لا شك أن أبجديات و نوافذ العلوم و المعرفة بدأت من الأسئلة الأولى التي طرحها الإنسان على نفسه في فهم ما يراه من ظواهر تحيط به، و أصبح السؤال دور أساسي في فهم و تطوير الأحداث.فأصبح سؤال الفهم و الإدراك فطرة الكل و المفتاح الرئيسي لنوافذ المعرفة الحقة التي ورثناها من عند القدماء التي تجلت في تفسيرات الظواهر و نماذج الكون و غيرها من الأمور . كان الأمر الأساسي في ذلك الحين هو إيجاد توليفة أو نموذج يفسر ما يراه و يسد ما يمكن سده من نافذة الفضول المعرفي التي لطالما تعبت كل إنسان ، فإذا تفحصت اليوم تلك النماذج و الإبتكارات بدءا من النماذج الأولى للكون ( النموذج البابلي ، النموذج الجنوب أمريكي ، النموذج المصري ، … إلخ) وعن الفرضيات المعتمدة في تفسير الظواهر وصولا الى رصد أمواج الجاذبية و النانوتكنولوجيا و نظريات الكم و غيرها ،سترى حجم الثورات و المراحل الفكرية و العلمية العميقة و ما قدمه الإنسان من أسئلة و أطاريح متراكمة و متنوعة الألوان التي أدت في الأخير بالإنسان لما هو عليه اليوم من تقدم فكري و علمي كبير و تحولات إقتصادية و تكنولوجية كبيرة التي لطالما كانت مرآة الأوراق الفكرية و العلمية للإنسان . و تاريخية هذه التحولات و التراكمات حفزت عدد من الباحثين في هذا المجال لمحاولة تفسير هذه الحركة و صوغ بهذا الصدد نظرية تطورية تعنى بالأساس عن تطور العلم و منطق حركته، و هو ما يدخل ضمن نطاق ما يسمى علم العلم Sience of sience و فلسفة العلم ،و أكد الجميع وحدة دينامية المسيرة كمسيرة للفعالية الإنسانية، و الإقتناع الكبير على أن العلم بحث جماعي و حيز وفضاء لكل الأصناف و المفتاح الأول لحضارة الإنسان و رقيه ،وفضاء للتنافس و الصراعات العلمية و الفكرية ، و أن العلم أيضا يتحرك قدما مرحليا ، ولكن السؤال : كيف ؟ هل هي حركة تراكمية خطوة خطوة أم بناء على الطفرات و الثورات ؟ رأى البعض على رأسهم توماس كون المفكر الأمريكي في كتابه العمدة بنية الثورات العلمية أن العلم يتقدم في صورة طفرات أو ثورات Revolution و ليس تطورا تراكميا مطردا Evolution ، وهذا الرأي له نفوذه و تأثيره في مجالات بحثية مختلفة .ورأى آخرون منهم جون غريبين في كتابه تاريخ العلم 1543-2001 أن العلم يتطور على مدى سيرورة تراكمية متصلة ، وأن ثورة ميكانيك الكم التي أطلقها بلانك في بداية القرن العشرين هي الحالة الوحيدة التي تجسد مفهوم "الثورة" في العلم و في تاريخه و نقض من خلال كتبه نظرية توماس كون . لكن هل لنا أن نقول إن مظاهر التقدم ذاتها تحدث كتطور تراكمي ؟ ، لنا في الحديث بقية . غالبا سجل مؤرخو العلوم و احتفلو بالإلتقاء الرائع الذي جعل سنة 1543 سنة لا مثيل لها في تاريخ تقدم الفكر البشري ، وذلك بنشر كتاب كوبرنيك De Revolutinibus orbium coelestium و كتاب فيزال De humani corporis fabrica ، و بعضهم ألحت عليه الرغبة،القوية حقا ، في القول أن بداية قصته ، ودونها جون غريبين في بداية كتابه بدون سابق قائلا "بدأت العملية بفضل أعمال نيكولاس كوبرنيكوس في القرن السادس عشر ، اذ اقترح أن الأرض ليست هي مركز الكون ، واكتسبت العملية دفعة جديدة على يد غاليليو في مطلع القرن السابع عشر الذي استخدم تيليسكوبا للوصول الى دليل قاطع على ان الأرض حقا مجرد كوكب يدور حول الشمس.و تتابعت بعد ذلك موجات متتالية من الإكتشافات الفلكية التي قام بها علماء الفلك على مدى قرون " وقد دون جون غريبين النص المطروح في بداية سلسلته السردية لتاريخية العلم دون أي اعتبار للهرم المعرفي و للإكتشافات الهائلة قبل ذلك ،مما نعتبر هذا الحدث من منظورنا نحن ولد شرعي خلفته تلك التناقضات المطروحة و الإختلالات لنماذج بطليموس و فيزياء و نموذج أرسطو الذي ظلو في تماسك قوي لعقود طويلة من الزمن . و هذا لا يتناقض إن طرحنا هذا الحدث و أن نعترف بهذين الكتابين بمكانة تلك الطفرات و الثورات التي تكلم عنها توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية ، وبتأثير هدام لنظرة القرون الوسيطة إلي العالم و الانسان، فإن كان لا شك في العلم القلك الكوبرنيكي حطم و هدم النموذج الكوسمولوجي الذي كان سابقا ،ووجه البوصلة إلى بداية العلم العلم الحديث، وهذا ما أدى بالمؤرخ الكبير شارل سينجر charles singer ، بوصفه لهذه الطفرة في كتابه تاريخ التشريح متحدثا لقد حطما ، هما الإثنين( كوبرنيك و فيزال ) ، وبصورة لا رجعت فيها ، نظرتي العالم الكبير و العالم الصغير السائدين في القرون الوسطى ، وكانو بمثابة محطات انتقالية كبرى عاشها العلم في تاريخيته ، و التقوية و تجديد صرحه العلمي الذي بدأ من الإنسان الاول الذي وقف فوق هذه اليابسة و استمر في بناء هذا الصرح إلى اليوم. و سار يبحث عن المفاتيح الأساسية لفك أعقد الشفرات في فهم قوانين الطبيعة ،و أصبح العلم اليوم يروي لنا بالتفصيل قصة كل ماكان ، وما جرى، بالمنظور العلمي على الأقل ، من لحظة بداية الكون ، من الذرة البدائية كما سماها جورج لوميتر وصولاً إلى إبداع عالمنا اليوم و كل شيئ فيه ، بل وما وراء ذلك ،إلى المستقبل البعيد وحتى إحتمالات نهايته . فسار من الضروري أن نبدأ و نترك هذه الأسطر في سرد تاريخية العلم ، وكيف تطور ، و مناهجه التي تقمسها عبر التاريخ ، بل أصبح من الضروري تدارسها ، لفهم طبيعة هذا العلم و محيطه و نسبيته ، وعبَّر عنها هشام غصيب في إحدى محاضراته قائلا " فهمنا لطبيعة العلم سيساعدنا بالتأكيد لفهمه و تملُّكه و إمتلاكه،وهذا لن يؤدي إلا بدراسة عميقة في تاريخيته و تطور مناهجه "، فدراسة تاريخيته ستأدي بنا لفهم طبيعته ،و بنى من خلالها أيضا نظرية تطورية تعنى بالأساس عن تطور العلم و منطق حركته و هي ما تسمى ب علم العلم ، لنستنتج من خلال تلك الدراسات مدى أهميته . من هنا جاء الإهتمام بنشر و دراسة تاريخ العلم والعلماء باعتباره علما و ذاكرة بشرية عن أهم قوى دافعة لبناء ورقي الحضارات،وعن عبقرية البشرية و قدرتها على فك أعقد و أصعب الشفرات و المفاتيح،التي ستعطي أكلها في كل المجالات و الميادين،في التكنولوجيا و الإقتصاد، في الفلك و الملاحة،في الهندسة و البناء،و قدرة البشرية أيضا على النفاذ إلى أعماق الكون الأعظم المتمثل في فهم ما نراه في السماء من نجوم و مجرات و الكون الأصغر المتمثل في فهم ما يطرأ في الجسيمات الذرية ، واستيعاب قوانين الحياة الطبيعية بما فيها بالأساس حياة الإنسان في صورة نظريات متجددة دائما وأكثر فاعلية . و تاريخية العلم أيضا تؤكد أن لا حقيقة مطلقة،ولا يقين مطلقوأن الحقيقة العلمية على المحك دائما،كما يقول فيلسوف العلم كارل بوبر، لإثبات زيفها ومن ثم تطويرها،بما يعني أنها قابلة للمراجعة دائما ، و يقول ألبرت أينشتاين في الحديث عن نفسه " الزميل أينشتاين…يراجع كل عام ما كتبه في العام السابق " . و تاريخية العلم كما سنرى تؤكد أن هذه الرحلة أو المسيرة شاقة و قاسية مشحونة بالصراعات الضارية بين القديم التقليدي و الجديد،مسيرة لها شهدائها و ضحاياها،لم يكن صراعا بين الدين في ذاته والعلم كما يحلو للبعض أن يقول، بل بين الجمود و التجديد، بين الإبداع و حياة السكون و التحجر الفكري . فأحببت أن أسرد تاريخيته عبر ثلاث مراحل أساسية أربط فيها كل من الجانبين ،التاريخ و المنهج أو النمط الفكري الذي خاضته البشرية عبر عقود مختلفة ، بداية من التحقيب الحضاري الذي كان له تأثير مباشر في تاريخية العلم ،إلى التحولات الفكرية التي حدثت في تاريخ الإنسان و الإنتقالات المتجددة لفهم أسرار الطبيعة ، وصولا في الأخير إلى العلم الحديث و منهجه العلمي. فأحببت أن أسرد تاريخية العلم عبر تحقيم حضاري (مشتق من كلمة حضارة ) ،بداية من الحضارات القديمة (الحضارة المصرية، الفرعونية، البابلية، الهندية،..)، إلى الحضارة الإغريقية أو اليونانية إلى الحضارة الهلنستية إلى الحضارة البيزنطية أو الرومانية إلى الحضارة العربية الإسلامية وصولا إلى الحضارة الأوروبية الحديثة التي من منطلقها تفشت بصورة لامعة إلى العالم كله ،وأصبح في ذلك الحين علما موسعا و شاملا و ليس بمجرد هوامش هنا أو هناك،فانتقل التاريخ بنا من التحقيب الحضاري و التقسيمات بالموازات مع التجرد من العرقيات و الإيديولوجيات إلى فضاء أكثر فاعلية و أكثر إنتاجا، فعبر من خلالها جون غريبين في كتابه تاريخ العلم 1543-2001 قائلا ،"إن هدفي هو أن أقدم للفارئ إلمامة كاملة و سريعة عن العلم الذي إنطلق بنا من فهم أن الأرض ليست مركز الكون،وأن البشر ليسو استثناء داخل المملكة الحيوانية،ووصل بنا إلى نظرية الإنفجار العظيم،ثم إلى خريطة كاملة للجينوم البشري على مدى 450 سنة فقط". بالمقابل لا ننسى أساس العلوم و الإبتكارات و الصرح العلمي الذي بني منذ عقود طويلة من الزمن، وبناء ركائزه و إنجاب ولد شرعي يكمل مشواره بتجديد . فالتقسيم الذي أخذته هو عبارة عن تحقيب حضاري ،و هناك العديد من المؤرخون في تاريخ العلم كل من منظوره و قراءته سردو لنا تاريخية العلم و قسموها تقسيما حضاريا أو تقسيما زمنيا مبنيا على ثورات أو طفرات طرأت في تاريخيته ، و عبر عنها جورج سانتون في مقدمة كتابه تاريخ العلم قائلا " وأقول هنا إني قسمت تدريسي لتاريخ العلم أقساماً أربعة ، وهي على التعاقب : المرحلة القديمة، والعصور الوسطى ، ومن القرن الخامس عشر إلى السابع عشر ، ومن الثامن عشر إلى العصر الحاضر "،فبهذا الصدد أقف و إياكم إلى موضع المنتصف دائما،ونسرد تاريخيته بتقسيم حضاري مرفوقا بتقسيم زمني المتعلق أو المرتبط بالثورات و الطفرات كما يسميها الفيلسوف الأمريكي توماس كون التي تحدث في تاريخ العلم . يتبع ….