تسمح الدراسات والتقارير التي صدرت مؤخرا عن بعض المؤسسات بخصوص تدين المغاربة بتأكيد النتائج التي سبق التوصل إليها في تقرير الحالة الدينية لسنة 2008/2007 الذي أصدره المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، فكل من تقرير غالوب لسنة ,2010 وتقرير جامعة ماريلاند وزغبي الذي صدر مؤخرا، وتقرير مؤسسة أنا ليند سنة ,2010 تؤكد أهمية الدين في الحياة اليومية للمغاربة، ومركزية موقع المرجعية الإسلامية ضمن الهوية الاجتماعية للمغاربة. هذه التقارير الثلاثة الجديدة، التي خلصت إلى هذه النتائج تجعلنا اليوم نتجاوز جهد التوصيف والرصد إلى محاولة التحليل لاسيما وأننا أمام نتائج بقدر ما تؤكد تزايد الإقبال على الشعائر الدينية لدى الشباب ولدى النساء خاصة، بقدر ما تؤكد تزايد نسب التوتر التي يعكسها عدم الانسجام بين تنامي الفعل التعبدي والتحديات التي يطرحها الجانب السلوكي ، وبقدر ما تؤكد أيضا تزايد التأكيد على مركزية الهوية الإسلامية ضمن الهوية الاجتماعية للمغاربة، بقدر ما تشير إلى استمرار الصراع على موقع هذه المرجعية في الحياة العامة، بين التيار المدافع عنها، وبين التيار العلماني في المغرب، في ظل تزايد على مستوى النزعة الاستهلاكية وقيم اللامبالاة، واحتداد جبهة الصرع على مستوى قضايا الهوية والقيم. إن المقاربة التفسيرية لهذا التوتر لا ينبغي أن تغفل ضمن اعتباراتها السياق التاريخي والحضاري للمغرب، فالدين شكل عاملا محوريا وحاسما في تشكيل الدولة المغربية، وفي صهر مكونات المجتمع المغربي ، وهو إلى اليوم لا يزال يؤدي هذا الدور التوحيدي، بالإضافة إلى كونه ظل يشكل الهوية الدينية والسياسية للدول التي حكمت المغرب، وقد تجسد ذلك في مسار تاريخي طويل عبر أنظمة التربية والتعليم، وظل تعليم الدين، وحضوره قويا في جميع السيرورات التي عرفها المغرب. لكن هذين البعدين في المقاربة التفسيرية، إن كانا كافيين لإثبات كون الدين يمثل بعدا أساسيا في الحياة اليومية للمغاربة ، وإثبات مركزية موقع المرجعية الإسلامية ضمن الهوية الاجتماعية للمغاربة، إلا أنهما بالتأكيد يعجزان عن تفسير الخلاصات الأخرى. والواقع أننا نحتاج ضمن المقاربة التفسيرية أن نضيف ثلاثة أبعاد أساسية: - البعد المؤسساتي: ويتعلق بقوة المؤسسات الدينية في المغرب واستقرارها ، إذ قامت، خاصة منها مؤسسة إمارة المؤمنين وما يندرج تحتها من وظائف كوظيفة المسجد ومهمة العلماء ، بدور مركزي ليس فقط في استمرار إعادة إنتاج الهوية الدينية للمغاربة، وإنتاج المعرفة الدينية، ولكن اضطلعت أيضا بأدوار اجتماعية مهمة مثل التحكيم والوساطة بين القبائل المتنازعة، وقامت بتوحيد المغرب من الناحية الدينية والسياسية والثقافية، دون أن نغفل الدور المركزي الذي كانت تقوم به الزوايا والذي تراجع بفعل عوامل متعددة ليس هذا مجال بسطها. - البعد الثاني عدم التناغم بين السياسات الدينية وبقية السياسات العمومية: فإذا كان من بعض ثمار السياسة الدينية بمفهومها الواسع تنامي الإقبال على التدين، وتأكيد موقع المرجعية الإسلامية، فإن المؤسسات الأخرى التي تضطلع بإنتاج بقية السياسات العمومية لا تسير في نفس الاتجاه، فالسياسات الثقافية والتربوية والفنية والسينمائية، والأدوار التي تقوم بها المؤسسات الاقتصادية، والاشتباك الذي يحصل بين السياسي والاقتصادي، والاقتصادي القيمي، والسياسي والقيمي، وما ينتج عن ذلك من آثار، يعطي إمكانية لتفسير جزء من التدافع الذي يحصل على مستوى الهوية الإسلامية بين أنصارها والمناهضين لموقعها في الحياة العامة، حيث يتجسد هذا الصراع على أكثر من واجهة (تربوية وثقافية وفنية وسينمائية ولغوية وسياسية). - البعد الثالث: المتعلق بجدل الداخل والخارج، في القضايا ذات الارتباط بالهوية والقيم، والتي تظهر بشكل قوي من خلال العديد من المؤشرات (التنصير، الحرية الدينية، الحريات الفردية...) هذه الأبعاد الثلاثة، بالإضافة إلى الجانبين اللذين ألمحنا إلى أهميتهما سابقا، تمتزج في تركيب متداخل لتقدم جزءا من تفسير حقيقة التوتر الذي يعيشه المغاربة، والذي يتجسد من جهة في تنامي الإقبال على التدين، ويتجسد في جهة مقابلة في تنامي التحديات التي تهدده، مما يجعل أولوية أي سياسة دينية ناجحة، أو رؤية دعوية واعدة، تتوجه بالأساس ليس فقط إلى تنمية الإقبال على التدين والحفاظ على استمراره في المجتمع، ولكن بدرجة أولى إلى ترشيد التدين، وتحويله من تدين تعبدي إلى تدين ينعكس على السلوك اليومي للمغاربة.