قال تعالى: «وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» ... تعاني مجتمعاتنا وسياساتنا العمومية في العديد من مستوياتها من إشكالية معقدة يطلق عليها الاستبداد الذي يعرف بأنه انفراد واحتكار لسلطة من السلطات كانت سياسية أو اقتصادية أو إدارية أو دينية تجعل شخص المستبد والجماعة المستبدة، المنضوية تحت لواء مستبد خاص بها، تستغني عن الآخرين ولو كانوا الغالبية العظمى بعدم إشراكهم لا في التفكير ولا صياغة القرار مع إلزامهم كل تبعاته كيفما كانت ولو تعارضت وتناقضت مع مصالحهم وطموحاتهم بفعل السلطات التي يمتلكها المستبد كانت مادية أو معنوية . يقول تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110 ووصف أمة سيدنا محمد بالخيرية التي تخولها مهام نبيلة منها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين هما عماد الاصلاح والتغيير والتطور على اعتبار أن المعروف هو كل ما تتحقق به العدالة والكرامة والحرية والمساواة والعزة وخير الدارين، وعلى اعتبار المنكر هو كل ما يتسبب في إلحاق الضرر بالأفراد والجماعات والأمة، تعلق الأمر بالخاص أو العام أو هما معا .... ومن تجليات انتفاء الخيرية المشار إليها في الحديث ،وجود الاستبداد وما ينجم عنه من مظالم ومناكر ومخالفات لجوهر مقاصد الشريعة وأحكامها ... ونجد في كتب الأقدمين عندنا ومنهم كتاب المغازي للإمام البخاري أن الاستبداد في الأمة الاسلامية ظهر بشكل جلي بعد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وذلك بعد أن تولى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الخلافة والتي جعلها من بعده لابنه يزيد، وأخذ على ذلك عهدا من أولي الامر والمشورة وأهل الحل والعقد كما يقال ..فقال مخاطبا إياهم : «من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به ومن أبيه»... إن الحديث عن الاستبداد الذي هو طغيان سياسي في العديد من أوجهه تحت عدة مسميات ،يثير جملة من التساؤلات المنطقية التي تتقصى مسارات وأسباب ظهور الطاغية أو المستبد، وهل هناك ضرورة لوجوده وكيف يتمكن من بناء نفسه وسلطته وتسلطه ؟.. ولهذا عندما نطالع تاريخ البشرية ومنها مجتمعاتنا ،سنقف على نماذج متنوعة من المستبدين لا تشترط فيهم معايير علمية وفنية ومعرفية ليظهروا على الناس ... أي أنه يمكن أن يكون عالما وفقيها ..كما يمكن ان يكون مثقفا أو عسكريا أو جاهلا أو غير متوازن نفسيا .. إلا أنهم جميعا يتحلون بصفات التسلط ويتفننون في الاستفراد بالرأي والقرار ،ذلك أن البعض منهم قد يظهر نفسه بأنه ورع أو محب للصالح العام أو أنه ضد الظلم أو أنه متنور أو ثوري وهذا لا يتحقق إلا بأن يكون متألقا في المكر والخديعة والتناور، والقدرة على قلب الحقائق بما في ذلك إلباس الباطل لباس الحق وتحويل الحق الى باطل ...أما إن توفرت لديه القدرات البشرية المطيعة، فسيمتد تسلطه الى غيره من خاصته الى أهل وطنه وحتى الى جيرانه من دول وشعوب. وبالتمعن في المشهد السياسي لأمتنا الاسلامية والعربية وحتى غيرهما من الامم، سنجد أن الاستبداد قد تنتجه صناديق الاقتراع والديموقراطية بأية حكومة أو أي حزب أو هيأة ، حيث يحكم ويتحكم شخص واحد أو مجموعة من الافراد بدعوى انهم منتخبون «ديموقراطيا « بكل الطرق بما فيها القمع المباشر وغير المباشر والتهديد الذي يطال الأنفس والاموال والأرزاق والسكينة. وإذا تأملنا وبحثنا في خلفيات المسألة، سنجدها تتمركز حول غرور الزعامة والقيادة والرغبة في الخلود واستدامة الهيمنة أيا كانت النتائج، وهذا من أكبر تجليات الأنانية الضيقة التي ترتاح لإنتاج مستبدين صغار يدينون بالولاء ولو خالف ذلك مصالح الناس كافة . فرحمة الله على الإمام مالك الذي قال « كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر». وأشار الى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. إن الإشكالية المرتبطة بالنفس البشرية والتي تجعلها تحمل بذور ثنائية الخير والشر بجميع تمظهراتها، تجعل طغيان السلبي منها على الايجابي من مثل الاستبداد والتسلط والتحكم مظهرا من مظاهر الخلل والانفصام والاضطراب الداخلي الذي يغلف ويستر بما يموه به عن شخصيته الحقيقية. فأن تتجبر وتقمع وتضيق الخناق على الناس وتزاحمهم حتى في حرياتهم بدعوى أنك حاكم منتخب فذلك هو الاستبداد .. أما إن انبريت تبدع وتكفر الافراد والمجموعات، وتسفه كلام الناس وتستهزئ بالمفكرين والمصلحين أيا كان انتماؤهم، بدعوى أنك تمتلك الوصاية على الدين وتتحدث باسمه بل وتمتلك تطاولا مالا يحق لأي مخلوق حتى الانبياء امتلاكه، أي شق الصدور والعلم بالنوايا والتشكك في إيمان الناس أو اتهامهم بالكفر فذلك منتهى الاستبداد باسم الدين . أما أن يجتمع استبداد السياسي ويغلفه بالدين ونسبته الى جوهر العقيدة، فتلك قمة الاستبداد .. وأما أن تفرض رأيك على غيرك وتجعله هو عين الصواب دائما وتستهزئ بآراء وأفكار الاخرين وتعتبرها مؤامرات ومشاريع انقلابات، فذلك أيضا استبداد وتسلط يتكامل في أنساقه مع الاصناف السابقة بقصد أو بدونه، ومن هنا قد يتحول الشيء والموقف الى نقيضه ما بين لحظة وأخرى تحت أي مسمى فكري أو فلسفي سياسي أو ديني. ولقد ورد في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي ما نصه : «....تظافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل؛ ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي. وليس من العذر في شيء أن يقولوا: نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبدِّيهم بالدين .» ومن جميل ما استخلصه الكواكبي في تعامله مع هذا الموضوع أن تساءل عن عدم قيام الفقهاء بتفسيق بعض الحكام وبعض الزعماء، وعدم قبول شهادتهم بناء على ظلمهم واستبدادهم وتسلطهم ..وبحث لهم عن عذر أجمله في أن المراد عندهم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر -أنه - مجرد فرض كفاية لا فرض عين، وأنهم يقصدون به سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض لا إقامة فئة تسيطر على حكامها كما اهتدت الى ذلك أمم تتكلم عن الديموقراطية والمجالس المنتخبة من الشعب. وأضاف قائلا : «أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟! ولقد رأى بعض المستبدين بالدين أن كل مخالف لآرائهم وآراء الحكام الذين يوالون، خروجا عن الملة والدين كان هذا في مشارق الاض أو مغاربها في العصور السابقة وحتى في هذا العصر، ذلك لأن الاستبداد لا دين له ولا مذهب ولا فلسفة بل هو يظهر كلما كان الشخص مهيأ ليكون مستبدا وتوفرت مجموعة تبحث وتعمل من أجل صنعه ونصرته. إن الخداع الذي يمارس باسم السياسة أو باسم الدين في ظل الاستبداد يدفع البعض ممن هم محسوبون على الفقه والعلم الشرعي الى التفنن في انتقاء واختيار نصوص من الشريعة لتطويعها لتلائم تصرفاتِ المستبدِّين ، كانوا في موقع الحكم أو مساندين لهم، فيصبح عندهم الظلم والقمع مصلحة كبرى تدفع بها مفسدة حسب زعمهم لا لشيء إلا لأنها تخالف هوى الحاكم ومن معه، ولو أنها عين الحقيقة فتصدر الفتاوى «الباطلة» التي تسيء الى الاسلام وتقدم أسوأ الصور التي يتسلح بها خصومنا لمحاربتنا بالاستدلال بأمثلة من كل الحقب التي يخرج الاستبداد شاهرا أسلحته المختلفة في مواجهة الناس كافة و المدمرة لكل ما هو جميل في الفكر البشري والفكر الاسلامي . إنَّ الاستبدادَ لا علاقة له بالعلم الحق ولا المعرفة الحقة ذلك لأنه ينفي أو يتستر أو يرفض كل علم يخالفه الرأي ، ولهذا نجد التاريخ سجل إبادة جماعات وقتل أفراد بمن فيهم علماء وأئمة بل حتى السادة عمر وعثمان وعلي وأحفاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين ...تحت نفس المبرر المعلل باطلا باسم الدين والحق. إن سياسة تعطيل الافكار والإرادات والاجتهاد لدى الناس والافراد لفائدة الحاكم أو الزعيم يساهم في تحجيم دور العقل والابداع والقدرات فيوضع المستبد في درجة يتوهم هو من خلالها أن لا رأي إلا رأيه، ولا نجاح إلا به وأن كل نجاحات الآخرين وهمية وفاشلة. وأن مستقبل الآخرين مرتبط به وعندما يتحكم فيه الخرف يتصور نفسه إلها كما توهم فرعون نفسه أو يعتقد أنه زعيم الزعماء وقاهر الحكام و...فيحكم على من سبقه للحكم والزعامة بأنهم على ضلال وأنه وحده على الهدى وعلى المحجة التي يتخيل أنها بيضاء . وقد ذكر الشيخ الغزالي أن «من مقابح الاستبداد: أسلوبَه الشائنَ في إهانة الكفايات، وترجيح الصغار وتكبيرهم، تبعاً لمبدئه العتيد: أهلُ الثقة أَوْلى من أهل الكفاية.». إنهم يريدون أن يتحول الناس الى منافقين عليهم أن يظهروا الولاء والطاعة والخضوع ويرفعون أعلام التأييد للحاكم أو الزعيم في جميع الحالات والاحوال، بل ويؤطر هذا التوجه البعض من علماء الدين والفكر همهم ترويج السلع السياسية الفاسدة وتزيين الامور للمستبدين ومسايرتهم وبدل الجهد لإقناع العامة بالباطل ...ولقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء العلماء والمفكرين فجاء في الحديث الذي من رواته الصحابي الجليل كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا كَعْبُ بن عُجْرَةَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ»، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟، قَالَ: «أُمَرَاءُ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَنْ يَرِدَ عَلَى الْحَوْضِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ، بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ»... أخرجه الطبراني ، والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان. إن المستبد يضطر لحماية نفسه ليس فقط الى ترهيب الناس وإخافتهم، بل يبدل الجهد لتقسيم الناس فكريا ودينيا ومذهبيا ويخلق الصراعات الهامشية بينهم ويضرب بعضهم ببعض بما في ذلك إثارة الكراهية والعنصرية . لهذا لابد كما أمر الشرع والعقل من العمل من أجل تفكيك بنية الاستبداد ومقوماته ومرتكزاته بالوعي ونشر المعرفة، والتربية على الاسلام الوسطي السمح والتربية على المواطنة المتجذرة الضامنة للحمة الأمة وتماسكها بجميع مكوناتها والمحتكمة للعدل واحترام كرامة وقدرات ومؤهلات كل الناس دون تمييز أو تبخيس .. ونذكر بواقعة في خلافة عمر ذلك أن الجراح بن عبدالله والي خراسان كتب إلى عمر بن عبد العزيز ميلي »إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأي أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك« فكتب إليه عمر رضي الله عنه .. أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم والسلام«. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» «3». إن الاسلام بريء من الاستبداد براءة تامة وجاء لاستئصاله .. ونختم بحديث شريف قال فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها».