من خلال كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد أشار المفكر عبد الرحمان الكواكبي بعض اشارات لبعض المواضع التي زل فيها الفقهاء والمفسرين، ووقفوا بتأويلاتهم في صف الاستبداد والحكام بدل الحرية والعدل وتحريرالعوام.ومن ذلك قوله تعالى {ياأيهاالذينآمنواأطيعوااللهوأطيعواالرسولوأوليالأمرمنكم} اي ان الله تعالى يأمر المؤمنين بطاعته وطاعة نبيه وأصحاب الرأي والشأن وهم العلماء والرؤساء أو اهل الحل والعقد حسب ما اتفق عليه معظم اهل التفاسير، يقول الكواكبي، وليس بالغريب ضياع معنى {وأولي الامر} على كثير من الافهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد {مِنْكُمْ}، اي المؤمنين(انتهى) وقد صح قوله فقد اطلعت على مشهور التفاسير ولا احد منها اشار الى معنى قوله منكم في الآية وفُسرت كما لو انها أطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر. يقول الكواكبي وفي هذا منع لتطرق افكار المسلمين الى التفكير بان الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثم التدرج الى اية {ان الله يأمر بالعدل}، واية {واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل} اي التساوي، تم آية {ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون} ، ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين وان قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعا للفتنة التي تحصد أمثالهم حصدا.يقول تعالى {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} الاشكال في هذه الاية في قولة أمَرنا فكل التفاسير تقول بفتح الميم وتخفيفها باستثناء البغوي قال بتشديدها وأورد في ذلك قراءة مجاهد، ومعنى هذه الاية عند المفسرين(الطبري وابن كثير وابن حيانوابن عاشور) اي أَمَرْنَاهُمْبالأعمال الصالحةوهي الايمان والطاعةوالقوم خالفوا ذلك عناداوأقدموا على الفسق، وفي ذلك تقوّل على الله، يقول الكواكبي والحقيقة بمعنى (امرنا) هنا بمعنى أمرنا-بكسر الميم او تشديدها- أي جعلنا أُمراءها مترفيها ففسقوا فيها (اي ظلموا أهلها) فحق عليهم العذاب، اي (نزل بهم العذاب). تعجب الكواكبي من الفقهاء حينما جعلوا للفظة العدل معنى عرفيا فقالوا أن العدل هو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء، ولا أعلم مصدر قوله هذا، وقد راجعت التفاسير بخصوص هذه اللفظة فوجدت اعجب من ذلك، فمنهم من قال ان العدل هو التوحيد وأداء الفرائض كالبغوي، وقال الطبري ان العدل هو الانصاف بإقرار الشكر لله عز وجل على نعمه، وقال ابن حيان فعل كل مفروض، ومثل هذا قال غيرهم، علما ان العدل في اللغة هو التسوية، والعدل بين الناس يعني التسوية بينهم، ولا اعلم سبب هذه التأويلات المخرومة الا ما قاله الكواكبي في موضع آخر، احق بأن يذكر هنا، يقول: واني امثل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الاسلام، بما حجر على العلماء الحكماء من ان يفسروا قسمي الالاء والاخلاق من القرآن تفسيرا مدققا، لانهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغفل السالفين أو بعض المنافقين المقربين، فيُكفرون فيُقتلون. لقد عدد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا في ذلك حتى من يمشي في الاسواق ومن عرَّى رأسه ومن رأوه يجري وراء بردوز- نوع من الحصون قصير القامة- فجرَّحوهم ولم يقبلوا شهادتهم، لكنهم نسوا شهادة الحاكم الجائر، يقول الكواكبي: ولكن شيطان الاستبداد أنساهم ان يُفَسِّقوا الامراء الظالمين فيردوا شهادتهم، وحرفوا معنى قوله {ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} اذ جعلوا هذا الفرض فرض كفاية لا فرض عين؟ يقول الكواكبي: والمراد من هذه الآية سيطرة افراد المسلمين بعضهم على بعض، كما حرفوا معنى الآية: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} الى ولاية الشهادة دون الولاية العامة، يقول الكواكبي: وهكذا غيروا مفهوم اللغة وبدلوا الدين وطمسوا العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال وعزة الحرية بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.جعل الله الحكومة الاسلامية تتأسس على قاعدة من أسمى ما قاله مشرِّع سياسي من الاولين والاخرين وهي قوله صل الله عليه "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" متفق عليه ، ومعنى هذه القاعدة اي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الامة، لكن الفقهاء حرفوا المعنى وجعلوا الحديث في غير موضعه وقزموه تقزيما، يقول الكواكبي: فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته، الى ان الملسلم راع على عائلته ومسؤول عنها فقط.قال تعالى {ان أكرمكم عند الله اتقاكم}والتقوى لغة هي الاتقاء، اي الابتعاد عن رذائل الاعمال احترازا من عقوبة الله، يقول الكوكبي: وليست التقوى كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد والعياذ بالله. يفرق الكواكبي بين العلوم الى نوعين، نوع تؤمن المستبد ويأمن من أصحابها وهي كالعلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الانسان وربه، والعلوم التقنية الصناعية المحضة لصغر نفوس اهلها، اما النوع الثاني فهي العلوم التي ترتعد فرائص المستبد منها، كعلوم الحياة والفلسفة والسياسية المدنية والحقوق ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول، يقول الكواكبي: وأخوف ما يخافه المستبد أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس، وهم المعبر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين، قال تعالى {ان الارض يرثها عبادي الصالحون} وقال {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}، وان كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والاصلاح بكثرة العبادة والتعبد كما حولوا معنى مادة الفساد والافساد: تخريب نظام الله الى التشويش على المستبدين. لازال الفقهاء في خدمة الاستبداد سواء بتأويلاتهم وفتاويهم كما بينا اعلاه، او بصمتهم عن جرائم المستبدين وعلاقة الحاكم بالمحكوم، او اشتغالهم بالمحفوظات وحفر رؤوسهم بها كأنها مكتبات مقفلة لا تنفع في الدنيا ولا الاخرة. نعم حرر الاسلام الانسانية من عبادة العباد الى عبادة رب العباد، وعلمهم ان الخضوع لا يكون الا لله ولا يستحقه غير الله، ولكن ما لبث فقهاء الاستبداد وارباب الاستعباد والعلماء المنافقين الى ان حرفوا دين الله واتبعوا اهواء السلاطين طمعا في الدنيا وبدلوا الخبيث بالطيب، فأصبح الناس وأموالهم لأسيادهم. المصادر:1- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمان الكوكبي، دراسة وتحقيق الدكتور محمد جمال طحان2- جامع البيان للطبري 3- تفسير القرآن العظيم لابن كثير4- تفسير البغوي5- التحرير والتنوير لابن عاشور6- في ظلال القرءان لسيد قطب7- البحر المحيط لابن حيان