مكافحة بامتياز، رغم صعوبة الحياة التي تعيشها فهي مناضلة، كافحت من أجل أولادها ولا زالت، لم تكتئب يوما ولم أر في وجهها ما يدل على اليأس والتذمر من القضاء والقدر. بعزيمة منقطعة النظير وبهمة عالية تبدأ صباحها تحت شعار "يا معين أعني فلا معين لي سواك". الكفاح طبع حياتها منذ الولادة، ناضلت من أجل الحفاظ على الشرف والقيم، لا تستطيع النظر في أعين الرجال فطبيعة تربيتها لم تسمح لها بذلك، الحياء لا يفارق وجهها البريئ والصمود أمام خيبات الأمل وتوالي الحسرات مبدؤها في الحياة. سألتها مرارا، لماذا أنت هكذا؟ فأنا أحزن كثيرا حينما أراك تعانين وتتألمين ومع ذلك لا تعاتبين؟ لم أتلق جوابا عن سؤالي، لكنها ابتسمت لي، ففهمت أن هناك أناسا يتنفسون الأمل، حتى وإن لم يكن هناك في الحياة أمل، تعلمت أن الصبر سلاح المؤمنين، وأن الصعاب والشدائد تهون. لم يسبق لي أن رأيت من الأمهات من تعشق أولادها مثلها، فهي متعلقة بهم إلى حد الجنون، لا تستطيع فراقهم رغم ضغط أبيها وأسرتها ومطالبتهم الطلاق من زوجها، فهو في تقديرهم غير قادر على تحمل المسؤولية في رعاية الأبناء والتكفل بهم وسد جوعهم، بما أن ابنتهم بعد العزة والشموخ، أصبحت تشتغل كخادمة في البيوت، تسأل المحسنين وتطرق الأبواب من أجل سعادة أولادها، فلا عيب في ذلك مادام أن الزوج في تلك المرحلة لم يكن يهتم، وكان مهملا لأسرته، حسب تعبيرها. صمدت أمام عنف أبيها وأخواتها ولم تستجب لرغبة تخليها عن الأبناء، خاصمت الكل وقطعت جميع علاقاتها التي كانت تفرض عليها ترك من أحبهم قلبها وتعلق بهم، إلى مراتب يمكن أن نقول عنها أحيانا غير معقولة، فهي عانت العقم سنوات طوال ولا تستطيع أن تتخلى عنهم. أحببتك أيتها الأم المكافحة، أسأل الله لك العون وأن يجازيك بالجنة فليس مثلك شيء. أتذكر جيدا ذاك اليوم حينما اختفى أحد أبنائها، ظلت كالمجنونة تصرخ في الشارع بحثا عن ابنتها، تعجبت كثيرا وحاولت فهم هستيريتها، بعد هنيهات قليلة وجدتها مختبئة في منزل إحدى الصديقات خوفا من بطش أبيها، ونظرة اجتماعية منحطة وصفتها ب "بنت السعاية". مرت السنين وكبر الأبناء فأصبحت الأم موضوع تعنيف من أبنائها !!! للأسف رغم كل التضحيات التي قدمتها والمعاناة التي واجهتها فإنهم لا يستحقون منها سوى القسوة والإقصاء، أحدهم يعنفها كما لو كان ذاك العنف مصدره الزوج وليس الابن، كنا نسمع بالعنف الذي تناله المرأة من زوجها، وكنا نحضر مواضيع لها صلة بعقوق الوالدين، لكن لم أتصور في نفسي ولو للحظة واحدة أن تصل درجة العقوق إلى مرحلة الضرب المبرح للأم وتعنيفها وإلحاق الأذى بها. نظر إلي نظرة حزن وحسرة، أعلم أن في جعبته أسئلة كثيرة، لكنه لا يملك القدرة على إحراجي وأن يقلق راحتي، لا يستطيع أن يتحمل سحابة دموع تعصف بأعيني. في كل مرة أراه، أتمنى أن لا أراه، فأنا لا أستطيع تحمل ذاك الثقل الذي يحمل على كاهله، أحب صبره وكفاحه، أعشق إيمانه العميق بيوم جديد يحمل الجديد، ومن المجد والعلو والشموخ يزيد. إلى جانب هذه الأم المعنفة، هناك أب عنف وضرب وقهر ... تحية خاصة لكما...أحس بكما وأدرك حجم معاناتكما...رزقكما الله الصبر، وجعل الجنة مثواكما.