كثيرا ما نحلل أسباب تطور دول دون أخرى، وسبب تخلف مجتمعات بعد علوها وتقدمها. ولكن قليلا ما نغوص في دواليب السنن الكونية التي تؤدي إلى ديمومة هذه الدولواستمرارية تطورها. ومن هذه السنن الشبه الغائبة عن التحليل هي القيم الأخلاقية والتي لها الأثر الرئيسي في تحريك الشعوب نحو التفاني في العطاء وخدمة الوطن. وهنا أعتمد في تحليلي مستدلا بتجربة النهوض في اليابان بسبب اعتماد هذه الدولة لعدة قيم مكنتها من تبوء مصاف الدول المتقدمة كما أنها آمانت بأن "الأخلاق" هي أساس النجاح في بناء شخصية الإنسان وتعامله مع مجتمعه . وأنا أعلم بأنني لن أستطيع سرد جميع هذه القيم وإيفاء حقها لكنني سوف أحاول أن أوضح للقارئ القيم التي كانت حاضرة في كينونة الشعب الياباني والتي للأسف ظلت ولا تزال غائبة عن الشعب العربي ومن خلال كتابتي سوف أستند على بضع نقاط تطرق إليها الدكتور سلمان بونعمان في تأليفه لكتاب "التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي". أولى هذه القيم التي أعتقد أنها غائبة عن مجتمعاتنا العربية هي التعلم من تجارب الآخرين والاستفادة من خبراتهم، حيث أننا طوينا أنفسنا في صفحات ماضينا "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فعليه بها" والتي كانت جوهر النهوض عند كينونة اليابانين. لكن وجب الإيضاح في هذا الموضع بأن الاستفادة من خبرات الآخرين لا يعني الركون إلى هذه التجارب واستنساخها في بلداننا، لأن هذا يفقد العقل البشري القدرة على الإبداع والتطور كما يجعلنا متكئين على نموذج لا ينسجم تماما مع معطيات بلادنا. فالمقلد لا يمكن له أن يحقق نهضة حضارية لأنه يظل حبيسا مقيدا بالنموذج المثالي، ولكن المجدد هو من يستطيع تحليل قدرات الآخر وإعتماد خططا وطنية قابلة على جعل الدولة في مصاف الدول المتقدمة. وقد استطاعت اليابان أن تحافظ على تقاليدها مع التعلم منالشرق والغرب. فالمعرفة التي أخذها اليابانيون عن الغرب اقتصرت على الجانب المادي بما يتضمن العلوم والتكنولوجيا بالإضافة إلى التدبير السياسي والمالي. أما التجربة الصينية فقد انحسرت على الأساس الروحيوراء فلسفة الحكم والقيم المجتمعية. حتى أضحى شعار النهضة اليابانية "التكنيك الغربي، أما الروح اليابانية". وقد كانت لهذه المقولة المحرك الرئيسي في إرسال البعثات الدراسية لتعلم معارف الغرب والاحتكاك مع كافة مؤسساته. بالإضافة إلى ذلك، اعتماد الحكومة سياسة إدخال كافة قطع التكنولوجيا وإعادة إنتاجها من أجل تعلم طريقة تشغيل الآلات وإصلاحها وإعادة صناعة آلات شبيهة متلائمة مع احتياجات البلد. وكفى بنا مقولة إمبراطور اليابان حينما قال: "بدأنا من حيث ما انتهى منه الآخرون وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير". فهل من مدبر؟؟ أما القيمة الثانية والتي أعتقد أنها وللأسف غائبة عن عالمنا العربي هي المتلخصة في تقديس الوقت والانضباط والإخلاص في العمل. وللأسف، نرى أن إنتاجية المواطن العربي من أقل الإنتاجات عالميا. حيث خلصت دراسة أجراها اتحاد تنمية الموارد البشرية في مصر إلى أن معدل إنتاجية الموظف الحكومي تتراوح بين 18 إلى 25 دقيقة يوميا. وإذا قارنا مع معدل ساعات عمل المواطن الألماني والأمريكي لوجدنا تفاوتا واضحا في ساعات العمل، حيث وبحسب جريدة اليوم الإلكترونية سنة 2003، يعمل المواطن الألماني بمعدل 35 ساعة أسبوعيا ولوجدنا أن المواطن الأمريكي يعمل بمعدل 400 ساعة سنويا. ومن خلال التجربة اليابانية، وجب أولا التركيز على قضية أن الرهان الرئيسي كان على الإنسان الياباني وقد قدر الجهاز البيروقراطي هذه الكفاءة الشخصية كمحرك رئيسي للاقتصاد الياباني. فقد ركزت التجربة اليابانية على غرس عناصر الطموح والتضحية والتحدي، حتى أضحى الإنسان الياباني قابلا للانتصار على المادة وصانعا للتغييرات الجذرية في المجتمعات. ولذلك نرى أن اليابانيين شعب منتج حريص على تقدم وتفوق بلادهم مستندين بمقولة: "كل يد ينبغي أن تعمل". ولعلنا نستدل بتجربة الباحث الياباني الذي كان من البعثات الدراسية في ألمانيا، حيث قال: "قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم... وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان، قطعة قطعة... ودخل "الميكادو" وانحنينا نحييه، وابتسم، وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي". إذا من الممكن الاستنتاج بأن الإنسان الياباني يقدس العمل ودوره على إعمار الأرض وإيمانه بأن لعطاءه دورا إيجابيا و المجتمع. وبذلك استطاع الشعب الياباني بعزم ونشاط أن يكون قدوة في جل المجالات ومن أهمها الوصول إلى مستوى متقدم في المجال التقني. وبالتأكيد لا نستطيع غض البصر عن أهمية الوحدة التي جمعت جل طوائف الشعب الواحد، وكما أصبح معروفا وللأسف "فقد اتفق العرب على أن لا يتفقوا". وجعلت الأحزاب المرجع الفكري والديني والوطني الأساس من أجل الوصول إلى سدة الحكم بدل الاعتصام بالوحدة ودفع الطاقة الخلاقة نحو خدمة الأمة وكفانا بالتجربة اليابانية من العبر. فقد عُرفت مرحلة توكواغوا بتفشي روح الجماعة والعمل كفريق واحد والتي تقدم مصلحة المجتمع على جل المصالح الفردية. وقد تمثل هذا في لملمة طوابق مجتمعية وسياسية شتى تلخصت في تخلي حكام المقاطعات من الدايميو عن نزعتهم الانفصالية والخضوع الطوعي للسلطة المركزية كما تنازل شرائح شتى من الساموراي عن امتيازاتهم التقليدية واندماجهم مع التجار ورجال الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، وكما ركزنا آنفا أضحى التقدير للكفاءة الشخصية بديلا عن المحسوبية أو البيروقراطية. فلم يعد غريبا أن تجد قيم التسامح ومراعاة الغير في الأماكن العامة كمحطات القطار والتي يتسم فيها معظم المجتمع بهدوء وسكينة واحترام. فهل من متعظ؟ إذا هذه بعض من القيم التي كانت وراء نهضة اليابان وسموه الحضاري، فهل هناك يا ترى نهضة حضارية دون الاقتداء بقيم معينة؟ أم أننا اختصرنا تقدم الدول في بضع بنايات وعمارات ومناهج لا تؤمن ولا تغني من جوع؟ فمتى يا ترى نستفيق من غفوتنا ونتجه نحو تبني مناهج تربوية وأخلاقية تعيد لكينونتنا أهمية الإخلاص والوحدة والعمل من أجل الرقي بمجتمعاتنا؟