إذا كان منسوب الديمقراطية وجهود إرساء دولة الحق والقانون يزداد بزيادة منسوب حرية الصحافة وحرية التعبير وكذا بحجم التأثير الإيجابي والمسؤول الذي تحدثه ممارسة هذه الحرية، فإن الانحدار الخطير والوضع المتردي الذي أصبحت تعيشه مهنة الصحافة في العديد من المنابر الإعلامية الوطنية، يدفع إلى التساؤل عن مستوى هذا المنسوب الذي ستكسبه ديمقراطيتنا وفضائنا الحقوقي في ظل هذا الواقع المؤلم، كما يدفع إلى الخوف من انتعاشة النزعة النكوصية التي تهدد الرصيد الذي اكتسبه المغرب بعد الحراك الشعبي الذي عرفته بلادنا في 2011، توج بدستور جديد ترجم جزءا كبيرا من طموحات ذلك الحراك ومطالبه. وفي الوقت الذي حظيت فيه حرية الصحافة بحماية دستورية كبيرة كفلت للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، عرفت الساحة الإعلامية على خلفيته حراكا حقوقيا وسياسيا وسجالا فكريا ساخنا حول حزمة قوانين مدونة الصحافة والنشر توجت بالمصادقة البرلمانية أخيرا، كان ميدان الصحافة يشهد حراكا من نوع آخر على مستويين، إعادة ترتيب المواقع والاصطفافات من جهة، وتكييف مفردات الخطاب وضبط الإيقاع من جهة ثانية. إن ما تعيشه الصحافة المغربية في الآونة الأخيرة والوجه الذي أصبحت تمارس وتظهر به، وبالخصوص في الشهور الأخيرة التي تسبق استحقاقات 7 أكتوبر، تكشف بوضوح حجم الفساد الذي أصاب الجسم ومدى استفحال أزمة المهنية، والانحراف الخطير الذي تشهده ممارسة حرية التعبير والتدني الساحق الذي سقط فيه الخطاب. كما أبانت بجلاء أن النضال من أجل حرية الصحافة في إطار ثنائية الحرية والسلطة، لم يعد ممكنا، في ظل حالة هذا الجسم العليل، الذي أنهكه تناسل الفيروسات وأفقده القدرة على النزال. لقد كان الجسم الصحافي في تاريخه، كباقي مناشط الحياة، لا يسلم من أمراض وأخطاء وظهور بعض الطفيليات، لكنها كانت، متحملة إلى حد ما، ومقدور عليها أو على تجاهلها، بحكم أن جبهة إسناد المقاومة والدفاع عن حرية الصحافة كانت تملك منسوبا مقدرا من المناعة الأخلاقية والحصانة السياسية. لكننا اليوم نقف عند منعطف خطير وتحول صعب، حين نرى جزءا من تلك المناعة وتلك الحصانة يصاب بالضعف. وأصبحنا ملزمين بإعادة النظر في مدلولات بعض المفاهيم، والبحث عن أجوبة أخرى غير التقليدية المعروفة، عن أسئلة من قبيل : التحرر من ماذا؟.. هل التحرر المبتغى اليوم يكون من التحكم خارج الدائرة أم من سلطة ومؤثرات الداخل الهادفة إلى صرف الصحافة عن أداء مهامها؟ ولمن ننشد الحرية: هل للصحافي في ممارسة وظيفته بمهنية وأخلاق ومسؤولية أم لقراصنة المنابر والمتاجرين بسلطتها؟ وما الهدف من التحرر.. ممارسة التنوير والرقابة وأداء رسالة الإصلاح؟ أم قل ما شئت واكتب ما بدا لك بلا قيود ولا ضوابط حتى وإن خضت في أعراض الناس وانتهكت حرماتهم؟ "إن حرية الصحافة مسؤولية أولا، ولا يمكنها أن تكون مطلقة بل تحكمها ضوابط قانونية وأخلاقية واجتماعية، نص على إمكانية وضعها دستور المملكة وأجازها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وكذا الميثاق العربي لحقوق الإنسان، احتراما لحقوق الآخرين أو سمعتهم، أو حماية للأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة". وتبعا لذلك فإن ضبط التوازن بين الحرية والمسؤولية أمر بالغ الأهمية. لكن من يضبط هذا التوازن، وما الوسائل الكفيلة بتحقيقه؟ أول جهة يجب أن تسأل هي النقابة الوطنية للصحافة المغربية، عن الجهود التي تبذلها لحماية المهنة، فبالقدر الذي تكون فيه النقابة ملزمة بالنضال على الواجهة المطلبية لحماية الصحافي فمن واجبها حمله على التزام المهنية واحترام أخلاقياتها. ثاني جهة هي الهيأة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير التي تأسست في 2002 وضمت في عضويتها صحفيين وناشرين وهيئات حقوقية وشخصيات مهتمة بالمجال الإعلامي، ولم ير لها أثر منذ ذلك التاريخ، وهي التي جعلت من أهدافها "تشكيل سلطة أخلاقية لتقويم السلوك المهني، ومواجهة كل التجاوزات التي تضر بكرامة الأشخاص وشرفهم أو تلك التي تحاول الإساءة المجانية وبدون مبرر لهيأة خارج إطار الإخبار الموضوعي أو النقد المبني على وقائع وحقائق". وحيث إن حرية الصحافة ليست حقا للصحافيين فحسب أو امتيازا للمستثمرين في الإعلام، فإن المجتمع بمختلف مكوناته السياسية والمدنية مطالب بحماية حقه في إعلام مسؤول ونزيه. إن إعادة كسب ثقة الناس من دور الإعلام ورسالته في المجتمع ورش ضخم يحتاج إلى مجهود جبار وإرادة حقيقية ينخرط فيه الجميع.. فهل سيفلح المجلس الوطني للصحافة، إذا ما كتب له أن يرى النور، في تحقيق ذلك، ويكون مرجعا للعمل الصحافي، وأداة للرقابة الذاتية؟