(تَخْلَاطْ الْورَاقْ) عبارة تقال في حق من استيقن من خسارته في لعبة الورق، فعمد إلى القاعة ( الأوراق المعروضة على طاولة اللعب ) يبعثرها ويخلطها حتى يربك تسلسل اللعب والنتائج المترتبة عنه، فينجو بفعله الأرعن ذاك من خسارة محققة . معذرة أولا على هذا الإطناب في شرح الواضح ، ومعذرة ثانيا على قياسٍ يحكي لعب الورق مع تفاهته بالشأن العام مع عِظَمِه وجلاله. زعيم حزب عتيد يهاجم ما ينعت بالدولة العميقة ، فيتحول بين عشية وضحاها إلى ضحية تنصب له المشانق ، وتجهز له الملفات ،لعلنا نجعل للناس عِجلا يصرفهم عن الحج إلى محراب الحرية و الانعتاق. يجري ذلك ولمَّا تجفَّ بعد دموع أولئك الذين سحقهم بجبروته ،كم لم تندمل بعد جروح من طعنهم من الخلف ،واسألوا أهل فاس إن كنتم لا تذكرون .أو ذَكِّروا أهل الشأن إن كانوا لا يتعظون .كل ما في الأمر أنهم يجربون وصفة لعلها تفيد في صرع العفريت الذي استولى على القلوب فجعلها تحب الصدق وتعشق ( المعقول). أو لعلها تساعد على استئصال ما تجدر في النفوس من تفاعل مع البساطة وإيثار للوضوح على الأفاعيل .هكذا سايروا الرجل وإن فضحهم، بل وصبوا على خرجاته من زيت بلاغاتهم لعلهم ينفخون في فقاعاته المنفجرة لا محالة ، فحبل الكذب قصير وإن طال . و(مُسْتَزْعِمٌ) لحزب ،استخف قوما فأهدوه رقابهم، واستغنوا بخرجاته عن ألسنتهم ليصير ناطقا باسمهم، نافذا في تجمعهم ،لا لشيء سوى أن هذا (الشمسون) ادعى واهما قدرته على معالجة المارد الذي خرج من قمقمه لا يرضى للكرامة بديلا. وانطلقت المؤتمرات الجهوية والإقليمية والشمالية والجنوبية ، تحشر الناس لأيام الزينة لعل الساحر يعالج ما ألم بالناس من مقت للكذب والكذبة، وما استحوذ على النفوس من كره واحتقار للشخصيات الكارتونية و باعة الأوهام .لكن الحق يقال :ما زادت هذه الرحلات المكوكية الفجائية الناس إلا يقينا بأن هذا وأمثاله هم من يقتلون الضحية ويبكون في جنازته. و(هر يحكي صولة الأسد )لمجرد أنه لبس خطأ أو صدفة جبة بوعبيد واليوسفي ،ظنا منه أن من تزيى بزي الرجال قد صار منهم ، فجاراه القوم في غيه و تماهى الصغير والكبير مع غروره ،وصوغوا له التسمي بألقاب ما استحقها والجلوس في مقام هو أول من يعلم أنه دونه .ظل يكذب ويفتري حتى صدق نفسه ، فصار يزمجر واهما أنه أسد ، يهلوس بالأممية تارة وبالشرعية المختلسة تارة أخرى ، لعله يستجمع بعضا من حطام بنيان كان بالأمس القريب ملاذا للمستضعفين لولا أن امتدت إليه يد الغاصبين. من يصدق بأن هذا المشهد السريالي ليس له مخرج ،فهو إما عبيط كما يقول إخواننا المصريون أو أنه( يتعابط) قياسا على يتغافل وبتجاهل أو يتواطأ ويتآمر ...وهلم جرا فدعونا نحلحل هذه الكومة المتشابكة من خيوط الدخان المتصاعد من كانون 7 أكتوبر، فبعضها هو بخار منعش طبعي يشفي غليل العطشى للديموقراطية ،وبعضها لا يعدو أن يكون آثارا لاحتراق مستساغ للوجاهة والنسب والمال في مطبخ صنع الدولة وبناء المؤسسة وضمان الكرامة و إحقاق العدل ،وأما الصنف الثالث فهو دخان أسود قاتم اللون مصدره وقود غير قابل للاحتراق، وحتى لو احترق فضريبته تلويث للبيئة ، وخلط للأوراق ، واسترزاق ببطولات وهمية و نشدان لاتقاء حر الشمس بالغربال . على أهل الدار الحذر ثم الحذر ، ما يراد بهم هو اختلاس ما طبخوه بجهدهم و وعييهم وذوقهم واستبداله بوصفة هجينة لا مذاق لها و لا تناغم بين موادها، ولا فائدة ترجى من تناولها ، بل هو السم عينه ما يراد لهم أن يتناولوه ، وأصحاب هذه الوصفة (الحامضة) وإن علموا أن الطباع السوية والأذواق الراقية تمج حقيقة طبختهم لأن نتانة رائحتها تزكم الأنوف، وموادها المزورة تستعصي على الهضم، ورغم ذلك فهم يصرون على المضي في غيهم ، يحاولون استبدال معدن حقيقي بآخر رخيص مزور، لكن هيهات هيهات أن يُصنع الذهب من الحديد مهما اشتد الطرق أو علت حرارة النار . إن سياسة خلط الأوراق لا تستهدف شخصا مهما بلغت مكانته ،ومهما اتسعت شعبيته ، وهي لا تستهدف حزبا مهما كانت قوته، إنما غايتها أن تطفئ شعلة الوعي التي استوقدها الشعب من تاريخه وتضحياته وآلامه وآماله ، إنها تروم (تضبيب) الرؤية التي غدت أكثر فأكثر وضوحا ، إن تلمس الشعب لقيم الكرامة وامتلاكه للقدرة على التمييز بين الغث والسمين وبين الحُرِّ الصافي والرخيص المزور هو ما تستهدفه سياسة الماء العكر . فجأة أصبح الحديث بلسان قريب من الشعب آخر صيحات الموضة في عالم الخطابة ، فتقمص الزعماء أدوار الاستماع للمهمومين والقرب منهم ،وإن المرء ليتمنى بصدق أن يتحول هذا التطبع إلى طبع فنرى سياسيينا وقد فهموا أخيرا أنهم يجب أن يكونوا في خدمة الشعب لا أن يكون الشعب في خدمتهم .لكن أخشى ما نخشاه هو أن (الدِّيبْ مَا يْبْقَى غِيرْ دِيبْ وَخَّا طَّايْبُو فْالمَا وْتْعَاوْدُو فْالْحْلِيبْ.