«الإعدام الثاني لبنكيران»... لم يجد أحد المعلقين المغاربة ما هو أقسى من هذا التعبير لوصف ما جرى في حزب العدالة والتنمية المغربي. لقد رفض هذا الحزب الإسلامي التمديد لزعيمه عبد الإله بنكيران في الأمانة العامة للحزب بعد أن عُرض الأمر على المجلس الوطني للحسم ما إذا كان يقبل تعديل مادة تمنع أكثر من ولايتين متتاليتين في هذا المنصب. المقصود هنا بالإعدام الثاني هو أن الأول كان إزاحة الرجل من رئاسة الحكومة من قبل الملك محمد السادس في مارس/ آذار الماضي بعد عجزه عن تشكيل حكومة جديدة عقب فوز الحزب في الانتخابات البرلمانية مما فتح الباب أمام سعد الدين العثماني رئيس الحكومة الحالي وهو من الحزب ذاته. لم يكن عاديا في بلادنا العربية أن تتمسك الأحزاب بقوانينها الداخلية عندما يتعلق الأمر بزعيمها بل غالبا ما تطوعها لمصلحته، خاصة إذا كان هذا الزعيم من النوع القيادي عالي الحضور والشعبية مثل بنكيران الذي لم يزده إبعاده من رئاسة الحكومة سوى حضور لدى قطاعات واسعة من الجمهور المغربي رأت ظلما في إبعاده من قبل الملك الذي يحملون جماعته أصلا مسؤولية وضع العصي في دواليب بنكيران عندما كان يسعى جاهدا لتشكيل حكومته بعد أن أفلح في قيادة حزبه إلى فوز جديد في انتخابات كرست صدارته للخارطة الحزبية في المملكة. يقول الرجل عن قرار حزبه إنه «قرار مؤسساتي لا غبار عليه» وإن «المهم أن الحزب تجاوز هذا الخلاف بطريقة ديمقراطية ومؤسساتية» وإن «لا أحد يمكنه أن يتخيل أن فردا في العدالة والتنمية فضلا عن أن يكون الأمين العام يمكنه أن يشكك أو يناقش في قرار مؤسساتي». مثل هذا الكلام ينم، بغض النظر عن أي مرارة من الطبيعي أن تكون لديه، عن «روح رياضية» ليست من سمات حياتنا السياسية في البلاد العربية مع أنه سعى لتقديم الأمر على أنه كان «خلافيا بين فريقين في الحزب لم يكن بنكيران طرفا فيه». لم يكن سهلا أن يتخلص أي حزب من «بلدوزر» شعبي وانتخابي مثل بنكيران، ولا شك أن الحزب بغض النظر عن أي اعتبارات داخلية لديه أو أي حرص على احترام قوانينه ومؤسساته ومبدأ التداول على زعامته وكسر مبدأ تأبيد الزعامات وتقديسها، قد تعرض ل»اختراقات» ما أو ضغوطات من قبل جهات تروم التخلص من شخصية مثل بنكيران. شخصية لم يتردد البعض أحيانا في الهمس بأنه بات مزعجا حتى ل «المخزن» وللملك شخصيا بحكم الشعبية التي بات يتمتع بها بالنظر إلى قدرته على التواصل الجيد مع الناس وإجادة مخاطبتها بلغتها والعمل على حل الكثير من مشاكلها رغم كثرة المتربصين. ومع ذلك، ورغم ذلك، فإن ما جرى لا يمكن إلا أن يحسب للرجل ولحزبه وللتجربة الحزبية والديمقراطية في المغرب. ومن يدري فقد يكون ما حدث مطلقا لحركية جديدة لا أحد قادرا من الآن على الجزم إلى أين تتجه. لقد بدأ البعض في الترويج إلى أن من بين خيارات بنكيران، إلى جانب انتظار المؤتمر التاسع للحزب حيث يمكنه الرجوع إلى الأمانة العامة للحزب أو دعم مرشح مقرب منه إلى هذا المنصب، قرارا كبيرا هو «الانسحاب من حزب العدالة والتنمية نهائيا، والاتجاه إلى تأسيس حزب جديد بهوية سياسية واضحة، ودون ارتباط بجماعة دعوية، ولا بتاريخ للحركة الإسلامية، كما فعل أردوغان في تركيا، حيث غادر حزب الرفاه، الذي كان يقوده نجم الدين أربكان، بكل تناقضاته وأعطابه وعقده، واتجه إلى تأسيس حزب جديد اكتسح أول انتخابات لاحت أمامه» كما كتب الصحافي المغربي توفيق بوعشرين صاحب وصف «الإعدام الثاني». ليس من السهل لأي مراقب خارجي للساحة المغربية أن يستخلص حقيقة ما جرى بالفعل ولا الخلفيات التي تقف وراءه ولكن المشهد لا يبدو بمرارة ما قد يكون يشعر به بنكيران ومناصروه سواء داخل الحزب أو خارجه. قد لا يكون ما حصل لبنكيران منصفا للرجل وإسهاماته للحزب الذي قاده في أوج الأعاصير العربية التي هزت المنطقة العربية في السنوات الماضية ولكنه قد يكون أمرا ملهما لعديد الأحزاب لاسيما الإسلامية منها وبدرجة أخص «الإخوان المسلمين» الذين لم يكتفوا، كما الحالة المصرية، باختيار تسمية الزعيم «مرشدا» بل وتركه في منصبه حتى يبلغ من العمر عتيا مع قسم الولاء له والطاعة بما يتنافى مع أبسط قيم الديمقراطية وتنسيب الأحكام والقرارات في أي تجربة حكم تعددية سليمة. ومثلما كانت تجربتا «العدالة والتنمية» في المغرب و»النهضة» في تونس ملهمتين لكثير من التواقين لنماذج إسلامية مختلفة عن السائد في المشرق العربي، فقد يكون هذا الخروج لبنكيران، وهو ليس خروجا نهائيا من الساحة بالتأكيد، نموذجا لآخرين عساه يكسر بعض الرتابة أو التكلس ويفتح المجال أمام خوض تجارب أخرى لا يمكن إلا أن يتعلم منها الجميع ويتعظ. كاتب وإعلامي تونسي وصحافي قناة الجزيرة