لا يمكن ذكر مدينة مراكش دون أن تتراءى لمخيلة السامع صورة صومعة الكتبية، التي تعد واحدة من أقدم مآثر مدينة مراكش وأبرز معالمها الحضارية، والمطلة بشموخها على ساحة جامع الفنا وسط المدينة الحمراء، وصاحبة الرمزية التي دفعت كثيرين لاتخاذها علامة للدلالة عل مراكش. وتشتهر صومعة الكتبية التي تجاوزها عمرها 900 سنة بجمالية معمارها الذي زاده الفن الأندلسي جمالا، حتى امتلكت قوة الساحرة الفاتنة التي تشد الأعين إليها وتسحر عقل من يتحسس بهاءها ورونقها، حتى دفعت المهراجا جاكا تجيت أحد كبار أغنياء الهند إلى استنساخ شكلها في مسجد حمل نفس اسمها وافتتح في ثلاثينات القرن الماضي في مدينة كابور ثالا الهندية. أول مسجد على مقربة من قصر الحجر الذي اتخذه المرابطون مخزنا للسلاح بني أول مسجد في مدينة مراكش عاصمة يوسف ابن تاشفين، وأطلق عليه اسم مسجد الطوب، وهو المسجد الذي نزل به المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية عند دخوله مراكش، وعمد الموحدون إلى هدمه لأسباب اختلف فيها المؤرخون والباحثون. والثابت عند كثير منهم أن جامع الكتبية الذي اقتبس اسمه من حي الكتبيين المجاور له وهو سوق للبائعي الكتب والنساخين، بني على أنقاض البنايتين المذكورتين، فبقيت أطلال مسجد الطوب جزءا من مسجد الكتبية الحالي، وهي الأعمدة المتواجدة غرب المسجد وتخصص خلال صلاة التراويح شهر رمضان للنساء. وشرع في بناء النواة الأولى لمسجد الكتبية سنة 1070 ميلادية بعد أربع سنوات من قيام دولة المرابيطين، فيما تم تشيده على شكله الذي هو عليه اليوم، في عهد الموحدين سنة 1158 بأمر من الخليفة الموحدى عبد المؤمن بن علي. جمال وإتقان على مساحة خمسة آلاف وثلاث مائة متر مربع مستطيلة الشكل يمتد مسجد الكتبية، مشكلا من سبع عشرة رواقا متجها نحو القبلة وتحمله أعمدة، كما يتوسطه فناء محاط بأشجار خضراء، ويكسوه بلاط ذو زخرفة أصيلة، فيما غطي ما بني حوله بقرميد وردي وتوجت ممراته بأقواس أندلسية. وتتموضع الصومعة التي ترى من جل شوارع المدينة الحمراء في الزاوية الشمالية الشرقية للمسجد، ويبلغ طولها سبعة وسبعون مترا، قاعدتها مربعة طول كل ضلع منها 12,80 مترا، وتتميز واجهاتها الأربع بزخارف هندسية تختلف من واجهة إلى أخرى. بنيت الصومعة بالحجر الرملي النضيد، الذي جلب من جبل كيليز وسط مراكش (حاليا)، فيما بني أعلاها بالأحجار الصغيرة مع الآجر في أجزائها العلوية لتخفيف وزنها وحفظ صمودها، يغطيها طلاء كلسي مزين بخطوط التقاء وهمية تظهر جمالا وتغطي عيوب تقطيع الأحجار. نسيان يكسره رمضان عانى مسجد الكتبية في السنوات الأخيرة ولازال من التهميش والنسيان، فلا تكاد تجد فيه صفا واحدا أو اثنين من المصلين خلال سائر أيام السنة، في ظل غياب سياسة من طرف القائمين على الشأن الديني بالمدينة الحمراء، لإعادة الاعتبار للمساجد العتيقة التي تزخر بها مدينة مراكش، وإرجاع دورها المحوري في التدريس والعلم والوعظ والإرشاد. وظل المسجد شبه منسي محليا إلى حدود سنة 2009 لما كلف الشيخ عبد الرحيم نبولسي أستاذ كرسي الشاطبية في القراءات القرآنية، بإمامة المصلين في صلاة التراويح مسجد الكتبية، فشد إليه آلاف المصلين الذين أسرهم صوته الندي، وإتقانه للقراءات العشر، وقدرته الهائلة على دمج القراءات في الركعة الواحدة، بمقامات متناسقة تأسر الفؤاد وتحقق الخشوع. فتجاوز عدد المصلين في ساحة مسجد الكتبية لأول مرة، الأربعين ألف مصل، وفرض على السلطات التأهب لتنظيم السير، وتوفير ما أمكن من عناصر الوقاية المدنية، والتنسيق مع الهلال الأحمر المغربي، للتمكن من علاج أي حالة وسط الجموع الغفيرة، التي حجت للمسجد العريق لآداء صلاة التراويح، واستمر ذلك في السنوات الموالية، مع القارئ المراكشي المشهور وديع شكير.