السياق الإقتصادي الدولي و التطور الكبير الذي عرفه قطاع التكنولوجيات الحديثة في العالم لا يسمح بإلغاء المجانية في التعليم بالسلكين الابتدائي و الثانوي، ليس في المغرب وحده، بل في كلّ دوّل العالم، لان تعميم التعليم في هذين المستويين هو الذي يضمن لكبرى الشركات العالمية في مجال التكنولوجيات المزيد من المستهليكين لمنتوجاتها. ورغم أن تعميم التعليم إلى نهاية السلك الإعدادي بالمغرب و الحرص على مجّانيته، و خاصة بالعالم القروي، لم تكن الدولة في يوم من الأيام ترغب فيه و لا كانت تسعى لذلك نهائيا، لانها كانت ذائما تنظر الى العالم القروي باعتباره خزّانا للأصوات الانتخابية، تلجأ إليه الدولة في الاستحقاقات الإنتخابية لحسم نتائجها و تزويرها لصالح أحزابها الإدارية و السلطوية، و لا يمكن للدولة العميقة أن تتحكّم في هذا العالم القروي إلا إذا بقي هذا الأخير يعجّ بالأمية و الجهل و المرض و الفقر و القهر. و لذلك فتعميم التعليم الى نهاية السلك الإعدادي في العالم القروي جاء بضغط من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة كاليونيسكو و اليونيسيف و صندوق النقد الدولي و البنك العالمي و غيرها. ورغبة هذه المؤسسات الدولية في تعميم التعليم ليس في المغرب وحده بل في كل بلدان العالم، إنما أتت كاستجابة لحاجة كبريات الشركات العالمية المتعددة الجنسيات و العابرة للقارات المُنتِجة للتكنولوجيات الحديثة إلى توسيع الأسواق لتصريفها منتوجاتها الصناعية، حيث صارت الأمية عقبة حقيقية أمام استهلاك النّاس لمنتوجاتها، فمنتوجات معظم الشركات العالمية الكبرى في مجال الصناعات الإلكترونية و المعلوماتية، لا يمكن أن يستهلكها الأميون، فلكي يستهلك إنسان منتوجا معينا لشركة مايكروسوفت أو آبل أو جوجل و أو سامسونغ و لفهم لغة و رسائل الوصلات الإشهارية للمنتوجات هذه الشركات و غيرها لابد له من أن يتوفر على مستوى تعليميا يتجاوز الشهادة الإبتدائية، فالأمية تمثل عائقا كبيرا أمام استهلاك منتوجات هذه الشركات، و عليه تقوم تخصيص نسب معينة من أرباحها لدعم العمل الإنساني و التعليمي، و تمنحها لمختلف المنظمات الدولية التي تشتغل في مجال التعليم و محاربة الأمية، و هذه المنظمات تقدمها بدورها للدول المتخلفة(مثل المغرب) و تشترط عليها برامج لمحو الأمية و تعميم التعليم و إلزاميته إلى غاية سنّ البلوغ، مع تركيز على النساء في إطار ما يعرف بمقاربة النّوع. وبذلك يصير تعميم التعليم و محو الأمية في نظر و في الاستراتيجية البعيدة المدى لهذه الشركات الصناعية العملاقة مجرد آلية لتوسيع السوق الإستهلاكية لبضائعها، و تصير إلزامية التعليم إلى نهاية السلك السلك الإعدادي و حتى التأهيلي مجرد تأهيل للمستهلكين و تكوينهم ليتوفروا على مستوى تعلميا يسمح لهم و يساعدهم على استهلاك منتوجات كبرى الشركات العالمية في مجال المعلوميات و البرمجيات و الهواتف الذكية و الحواسيب و برامج القنوات الفضائية و أجهزتها، فالإنسان كلما ارتفع مستواه التعليمي تضاعفت حاجياته الإستهلاكية، و زادت رغبته في استهلاك المزيد من المنتوجات، و لذك تتنافس هذه الشركات العالمية على تقديم المزيد من الدعم لتلك المنظمات الدولية التي تشتغل في مجال التعليم، التي تقوم بدورها بتقديمها وفق برامج و بشروط لحكومات الدول المتخلفة و تلزمها بتعميم التعليم و محاربة الأمية. و إذا كان السياق الإقتصادي الدولي و التطور الكبير الذي عرفه قطاع التكنولوجيات الحديثة في العالم لا يسمح بإلغاء المجانية في التعليم بالسلكين الابتدائي و الثانوي في المغرب و غيره من دول العالم، فإن المجانية مهددة فعلا في التعليم الجامعي، لعدة اعتبارات مرتبطة بكونه بؤرة الزلازل السياسية التي تصيب الأنظمة السياسية المستبدة، بما يُخرِّجُ من الأطر السياسية و المثقفة و المناضلة و المنتجة للعلم و المعرفة، و التي تستطيع من خلال انخراطها في هموم شعوبها و تبنّي قضايا مجتمعاتها أن تقلب الأوضاع السياسية و الاجتماعية لهذه الشعوب و الدّول، و لهذا يتمّ التضييق على هذا التعليم بعدة وسائل، و من أهمها ضرب المجانية فيه.