لا بد في البداية من التاكيد على أن الحديث عن محاكمة بوعشرين الجارية الآن، بهدف الوقوف على ما واكبها من مس بضمانات المحاكمة العادلة لا يعكس أي موقف سلبي من مطالب الطرف المدني عكس ما تروج له بعض الكتابات، وليس مسا بسمعة المشتكيات ولا بكرامة أي طرف. فمن المفروض أن تحرص كل الأطراف على احترام جميع المتدخلين لشروط ومعايير المحاكمة العادلة وفي مقدمتها قرينة البراءة، لان المحاكمة العادلة هي الطريق الوحيد للوصول للحقيقة، ووحدها السبيل لتحقيق الانصاف لأي ضحية في أي قضية. ولست في حاجة لتأكيد إدانتي لأي شكل من أشكال العنف ضد النساء وتعبيري عن دعمي لكل امرأة تلجأ للقضاء إذا تعرضت لاي عنف توخيا الانتصاف. وأتأسف لكون العديد من النساء ضحايا العنف، بما فيه العنف داخل أماكن العمل، لا يتم إنصافهن بسبب غياب القضاء المستقل والنزيه وسيادة الإفلات من العقاب، خاصة عندما يكون المعتدون من ذوي النفوذ والسلطة، بما فيها السلطة الاقتصادية، التي تمكن أصحابها من شراء حياد السلط الأخرى من ضمنها سلطة الإعلام أحيانا. إلا ان ما أود التطرق له ليست محاكمة بوعشرين التي تتم أمام القضاء، بل محاكمته خارج مجال المحكمة. فمحاكمة بوعشرين أمام القضاء هي محاكمة تجري بين اسوار القاعة 8 لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، وهي بالمناسبة سرية لا نعرف ماذا يجري فيها بالضبط، وهيئة المحكمة هي التي يفترض ان تقرر بعد انتهاء كل أطوار المحاكمة إذا تم الاحترام الفعلي والكامل لضمانات المحاكمة العادلة خلالها هل كان بوعشرين يحاكم كصحافي كما يقول هو ودفاعه، أم حوكم كمواطن ارتكب افعالا جرمية كما تدعي النيابة العامة، وفي هذه الحالة فقط يجب أن يعاقب على ما سيثبت ضده، في حدود الجرم المرتكب وفي حدود العقوبة المنصوص عليها في القانون إذا ثبتت. لكن المحاكمة الأخرى التي يتعرض لها الصحفي بوعشرين، وهي محاكمة الإعلام ومواقع التواصل، فلا تردد في الأمر، فهي تحاكمه كصحافي وليس كمواطن ارتكب ما يعاقب عليه القانون. فليس كل من يرتكب مثل ما يتهم به بوعشرين يحاكم محاكمة إعلامية مثل ما يتعرض لها هو. كما أنه ليس الأول من تعرض لمثل هذه المحاكمة خارج أسوار المحكمة بالموازاة مع مثوله امام القاضي. فالعديد من الملفات ذات الطابع السياسي نشهد خلال متابعتها أمام المحكمة ما يوازيها من حملات إعلامية قوية تنتهك في العمق أهم أسس المحاكمة العادلة وهي قرينة البراءة. وفي اغلب تلك القضايا يكون الهدف، ليس فقط التأثير على القضاء وتمرير رسائل له بشأن القضية، لكن أيضا واساسا هو القتل الرمزي للمعني بالامر. وتأتي محاكمة الصحفي بوعشرين في ظرفية احتل فيها هذا النوع من الإعلام حيزا كبيرا في المشهد الصحافي. ويتوجه هذا الأسلوب الجديد/القديم من أساليب التضييق والحصار، إلى أصحاب الآراء المنتقدة للسياسات العامة أو للطبيعة غير الديمقراطية للنظام السياسي، وخاصة منها المؤثرة في الرأي العام، وهي أساسا الفعاليات والإطارات المتشبثة باستقلالها عن السلطة، وبحقها في التعبير الحر عن رأيها. ومنذ سنة 2011 ، تزايدت بشكل كبير هذه الأساليب المنحطة لتدبير الصراع مع المختلفين والمنتقدين أو الذين تعتبرهم الدولة كذلك، ومورست بشدة ضد نشطاء حركة 20 فبراير، واستمرت بعدها ضد كل من واصل فضح الاستبداد والفساد واستمر في النضال من أجل الأهداف التي خرجت من أجلها تلك الحركة. واشتد القمع الرمزي ضدهم للحيلولة دون بروز حراك جديد تماما كما يتم قمع النشطاء في كل حراك جماهيري يحتمل أن يشكل انطلاقة جديدة لحراك سياسي عام. هكذا عرفت الساحة الإعلامية والصحافية المغربية تزايدا لعدد المنابر التي أضحت تستخدم بشكل ممنهج الهجوم على المعارضين والنشطاء السياسيين والمدنيين التي تريد السلطة الحد من تأثيرهم على الرأي العام، وعزلهم عن المجتمع، عبر تشويه صورتهم وتلطيخ سمعتهم لدى عموم المواطنين والمواطنات داخليا وخارجيا. وتعتمد هذه المنابر في ذلك على بعض الأحداث وتحريف الوقائع أو بالافتراء كليا عليهم، وتلفيق تهم واهية، ونشر أخبار زائفة عنهم بأسلوب يستشف منه اطلاع أصحاب تلك المنابر أو المقالات على بعض تفاصيل حياة ضحاياهم لا تكون متاحة إلا للجهات التي تملك السلط الضرورية للنفاذ للمعطيات الشخصية للأفراد، أو تتوفر على إمكانية الولوج لوثائق غير متوفرة للعموم أو على تقنيات المراقبة اللصيقة للناس في حياتهم ولو بوسائل واساليب إجرامية. واستعملت بعض المنابر أساليب العنف اللفظي المباشر من قبيل التخوين، العمالة والمس بالسمعة والنبش في الأعراض، والسب المباشر وأحيانا التكفير والتهديد والتحريض على القتل، بهدف حرمان من تستهدفهم من ممارسة حقهم في التواجد في الفضاء العمومي إلى جانب كل الآراء والتوجهات الأخرى؛ وإسكات بعض الأصوات وإبعاد بعضها الأخر من الساحة العمومية نهائيا. لقد وقفت بعض الجمعيات الحقوقية وبعض المنظمات المتخصصة في مجال الإعلام والصحافة على هذه الصيغ الجديدة للقمع ووثقت عددا منها في تقاريرها. وقامت بتحليل هذه الظاهرة وتمظهراتها، ومن بينها : التقرير السنوي لجمعية الحرية الآن لسنة 2015، وتقرير جمعية الحقوق الرقمية الذي يحمل عنوان "عيون السلطة" (وبالمناسبة هما جمعيتان محاصرتان ورئيساهما متابعان أمام القضاء بتهم واهية)، مخرجات الندوة الدولية التي نظمت بالرباط حول صحافة التشهير قبل سنة ونصف والتي استجمعت مجلدا من مقالات القذف والسب والتشهير، ووقفت على تجارب أنظمة استبدادية مختلفة تعتمد هذا النوع من القمع… في العديد من الحالات، وفي المغرب بشكل خاص، يعجز ضحايا هذه الحملات الإعلامية المنظمة من الوصول إلى القضاء، بحكم الحماية التي تتوفر عليها تلك المنابر وأصحاب تلك الأقلام، وما كان ليتجرؤوا لو لم يكن لديهم اقتناع عميق بوجود وفعالية تلك الحماية. ذلك أن هذا الصنف من أصناف القمع مثله مثل الأصناف الأخرى من أساليب القمع يعتمد على القضاء المسيس، غير المستقل الذي يوظف بدوره كألية للقمع والاستبداد عوض أن يكون سلطة مستقلة لصون الحقوق والحريات وحماية المواطنين والمواطنات من تعسفات السلطة وغيرها. لذا فالسياق الحالي المتميز بغياب سلطة قضائية مستقلة وسيادة الإفلات من العقاب في العديد من الملفات التي تكون فيها الدولة أو بعض ذوي النفوذ طرفا، هو سياق يشجع صحافة التشهير ويوفر لها شروط الهجوم على ضحاياها وافتراسهم في استعمال لمهنة نبيلة يتم الدوس بشكل كامل على مبادئها وأخلاقياتها. وبالرجوع إلى علاقة الموضوع بقضية بوعشرين الأهداف التي تصبو إليها هذه الحملة التي شنت ضده وضد بعض الأطراف الأخرى للقضية متعددة ومن ضمنها: 1 خلق الصدمة لدى الرأي العام ووضعه في حالة ذهول، يفقد فيها حسه النقدي، وتكبل قدراته في التحليل. يمكن هذا الوضع من خلق حالة من الفراغ يحيط بالمتهم ويصبح التردد سيد الموقف من حوله. لقد عرفنا عددا من القضايا من هذا الصنف، منها قضية بلعيرج مثلا، التي أخطأت إبانها الحركة الحقوقية التقدير بدعمها للمعتقلين السياسيين الستة وحدهم، اعتقادا منها أن ما يقرب من ثلاثين معتقلا أخرين قد تسري عليهم ما روجته وسائل الإعلام من تورط في جرائم الإرهاب وتهديد استقرار البلد … بينما اليوم يتم تبرئة عبد القادر بلعيرج من طرف القضاء البلجيكي، وهو المتهم الرئيسي في هذا الملف والمحكوم بالسجن مدى الحياة، كما أصدر بخصوصه فريق الأممالمتحدة المعني بالاعتقال التعسفي قرارا يعتبر اعتقاله اعتقالا تعسفيا، علينا الاعتماد عليه للمطالبة بالإفراج عنه. وبالمناسبة هذا هو نفس الفريق الأممي الذي راسله المحامي البريطاني المستشار القانوني لبوعشرين بخصوص الطابع التحكمي لاعتقاله بسبب غياب أي سند للاعتقال. 2 ضرب معنويات المعتقل وإضعاف قدرته على الدفاع عن نفسه، وإضعاف حظوظ صموده أمام ما سيتعرض له من انتهاك للضمانات التي يوفرها له القانون وحقوقه كمعتقل. ولهذا السبب وضع التلفاز لبوعشرين في الزنزانة قبل أي شيء أخر ليتابع ما ينشره ضده الاعلام البصري الواسع التأثير، وهو عاجز عن الرد وتفنيد ما يقال ضده من جهات لها سلطة معنوية ومادية قوية. 3 توجيه رسائل لمن يهمهم أمر حرية التعبير في البلد، والمتشبثين بحقهم في ممارستها، والرافضين للانصياع والخضوع، وهي رسائل تحذيرية وتهديدية، في محاولة لتنميط المجتمع ووضع الجميع داخل المربع المرسوم سلفا بخطوط حمراء يمنع تجاوزها. 4 الإعدام الرمزي للمعني بالأمر حتى قبل مثوله بين يدي القضاء، وقبل وقوف هذا الأخيرعلى مختلف المعطيات المرتبطة بالملف، وقبل الاستماع لمختلف الأطراف، وقبل اطلاع الملاحظين على مدى احترام القوانين والمساطر بشأنه، وقبل تمكين المتتبعين والمراقبين المحايدين من إبداء الرأي في القضية وملابساتها ومضامينها ومجرياتها … وكل ذلك من أجل استباق أي مآلات للقضية غير متوقعة تجعلها تنفلت عن المسار المسطر لها سلفا. 5 وبالنسبة للنساء اللواتي رفضن وضع شكاية ضد بوعشرين فقد استهدفن في سمعتهن بشكل كبير، ووصلت عدد الكتابات ضد إحداهن عشرات المقالات مصحوبة بصورتها، ويعرف الجميع مدى تأثير ذلك في مجتمع محافظ ومدى تهديده لكيان أسرتها ومستقبل أطفالها. كما تعرضت بعض الكتابات أيضا للمشتكيات بعبارات تمس كرامتهن وشخصهن. وهي كلها طرق تهدف إلى جعل النساء دائما هدفا للسب والقذف حين يجدن أنفسهن في قضايا تتعلق بالعنف الجنسي ويتم الزج بهن في ملفات من هذا النوع. إن الحديث عن المواكبة الإعلامية المجحفة لقضية بوعشرين والمنتهكة لأخلاقيات ومبادئ مهنة الصحافة، هي إحدى الأساليب المستعملة في انتهاك أسس ومعايير المحاكمة العادلة، ويجب استحضارها بنفس القدر الذي نستحضر به الانتهاكات التي ارتكبت أثناء الاعتقال والخروقات التي مست مسطرة الإحالة، والعنف الممارس على مختلف أطراف القضية، ومنع الملاحظين الدوليين من متابعة أطوار المحاكمة، وغيرها كثير من الانتهاكات التي عرفتها القضية. ومجددا، أختم بما انطلقت منه وهو أن وحده مبدإ أن المتهم بريئ إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تستوفي كل مستويات التقاضي، هو ما يجعل هذا النقاش مشروعا، وأن المطالبة بالمحاكمة العادلة للصحفي توفيق بوعشرين هو مطلب يهم الجميع، ولا يقبل من أي شخص يتبنى مبادئ حقوق الإنسان أن يسكت عن انتهاكات حقوق، هي أساسية في أي مجتمع ديمقراطي، كالحق في احترام قرينة البراءة والحق في كل ضمانات المحاكمة العادلة، كيفما كانت التهم الموجهة إلى المتهم وكيفما كان موقفنا من الشخص و من معتقداته وسلوكه وانتمائه وغيرها… وأن المطالبة باحترام هذه المبادئ هي دفاع عن الحق، ودفاع عن المجتمع، لأنها مطالب تصبو لحماية الجميع من التعسف ومن الظلم، وهي أيضا وسيلة لحماية حقوق جميع أطراف القضية وليست انتصارا لطرف ضد آخر. كما أنها وهذا هو الأساس، محطة من محطات النضال ضد التردي العميق الذي تعرفه الحقوق والحريات ببلادنا خاصة منذ 2014، حين انقلبت السلطة ضد مكاسب أساسية انتزعتها الحركة الحقوقية والديمقراطية ببلادنا. وهي الردة التي تتجلى في مختلف المؤشرات الحقوقية المتدنية للمغرب التي تنشرها العديد من الهيآت الدولية، من وكالات الأممالمتحدة، والمنظمات المهنية للصحافيين، وهيآت تهتم بواقع العدالة والقضاء، وأخرى بالمساواة بين الجنسين، وغيرها من المجالات، كما ترصدها تقارير أغلب الشبكات والهيآت الحقوقية الدولية وكلها تبرز مدى التدهور العميق لواقع حقوق الإنسان ، وهي الحقائق التي تكتفي الحكومة بتكذيبها كلما صدرت عوض الانكباب على معالجة ما تعكسه من تدني واقع الحريات ببلادنا واختلالات عميقة في السياسات المتبعة.