نقف في هذه المقالة في ضيافة رواية "حب على رصيف القرويين" وهي لقامة من قامات الرواية المغربية هي الأستاذة زبيدة هرماس،ورائعتها جزء من مشروعها الإبداعي الذي يضم أيضا روايات "كنز في تارودانت" و"عشاق الصحراء" و "ثورة وردية"…، والرواية من بين أجمل أعمال الروائية المغربية، الرواية لها بعد حضاري مغربي وإسلامي متميز، فهي تشكل فضاء معماريا تعرض داخله الأديبة جمل من القضايا التي شكلت ومازالت تشكل في المجتمع المغربي بؤرة للنقاش والتفاكر، وتدور أحداث الرواية "حب على رصيف القرويين" في زمن مغربي له وضعه الاعتباري في تاريخ الأمة الإسلامية لكون مضمون الرواية تناول الحديث عن زمن انهيار الدولة المرينية وزمن سقوط غرناطة والتي كانت الفترة الفاصلة في تاريخ الأمة نظرا للانقلاب في الدور الإشعاعي للإنسان المغربي وتحوله من قائد إلى تابع، وتسرد الرواية قصة الشاب سعد الذي أحب ابنة عمه فاطمة التي كانت شغوفة بالعلم والمعرفة، شغفها هذا سيتحول إلى حب لعبد الله الطالب المتميز آنذاك في طلب العلم في جامع القرويين، لكن سعد الذي كان قد فقد والده وكان المعيل الوحيد لأمه وأخته، سيوجه حقده لعبد الله الذي سلب منه حبه الجنيني فاطمة، فتعلل سعد واعترض على زواج فاطمة بعبد الله، بكون بمراث العائلة سيصبح تحت تصرف عبد الله في حالة ما إذا تم هذا الزواج الشيء الذي دفع فاطمة لتفويت ميراثها كاملا لسعد، لكن إصرار سعد بالزواج بها دفعها للزواج سرا بعبد الله (الشاب الشغوف بالعلم) والرحيل إلى مدينة فاس معه لطلب العلم بجامع القرويين، وبعد علم سعد بموضوع الفرار لم يكن منه إلى أن اقتفى أثرها لجامع القرويين هناك تعرف على طلاب العلم والعلماء والمشايخ فكان لا يدخر جهدا في البحث عن ابنة عمه بين طلاب العلم، وغرضه الإجهاز على عبد الله بخنجره الذي أعده لليوم الموعود، وتدخل الرواية في خيوط متشابكة تؤرخ لأحداث عرفتها الدولة المرينية التي كانت تعرف اضطرابات سياسية واجتماعية، وفي الرواية يتشابك البعد السياسي بالاجتماعي بالنفسي بالديني والفكري، في تشابك بديع ومعمار فني راقي ولغة ساحرة تنهل من عبق الحضارة المغربية والإسلامية، والمعجم اللغوي منتقى بامتياز تم فيه توظيف شخوص ورموز كان لها بصمة واضحة في تاريخ الثقافة المغربية، يكفي هنا الإشارة إلى توظيف الروائية لشخص فاطمة الفهرية، ومركزيتها القيمية في البناء المعماري للرواية. والرواية تعرض لبعض القضايا التي مزالت تشكل نقاشا واسعا في المجتمعات الإسلامية، من قبيل: كيف تتحول قيمة الحب من قيمة سامية تسمو بالإنسان في مدارج المحبين، إلى دافع للانتقام. وهذا ما تجسده قصة سعد بفاطمة؛ "وهل يعقل أن أتزوج فتاة لا أحبها، ص: 60" كما تلمح الرواية إلى الاختيار الريادي والعاقل عند المرأة رغم ما تعانيه من تبعات الشروط الاجتماعية التي يفرضه المجتمع المنغلق، "أما علمتم أنكم أسرفتم عن المرأة وبالغتم في منعها من أشياء كثيرة هي من صميم شرعنا الحنيف؟" وتحملنا الرواية لقيم الاقتداء والقدوة ودورهما في الرقي بالمجتمعات الحضارية، فأسطر الرواية ترحل بنا طولا وعرضا لتعرض اقتداء فاطمة في الرواية بشخص فاطمة الفهرية في الزهد. وهنا يبرز دورة المرأة في الإصلاح: "أمكث في البيت؟ كأن الخطب لا يعنيني؟ أنا… أنا حامل بهموم هذا البلد قبل حملي بهذا الجنين…." كما تعكس لنا الرواية شخص سعد الذي سيقتل محمدا ظنا منه أنه عبد الله بعدما تعقبه لأيام في جامع القرويين، إلا أن شبه محمد بأخيه عبد الله سيجني عليه فراق هذه الدنيا وهو الذي كان ينوي هجرة فاس نظرا للأوضاع السياسية لكن القدر أبى إلا أن يهجره هذه الدنيا تاركا وراءه زوجته وابنه، فسعد استباح حرمة جامع القرويين. فهو في هذه الرواية يمثل رمز الإنسان الأناني الحاقد الذي لم يكن يعنيه إلى تحقيق رغباته الانتقامية فما هو راعا أوضاع أمه وأخته الوحيدتين، ولا هو راعا أوضاع أمته التي كانت تنذر كل المؤشرات بقرب زوالها من الأندلس ونهاية حضارة بني مرين في المغرب. وتدخل الرواية في تطورات سريعة دراماتيكية يلتحم فيها ما هو فكري بما هو سياسي بما هو عاطفي في نسيج فريد تلعب اللغة الساحرة فيه دورا مهما يشد القارئ من أول صفحة إلى آخرها، كما مهرت الكاتبة في توظيف التحليل النفسي العميق، وبراعة رسم المواقف المفارقة وكلها آليات ساهمت في البناء المعماري والراوائي المُوَفَّق. كما تظهر براعة الروائية في توصيف القيم التي حفلت بها الحضارة المغربية من قبيل قيمة الوحدة: "صدقت والله، نحن ننصر الحق والوحدة، سنثبت على ذلك… أجل… لن يفرقنا شيء لأننا ننتمي إلى دين واحد، وبلاد واحدة… ومصير واحد…." ص: 90 كما عكست الروائية المغربية المنجزات المعمارية لدولة المرينيين في فضاء الرواية، خاصة وأن دولتهم كانت دولة لبناء العمران والإنسان وهذا ما تجسده الرواية في تخيل بديع ترحل بنا الروائة لوصفه فتقول "المرنيون اعتنوا بالعمارة والتشييد إلى حد كبير، معلمة في كل مكان، ونظام بديع تتخلله الأزقة والدور في اصطفاف باهر، تخللها مياه العيون العذبة الرقراقة، مدينة بهية كأنها جنة على الأرض لولا ما يعكر استقرارها من القلاقل والأوضاع التي تمهد لأفول دولة بني مرين، لا تسع الزائر الأيام ولا الشهور للوقوف على تلك الحضارة الباهرة" ص: 66. وتمهر ريشة الكاتبة في تصوير جزء من مدينة فاس وحال أهلها: "فاس مدينة جميلة رائعة ومليئة بالحياة النابضة، ما ينجزونه في يومهم غير ما أنجزوه في أمسهم، العلم يملأ شعاب المدينة وأرجاءها، فيقصدها أهل الشرق والأندلس."، وهنا حق لنا أن نتساءل عن حال المدينة المغربية اليوم، واقعها الذي يدمي القلب قبل العين فإذا كان حال الناس في الزمان الخالي هكذا فأين المدينة اليوم من هذا؟ المدينة التي تحتاج اليوم لنوع من التفاكر الجماعي والنقاش العقلاني لخلق علاقة وصل بين الماضي والحاضر، وصل بين مدينة الفكر والعلم قديما، ومدينة العولمة حديثا، المدينة في العصر الحديث التي يبدو أنها فقدت البوصلة فما هي حاضرة لإنتاج العلم وتداول المعرفة، ولا هي بالفضاء العمراني الذي يحفظ للشعوب ذاكرتها وحضارتها ويعكس جماليتها، كما أنها انسحبت من أداء أدوارها التربوية كما انسحبت من ذلك مجموعة من مؤسسات المجتمع، من هنا يطرح سؤال كيف يمكن أن تسترجع المدينة أدوارها الاستراتيجية في النهوض بوظيفة العلم والمعرفة والفكر كما كانت عبر عصور ازدهار الحضارة الإسلامية؟ *طالب باحث في اللسانيات والتواصل