يواصل حزب العدالة والتنمية إخراج اللحظة الانتخابية من سياقها السياسي المحض, القائم على المنافسة فيما بين البرامج الحزبية, إلى لحظة جهاد تباح فيها كل الأسلحة المتاحة رغبة في ربح أكبر مساحة ممكنة من فضاءات تدبير الشأن العام كخطوة أولى في أفق تثبيت المشروع الديني / السياسي للحزب الذي بدأت تتضح معالمه شيئا فشيئا. إن حزب العدالة والتنمية أبى إلا أن يجعل من الدين مرة أخرى مطية لتحقيق أهدافه السياسية, لكن هذه المرة عبر بوابة سلفية لا يجمعها بالحزب لا القناعات السياسية ولا النضالات المشتركة ولا المنطلقات الفقهية. لقد دفعت حمى الانتخابات حزب العدالة والتنمية إلى ترشيح السلفي حماد القباج على رأس لائحة الحزب بدائرة جليز النخيل بمراكش كهدية لدعمه لعبد الإله بنكيران خلال انتخابات 4 شتنبر 2015, واعتباره آنذاك التصويت على حزب العدالة والتنمية "واجب شرعي" ومن "تقوى الله", وقصفه باقي الأحزاب الوطنية ونعت قياداتها "بالتكفير والرجس والخروج عن ملة الدين". فأي موطأ لأفكار القباج ضمن البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية وهو سليل مدارس محمد بن عبد الرحمن المغراوي صاحب فتوى زواج الطفلة ذات التسع سنوات, والناطق الرسمي لجمعيته "الدعوة إلى القرآن والسنة, بل هو الرئيس العام لتنسيقيات "دور القرآن" التي أثبتت الممارسة إنتاجها لأفكار عدمية دفعت من تلاميذتها إلى الارتماء في أحضان بعض التنظيمات المتطرفة. ترى هل استشعر حزب العدالة والتنمية أنه يحتاج خلال المرحلة المقبلة إلى من يذكره بالمنطلقات الفكرية التي تشبع بها قادته أيام العمل السري ضمن الحركات الإسلامية, هل الرغبة في وجود القباج ضمن الفريق البرلماني للحزب يحكمها الطموح في إضافة جرعة جديدة من الفكر الظلامي وتجسيده في القوانين والسياسات العمومية؟. الأكيد أن هذه الخطوة كشفت عن تخلي الحزب عن جزب من "تقيته". والله وحده يعلم ما تبقى من هذه التقية, وما تخفيه معها من مشروع سياسي بعيد كل البعد عما يرتضيه المغاربة. إن حزب العدالة والتنمية يستغل بكل وضوح الآليات الديمقراطية، التي تم إرساؤها بفضل نضالات الأحزاب الوطنية، ليعبد الطريق أمام دعاة التطرف لولوج المؤسسات الدستورية، وما يشكله ذلك من نكوص وتراجع عن القيم الديمقراطية، ومن تخلف عن المنهج الوسطي المعتدل، الذي اختارته المملكة المغربية كسبيل وخيار يحفظ وحدة المغاربة ويصون استقرارهم. لقد كان من الأولى للحزب أن يحرص على احترام الممارسة الديمقراطية داخل صفوفه وأن يعكس إرادة تنظيماته المحلية، فكيف سيستسيغ أعضاء الحزب قيام قيادته بنسف مجهوداتهم التنظيمية لتضع على رأس اللائحة شخص لم يسبق له أن تحمل عناء العمل الحزبي. فالقواعد تشتغل والقيادة ترضي طموحاتها الفكرية بعيدا عن إرادة مناضليها. ولعل هذا ما يفسر النزيف الذي أصاب صفوف الحزب خلال الفترة الأخيرة من خلال الكم الهائل من الاستقالات غير المسبوقة التي قدمها مناضلو الحزب في مختلف المناطق، كتعبير عن رفضهم لديكتاتورية القيادة، وسعيها إلى هندسة الخريطة الانتخابية للحزب بما يخدم مصالحها السياسية، ويضمن استمرارها على رأس الحزب ضدا في قوانينه وأنظمته الداخلية. وإذا كان هناك من أعضاء الحزب السابقين من اختار الانسحاب بهدوء بعدما اكتشف الخديعة، فإن البعض الآخر اختار أن يوثق لتجربته داخل هذا الحزب ليبرز مستوى التناقضات الحاصلة بين الخطاب والممارسة، بل منهم من قدم اعتذاره للمغاربة لأنه كان من الآلات التي سوقت لوهم اسمه حزب العدالة والتنمية. من جانب آخر، تبقى براغماتية الحزب أكبر مما يتصور خصومه. فاللجوء إلى الاستفادة من الخزان الانتخابي للتيار السلفي أتى مباشرة، من حيث التوقيت، بعد الفضيحة الجنسية ل«عمر وفاطمة» واستشعاره الحرج الذي وقعت فيه حركة التوحيد والإصلاح من جراء هذا الفعل الشنيع الذي أماط اللثام على الوجه الحقيقي للحركة والحزب واتخاذهما الدين مطية لتحقيق مآرب سياسية. ومن ثمة تفتقت عبقرية القيادة للبحث عن سند جديد قد تعوض به الأصوات الانتخابية التي قد تخسرها من جراء تراجع شعبية ذراعها الدعوي. ولا عجب من ذلك فهي تبحث دائما عن الحلول من دائرة «تجار الدين»، وليس مما جادت به العقول من أفكار ومشاريع تقدم للمواطنين خلال الفترة الانتخابية. حقا غريب أمر هذا الحزب ومثير للشك إصراره على التوجه رأسا نحو التطرف عوض الارتقاء بتجربته السياسية وجعلها مرجعا تستنير به الأجيال المقبلة على غرار ما ساهمت به الهيئات الوطينة المناضلة والقامات السياسية الكبرى التي اختارت خدمة الوطن من زاوية مصلحته العليا واستمرارها على مر الأزمنة لا رهن هذه المصلحة المقدسة خدمة لأجندات معينة. لقد سقط القناع واتضحت نوايا الحزب في فرض هيمنته الإيديوليوجية الظلامية على المجتمع وعلى مؤسسات الدولة، وهو الآن يسعى، من خلال مثل هذه الترشيحات المشبوهة، لتجديد الدماء في صفوف قيادته، بعدما انكشفت الحقيقة حول بعض هذه القيادات التي لم تقاوم نزواتها، وسقطت فريسة للنفاق بمختلف تجلياته الدينية والسياسية والاجتماعية. الأكيد أن تجربة كهاته لن يكون مصيرها سوى الفشل، لاسيما مع توالي الفضائح والأخطاء التي ارتكبتها قيادات الحزب وذراعه الدعوي والتي لا تولد لدى المواطن المغربي سوى الإصرار نحو حماية تجربته السياسية الرائدة ودرء كل ما من شأنه أن يفسد تطورها. فلا مكان بيننا إذن لمن يحلم بدولة تسعة لوحده، ولا مكان لمن يرفض قوانين الدولة ويعتبرها قوانين «مخالفة لشرع الله»، ولا مكان لمن قال فيهم عز وجل «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون».