الثقافي العام، وشفافية الدعم المالي، كل هذا في أجواء التمكين اللامحدود للخيارات الفرنكفونية، والمس بقيم المجتمع المشتركة في الفضاء العام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية. وإن خلاصات كهذه لا تفضي إلا إلى تأكيد أن باحة الاحتباس العام التي يقف فيها قطار التنمية بالمغرب لا تقود إلا إلى محطات كبرى للانتظار في نفق مسدود ستؤدي الاستماتة في الاستمرار في اتباع النهج نفسه في مقاربة الشأن العام إلى الحائط الصادمة في نهاية النفق المسدود. خاتمة واستشراف: بوسع الباحث المتتبع الدارس لمجموع الوقائع العامة التي طبعت مغرب 2017 أن يظهر له جليا أن السلوك السياسي للدولة المغربية لم ينجح في التقاط إشارات التحولات القوية للسياقات الإقليمية والدولية وآثارهما على تحول ونمو وعي الرأي العام في المغرب نحو مزيد من الطلب على الحرية والعدالة والكرامة الاجتماعية، بل لم يستطع هذا السلوك أن يترجم على أرض الواقع ما يحاجج به عن مفهومه للاستثناء المغربي ويسند به مصداقية شعاراته بدليل استمرار النهج السياسي نفسه في هيمنة سلطة السلط ممثلة في الملك ومربعه مقابل حشر المؤسسات التشريعية والتنفيذية في دائرة المستعد للوم المتعدد ومقابل انحسار وانحصار وظائف المؤسسات الوسيطة في دائرة الحشد والتأييد. ومن دلائل ذلك أيضا العجز عن تجاوز العقلية الأمنية وتفعيل شعارات حقوق الإنسان وخطابات المشاريع التنموية التي يفترض أن تضع حدا وتجد حلا للمعضلة الاجتماعية والاقتصادية التي تحياها الطبقات المعدمة في البلاد. دون أن ننسى التراجعات العامة في المجال الحقوقي التي تكشف عن المعنى المختبئ وراء القناعة المبدئية بشعار حقوق الإنسان. في الجانب الاقتصادي تبرز السياسة الاقتصادية العامة للدولة استمرار استجابتها لوصاية الدولية للمؤسسات المانحة، وانتهاج سياسة استثمارية تهدر فيها أموال طائلة في مشاريع التوجه الأفريقي عوض تعبئة الأرصدة المليارية في الاقتصاد الوطني الهش في مختلف نواحيه. في الجانب الاجتماعي ورغم طموح خطاب البرامج والمبادرات تعددا وتنوعا لا تجد المشاريع المعتمدة صدى لها في مختلف المنجزات مع استمرار الظرفية الاقتصادية وتردي وضع جودة مختلف الخدمات العمومية وعلى رأسها معضلة التعليم وفقدان المدرسة لأبعادها القيمية التربوية. إن تقرير المغرب في سنة 2017 يعيد التأكيد أنه في ظل الاعتراف الرسمي بفشل ما عد نموذجا تنمويا مغربيا، و استمرار الدولة في اعتماد أولويات بالسياسات العمومية ليست بالضرورة هي أولويات التنمية الاجتماعية التي يطالب بها المجتمع، كما أن إصرار الدولة على انتهاج المقاربات الضبطية بمختلف أشكالها، كلها عوامل تكشف أن البلاد على مشارف موجات متجددة من الحراك الاجتماعي قد لا يتم التنبؤ بمآلاتها في حال عدم ظهور أي إشارات تدل على توفر الإرادة السياسية للقطع مع منهجية العقل الأمني في التعامل مع مطالب الشعب في ظرفية تتميز بصعوبة العيش الناجمة عن غياب التوزيع العادل للثروات واعتماد الإجراءات المتتالية الماسة بالقدرة المعيشية للمواطنين. ويبقى الطموح قويا أن تكون أرضية التقرير لهذه السنة مشجعة على فتح نقاش عام للتفكير الجماعي حول السبل الكفيلة للخروج بالبلاد من حالة التردد العام، والانحباس التام، والتأرجح المتناقض بين خطاب التبشير بالاستثناء التنموي وبين أسى الإقرار بالفشل على جميع الأصعدة.