راكمت البشرية عبر تاريخها أنظمة عديدة ومتباينة في موضوع التداول على المسؤولية إن على مستوى الدول أو على مستوى التنظيمات السياسية والنقابية و مؤسسات المجتمع المدني الأخرى؛ حيث تراوحت بين الخلود حتى الوفاة بل التوريث لكرسي القيادة، وبين تنظيم تصريف الرغبة في القيادة من خلال حصرها في ولاية أو أكثر مرورا بأنماط أخرى مزيج بين هذا وذاك بالتنصيص على ذلك في دساتيرها والأنظمة الأساسية المنظمة لسيرها. 1- الأنظمة الشمولية: يتأسس الخيار الشمولي على منطق الزعيم ( الديني – أوالمدني أو العسكري) الذي لا نظير له، ولا حياة بدونه ولا أمن أو تنمية إلا تحت قيادته الرشيدة، وعلى الرؤية الوحيدة – ما أريكم إلا ما أرى- فينزع نحو تقليم أظافر الطاقات والنخب المنافسة له وبالمقابل يعمد إلى تقريب النفعيين والمريدين فيعيد إنتاج نفسه على مر الزمن مما يكون سببا في السكتة القلبية للمجتمع وتوقف التنمية وشيوع الفساد ونهاية حتمية بالسقوط عاجلا أو آجلا. 2- الأنظمة الديمقراطية: الرغبة في القيادة نزعة دفينة في الإنسان وتنظيم تصريفها بأية صيغة حقيقة وصلت البشرية إليها بعد أداء ضرائب موجعة على مستوى أرواح البشرية ومختلف أشكال رأس المال. فالمردودية الفردية على مستوى التدبير والإدارة في هذا العصر- متعدد محاور الاشتغال وبالسرعات المطلوبة والحضور المستمر وبالمعيقات المتعددة- تصل ذروتها في عقد من الزمن على الأكثر مهما كانت طاقة القائد وتحمله، لذلك انتهت صيغ التنظيم إلى التداول على السلطة والمسؤولية وحصر مدة التداول في ولايتين عموما مما جنب تلك الدول الاقتتال الداخلي والتآكل البيني. 3- التيارات الإسلامية ومسالة التداول: حصيلة معظم التيارات الإسلامية على هذا المستوى هي خليط بين الشمولية والديمقراطية بنسب متفاوتة ظاهرا أو باطنا، إعلانا أو إضمارا، تصريحا أوتلميحا؛ ذلك أن معظم منتسبيها يخلط بين قدسية النص الشرعي وإنسانية الاشتغال عليه وتنزيله، بين تعظيم الفكرة والمنهج وبشرية القائد. بين الطاعة والمسؤولية الفردية، بين الإخلاص للمبادئ والواقعية مما لا يسعفها مع مرور الزمن في الالتفاف حول الفكرة والمنهج وتحجيم صورة الزعيم بل على العكس تعلو الشخصنة والتعصب للرأي وتخفت المقاصد والأهداف، فتنشغل بالوسائل على حساب الغايات. وفي هذا المضمار قد نجد توجهات ذات مرجعية إسلامية تعتمد قوانين تنظيمية مؤطرة لعملها لا تقل ديمقراطية عن نصوص الدول الديمقراطية لكنها -أو على الأقل بعض منتسبيها – على مستوى الأداء تعرف قسطا من المريدية والمشيخة، والنسج على منوال، والنسخ غير الأصلية والطاعة وخشية الفتنة و….. مما تتعطل معه عقول هؤلاء وتتحول إلى ساعي بريد فكري فتكون مهيأة للتلقي فقط وليس للإنتاج العقلي والاستقلالية في التفكير فيما هو خاضع للعقل، في مقابل اشتغال عقل الزعيم وترتيبه للأمور فيتيسر له التحكم في مقاليد الأمور والأشخاص بل قد يذهب إلى الاستخفاف بالآخرين وإلى الديكتاتورية. السيناريوهات الممكنة في مسألة التداول بالنسبة لحالة حزب العدالة: – السيناريو 1: عدم التمديد لولاية ثالثة للأمين العام والانتصار للنص القانوني من طرف المؤتمر رغم الموافقة العريضة على تعديل المادة 16 من طرف لجنة الأنظمة والمساطر التابعة للمجلس الوطني: هذا الخيار مؤسس على مبدأ راكمت فيه الديمقراطية الغربية رصيدا محترما مفاده أن الهيئات أكبر من الأشخاص، والمؤسسات أضمن من الأفراد وهو ما يسمى بالفكر المؤسساتي الذي هو مجموع الممارسات الجماعية في منهج واحد تعترف بالتنوع والتجديد والمقاربات المتعددة؛ فتتمكن بذلك من استيعاب مختلف الطاقات والعقول وتجعلها تصب في خدمة الدولة أو الهيئة المعنية مما يرد الدولة منبتا حيويا لصناعة القادة عوض القائد الاوحد أو الزعيم. – السيناريو 2: التمديد لولاية ثالثة للأمين العام خلال المؤتمر وموافقة هذا الأخير: من دواعي هذا الخيار كون الحزب عرف في الولايتين السابقة تمكينا واضحا في مختلف الاستحقاقات الانتخابية ومواجهة غير معلنة مع باطن الدولة، وحركية سياسية لم يعرفها المشهد السياسي من قبل مؤسسة على "المحبة ثابتة والصواب يكون" على مستوى العلاقة مع القصر، والندية مع أحزاب الإدارة وخاصة وكيلها حينئذ حزب الأصالة والمعاصرة، والفرجة مع المتتبع السياسي، والانضباط المفرط على المستوى الداخلي للحزب. هذا الخيار في نظر المتحمسين له ضمان لاستمرار صعود نجم الحزب، وعنوان وفاء لقيادة وصلت بهذا الأخير للتتويج السياسي رغم أنف "منظمي مسيرة ولد زروال" والحملة الإعلامية الهوجاء، والتدبير الأحادي للعملية الانتخابية و…، مما عرفته استحقاقات شتنبر الجماعية وأكتوبر النيابية، وانتصار للزعيم وللعملية الانتخابية لسابع أكتوبر التي تم بعدها الترامي على رأي الناخب في ما سمي انقلاب 8 أكتوبر وما تلاه من عرقلة أو " بلوكاج" في تشكيل الحكومة، ونكاية بالدولة العميقة ومن يدور في فلكها بل ورسالة لمن يهمه الأمر أن الحزب له قراره السياسي رغم كل التدخلات، وأنه لن يلدغ من الجحر الذي لدغت منه جميع الأحزاب الوطنية، وأنه لا يزال يمثل الاستثناء. غير أنه في تقدير المعارضين لهذا السيناريو يعتبرا هذا الخيار غيرآمن وغيرمضمون النتائج والمآلات وفيه الكثير من العاطفية والقليل من العقلانية؛ إذ لا يعدو أن يكون رد فعل عن تدخلات سافرة في مسار الحزب من الجهات المعلومة، ونكوصا عن المنهجية الديمقراطية وليس فعلا استراتيجيا يتسم بالعقلانية وبعد النظر خاصة أن ضريبته داخل الحزب ستكون نكوصا عن القناعات التي أسس عليها الحزب بنيانه في المشهد السياسي المغربي والذي عنوانه إعلاء كلمة المؤسسة على كلمة الزعيم، وأن الحزب لا يعاني من عقم صناعة القادة، وأن الزعيم ليس هو وحده صانع انتصارات الحزب إنما مجموع المناضلات والمناضلين هم صانعو النصر، ومن حق كل واحدة وواحد منهم أن يلج مؤسسة التكوين ذاتها( القيادة) التي تيسرت للزعيم الحالي من أجل صناعة قادة للحزب وليس قائد وحيد سيضطر معه الحزب مرة أخرى للتمديد مرة رابعة وخامسة وكأنه الوحيد المؤهل للقيادة مما ستكون نتيجته الاستقطاب الداخلي والانشقاق الحتمي الحزب تدريجيا كما في التجارب المشابهة وطنيا ودوليا. أما ضريبته الأخرى فستكون إعلان المواجهة مع ظاهر الدولة وليس بمقدورالحزب تحمل تبعات تلك المواجهة في محيط دولي حرصت فيه الدولة على استيعاب الحزب عوض إقصائه كلية كما هو المشهد في غير بلد من بلدان العالم الإسلامي مع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. كما يسجل معارضو هذا الخيار (وهم من الواقعيين الذين احتكوا بالإدارة وخبروا أحجامهم إزاءها( تيار الوزراء)، أو من المبدئيين غير الممارسين الذين يبقون أوفياء للمساطر والنظم بنسبة عالية لعدم احتكاكهم مع الممارسة السياسية ومعرفة نسبيتها وإكراهاتها ( تيار حركة التوحيد والإصلاح) أن اللجوء لتعديل المادة 16 يندرج في سياسة إرضاء وجبر الخواطر (خاطر الأمين العام وخاطر رئيس المجلس الوطني خلافا لبقية الخواطر من مختلف المسؤوليات التنظيمية) ولا يندرج ضمن الفعل السياسي المنهجي الصارم. – السيناريو 3: التمديد لولاية ثالثة للأمين العام خلال المؤتمر ورفض هذا الأخير. يعتبر هذا السيناريو في نظر البعض- وإن يبدو مستبعدا- الخيار الأضمن لتماسك للحزب واستمرار إشعاعه الديمقراطي. فهو من جهة يعكس وفاء المناضلين والمناضلات للقادة واستقلالية القرار الحزبي وفي ذات الوقت يترجم نضج القائد ووعيه وتفكيره الموضوعي والاستراتيجي، وإعلائه المصلحة العامة على الذاتية، والعقل على العاطفة، والانتصار للحق وليس للذات. على شرط أن يستمرضمن القيادة الوطنية اللاحقة (الأمانة العامة) للمساهمة في استقلالية القرار الحزبي، والاستفادة من الخبرة السابقة أي من القيادة إلى الجندية مرة أخرى وتلك علامة من علامات الإخلاص في الفعل؛ فالمدرب الناجح يودع في أوج العطاء لعلمه أن بعد الأوج تراجع وعد عكسي، وأن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة، وأن قانون الحضارات ينطبق على الأفراد والهيئات على السواء. خلاصة: يبقى المؤتمر سيد نفسه كما هو متعارف عليه غير أن حداثة منتسبي الحزب بعالم السياسة يفرض التوجيه بأن القوانين الكونية (السنن) التي تحكم التنظيمات موحدة ولا تحابي أحدا وكل نكوص عنها ستؤدى ضريبته الجهة المعنية سواء كان لواؤها يحمل مصحفا أو قنينة نبيذ وخاصة فيما لا نص صريح فيه وأوكل للاجتهاد البشري كما هو الشأن بالنسبة لصيغ وأشكال التدبير المدني.