جيل خدام الدولة الساذجين: هؤلاء كائنات رخوية، صنعتهم من الألف إلى الياء معامل وزارة الداخلية، وقد عمروا طويلا من الستينات، وبالضبط منذ إقالة حكومة عبدالله ابراهيم الوطنية إلى حدود التسعينيات، وقد تجسدوا في جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية بقيادة رضا اكديرة والحركة الشعبية بقيادة أحرضان والخطيب، ثم انطلق سيل هذا التيار مع الحزب الوطني الديمقراطي فالأحرار فالاتحاد الدستوري..الخ، الذين اكتسحوا كل البرلمانات التي كانت تهندسها وزارة الداخلية حسب مزاجها المتقلب، فكانت عند كل استحقاق انتخابي تقوم بإنشاء حزب جديد، يولد بالتمام والكمال ومعاليق الذهب في فمه، تهرب له الأصوات من كل فج عميق، وتسرق صناديق الاقتراع من المقرات لتعبأ في القيادات والعمالات لصالحه، وكان سقفه المعرفي والسياسي لا يتجاوز ما كان يسميه ب"الديمقراطية الحسنية"، وتعميم ثقافة التصفيق والهتاف، ولا تفتح مقراته إلا في الأعياد الوطنية والاستحقاقات الانتخابية، مقابل إغداق كل أشكال الريع الاقتصادي والسياسي عليه، وقد نفذت بطارية هذا الجيل من السياسيين، واكتفت وزارة الداخلية بتحويله إلى هامش، تكمل به الأغلبيات لتشكيل حكوماتها!. جيل خدام الدولة الايديولوجيين "يساريين أو إسلاميين": هذا الجيل من خدام الدولة، له قدرة على التسويغ الديني أو الايديولوجي لسياسات الدولة، نظرا لما تتمتع به أحزابه من قواعد ارتكاز شعبية، وأرصدة معرفية وتجارب سياسية ميدانية، وقد تظهر حاجة السلطة إلى هذا الجيل من السياسيين عند الأزمات، والخوف من الانفجارات الاجتماعية والسياسية، فيتم التمكين النسبي والمحدود لهذا الجيل، قصد إعادة رصيد الدولة الذي قد يكون قد تآكل وتبدد بفعل سياسات خاطئة، وقد مثل هذا الجيل الاتحاد الاشتراكي وباقي أحزاب الكتلة، بقيادة عبدالرحمان اليوسفي الذي ترأس حكومة التناوب، لضمان انتقال سلس للسلطة، فانطلق بكل ثقله ورأسماله الرمزي، إلى كل الساحات السياسية، ليبشر بعهد جديد، تنطلق فيه الأوراش التنموية، ويتحقق فيه التناوب السياسي، ويمكن فيه للمشروع الديمقراطي الحداثي، وبعدما انتهى جدول أعماله، وجد نفسه خارج مجال الخدمة. وبعد اندلاع موجات الحراك الديمقراطي لحركة 20 فبراير المجيدة، وجد النظام نفسه مرة أخرى بحاجة إلى خدمات هذا الجيل، فكان حزب العدالة والتنمية - حسب الأجنذات- هو المؤهل للقيام بهذا الدور، لأنه أبانة على قدرة فائقة في تبرير وتسويغ سياسة الدولة، وإعادة ترميم شرعيتها المنهارة، ومثلت الظاهرة الكيرانية، حالة من الشعبوية استطاعت أن تنهج سياسات لا شعبية، وامتلكت من الوقاحة السياسية ما لا تحيط به أقلام، على تمريرها وإقناع الضحايا بها، باعتبارها الحل الوحيد لإنقاذ البلاد والعباد من المجهول، كما استطاعت تفكيك حركات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي، وتجميد نضالاتها، وتبديد أرصدتها، وإرباك تحركاتها، بشكل تجاوز كل التوقعات، ولما قضى وطره، واستنفذ أغراضه، صار الآن والهنا ثقيل الظل، ومطلوب إزاحته بالتي هي أحسن، وإن بدا مقاومة كما هو الحال والمآل فبالتي هي أخشن، فالدولة لا أخلاق لها ولا قيم، فهي تجازي خدامها بعد نهاية الخدمة بشكل مهين ومبتذل! جيل خدام الدولة المتحكمين: هذا الجيل هو يد الدولة الباطشة التي خرجت من الخفاء الى العلن، وظيفته إعادة إنتاج الطاعة والاذعان، كان ولايزال له فائض من الحضور القوي، في كامل تفاصيل الحياة السياسية وتجاعيدها المختلفة، يمارس سلطة التدبير ولو أنه ليس له أية مسؤولية حكومية أو إدارية، ويختطف المجال الحيوي من أيدي أصحابه المنتخبون، ويراكم النفوذ، وله كامل المجال الريعي المالي يقسمه بين مكوناته، ويستثمر قوته في التحكم في مجالات جغرافية معينة، وبناء شبكة من العلاقات التراتبية ملتبسة، تجند الجانحين وأصحاب السوابق، لممارسة البلطجة السياسية. هذا الجيل يعبر عن موت السياسة والسياسيين، ويعكس رغبة الدولة الاستبدادية، في خلق حزبها الأغلبي، حيث يتماهي فيها خدام الدولة المنتخبون والمؤقتون بخدام الدولة المعينون والدائمون ، ويصبح التحكم هو عنوان الممارسة السياسية، إنها عملية اصطفاف طبيعية تنتجها الدولة الاستبدادية ببنيتها العميقة من الأعيان وأبناء الذوات ومافيا المال والأعمال وتجار المخدرات.. ويمثل هذا الجيل اليوم في ساحة الركح السياسي حزب البام وملحقاته. وإذا كان خدام الدولة الساذجين يمارسون تحكما جزئيا، وبوسائل مائعة، فإن خدام الدولة المتحكمين يمارسونه بشكل شامل وبوسائل صلبة، أما خذام الدولة الايديولوجيين فهم بدون سلطة، فهم مجرد أداة تبرير ذرائعي، يتعامل معهم المخزن بحذر كبير، لأن السلاطين منذ القدم لا تطمئن لأصحاب القلم، فالقلم ينبغي أن يبقى منزوعة السلطة، لأنه لا يكتفي بالإقرار بالواقع، بل يخط ما ينبغي أن يكون، وفي ذلك لا يؤمن جانبه، فينبغي تقديم السيف على القلم، وعادت السيف أن يستعبد القلم.. وهناك بين هذه الأجيال الثلاثة خدام أخرون يخدمون الدولة بوسائل كامنة، مثل التيارات السلفية اليمينية، التي تشيع الانكفاء الديني والتاريخي أمام سلطة التغلب والنفوذ، وتربط أتباعها بقضايا جزئية خلافية، ومثل التيارات الثورجية اليسارية العدمية، التي تميع الفرز السياسي الأفقي، وتشيع الصراعات الايديولوجيا العمودية، وتضحي بالديمقراطية من أجل القضاء على التيارات الدينية والأصولية، ولو بالتحالف مع ما تسميه بالاستبداد المتنور، وهي بذلك تمثل خزانا بشريا وايديولوجا للجيل الثالث من خدام الدولة المتحكمين!