هل تذكرون الثورة المضادة؟ نعم بلا شك؛ ومن نسيها حتى يذكرها؟ فهي النظام القديم الذي قامت ضده الثورة، ولما هزمت وفشلت في مساعيها، أظهرت الانقلاب على نفسها كي يستمر النظام، فزايدت على الثورة، وكشفت انبطاح الثوار، قبل أن تنقلب على الثورة، وتعيد النظام القديم إلى السلطة في أسوء مظاهره. هذه هي الثورة المضادة عندهم، وعلى هذا الطريق تسير "المقاطعة المضادة" عندنا. فقوى المقاطعة المضادة سَخِرت منها وقللت من أثرها، ثم وقفت ضدها ورفضتها، ثم خونتها وشككت في وطنيتها، وأخيرا أعلنت انخراطها فيها. المقاطعة المضادة تستفيد من "التاريخ"، وتعمل على استعادة "نجاح" الثورة المضادة، وتتبنى أسلوبها ومنطقها، بهدف الوصول إلى نفس نتائجها، المتجسدة في إفشال الهبة الشعبية الرافضة لغلاء الأسعار. فبعد أن أفشلت المقاطعة خطط الخبراء والمدراء وشركات التواصل، وذوو التكوين التقني العالي. أظهرت أن نتائجها صفرية أمام حملة عفوية قاصدة، حاملة لفكرة واحدة بسيطة هي خفض أسعار العلامات التجارية الثلاث. و الملاحظ يرصد أن المتضررين من المقاطعة تدرجوا في تطويعها، عبر أربعة أساليب لحد الساعة، أولا: الهجوم والاتهام من خلال الاستخفاف والسخرية، ثانيا: الحديث الملتوي عن الاعتذار، ثالثا: ادعاء الانخراط، رابعا وأخيرا: التهديد. وبعد أن حققت مصطلحات "اللعب"، و"المقاطعة الافتراضية"، و"خيانة الوطن"، و"المشبوهة"، و"المداويخ"، و"القطيع"، عكس مراد الواقفين خلفها، حيث تحولت إلى "وقود" زاد المقاطعة اشتعالا،حكم على الشركات باتباع سياسة جديدة. فانطلاقا من السبت 5 ماي، تغيرت طريقة تدبير المقاطعة ليس من طرف عموم الناس، بل من طرف القوى المضادة لها، حيث أعلنت أطراف جديدة انخراطها في الحملة، بعضها داعم للمقاطعة، وبعضها الآخر مدافع عن الشركات. ثلاث عناوين كبرى تكشف أن المواجهة لم تعد بين مواطنين يرفضون اقتناء سلع علامات تجارية بعينها والشركات، وأن أطرافا "أهم" دخلت على الخط، فعلى الأقل هذه الأطراف، تملك أن تحرك امبراطورا إعلاميا، وتملك أن تحرك حكومة العثماني، كما تملك أن تحرك القناة الثانية. يعرفنا التاريخ كما في تجارب 20 فبراير والربيع العربي، أن الثورة المضادة استعملت آليتين لإفشال الثورات، أولا؛ تحويل الثوار إلى خدم للنظام القديم، والثاني؛ توظيف الإعلام للإيقاع بالجمهور الواسع، هذه العملية لها هدفان، قريب بالتشويش والتضبيب والخلط، وبعيد؛ بالانقضاض التام. إن إخراج وزراء العدالة والتنمية للتصدي للمقاطعة، ثم دفع "الإعلام" التابع للدولة العميقة، للدفاع عن المقاطعة في مرحلة أولية، هو لُبُّ المقاطعة المضادة وجوهرها، حيث يعلو التشويش والضباب، حتى يتسنى الالتفاف على مطلب خفض الأسعار، ثم توجيه الجمهور للصدام مع الحكومة، باعتبارها فاشلة في حل الأزمة. في حالة التشويش القصدي هاته، يتولى كثيرون زراعة الشك في الحملة، عبر تصويرها صراعا بين أطراف الحكم، ويزيدون على أنها من بنات أفكار المخزن، بل قد تكون "حَرْكَة" للتأديب، أو خدمة لأهدافه التي لا يعرفها أحد. في حمأة هذا الشك المصطنع والمكثف، يتناسى الجميع أن أحسن نموذج "للنضال المدني" صنعته "الدولة العميقة"، التي تتولى اليوم مواجهة المقاطعة، كانت "مسيرة ولد زروال" التاريخية، والتي كشفت إفلاس خيال القائمين عليها، وحولتهم إلى أضحوكة عالمية. يمكن القول إن أطراف المقاطعة المضادة تعمل على تخريبها من الداخل، وتحاول توجيهها بعيدا عن هدف خفض الأسعار، لكن ليس مقبولا أبدا، نسبة كل هذه الدينامية الاجتماعية، كل هذا التحرر والاحتفالية في الفن والإبداع والخلق والتأليف والصناعة والاحتضان والتكاثف والتضامن والمبادرة، وجعلها "شقيقة" لمسيرة "ولد زروال". حملة المقاطعة حققت نجاحا أكبر من المتوقع، لذلك سيتكاثف أعداؤها للركوب عليها لإفشالها بنفس آلياتها وخطابها، وهذه هي "المقاطعة مضادة".