مدخل : يحدد الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري – رحمه الله – في مدخل كتابه " المثقفون في الحضارة العربية : محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد " مفهوم المثقف في صيرورته التاريخية و الإبستيمية، محيلا على التبعات النفسية و السوسيوسياسية التي تنجم عن الانخراط في حقول و مدارات المثاقفة بأبعادها المتنوعة. إذ في تطوره التاريخي، يُسنِد هذا المفهوم حمولته المعرفية للدلالة على شخص يحمل آراء خاصة حول الإنسان و المجتمع، و يقف موقف الاحتجاج و التنديد إزاء ما يتعرض له الفرد و الجماعة من أشكال الحيف و التعسف؛ فمعنى المثقف يتحدد موضوعا و وظيفة لا بنوع علاقته بالفكر و الثقافة، و لا لكونه يكسب عيشه بالعمل بفكره، بل يتحدد وضعه بالدور الذي يقوم به في المجتمع كصاحب رأي و قضية .. والمثقف، بمفهوم آخر، "ناقد اجتماعي" يهدف أساسا إلى تحليل و تفكيك العوائق و المعوقات التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل؛ و من ثم، فإن اللحظة الحقيقية لميلاد المثقف الفعلي (و الفاعل) تتمثل في اختراق الحدود المادية و المعنوية لل " الحراك العلمي " الذي تقعد له " الجامعة " بوسائلها و آلياتها و مناهجها، و تنفذه مراكز البحث العلمي و الدراسي و يعمد إلى هندسة مضامينه و إوالياته النسقية و القيمية جمهرة الباحثين من مختلف التخصصات، ليتحول بذلك المثقف في سياق (الفعل الفعال) إلى متكلم صاحب مقالة يخاطب بها المجتمع. يظهر جليا؛ بحسب الجابري، التأثير البالغ الذي لعبه النموذج الإسلامي للفيلسوف، الذي تشكل في عالم بدون جامعات، في تحديد دور المثقف داخل الدائرة الغربية، ذلك النموذج الذي يجعل المثاقفة تتوج بالحكمة و الدعوة إلى الفضيلة و الحرية و العدل و التسامح : و هي أهم مداخل الكسب الثقافي الدفاعي . إن المتتبع لسياق المجتمع في مسار نضجه و توجهه، يلمح ما يعانيه من قعود حضاري و علمي أفرزته أزمات طاحنة، و يعي حجم التحديات التي تواجه مستقبله، و ما يرتبط بذلك من ركود حركة الاجتهاد و الإبداع و التحليل و الموازنة و رُقادها، و عدم القدرة على ملاءمة الإنتاج المحلي المسند بالعَبق التراثي التاريخي مع المُتَغَيَّر اللحظي و الوافد الطارئ ، في ضوء مآلات و سياقات تتعدد أنساقها و بَّرادِيغْمَاتُها المعرفية الضابطة و إحالاتها الاجتماعية و الثقافية الصارخة. و لعل المساهمة في تحقق الوعي بأزمة الرّان الكثيف المتراكم على جسد مجتمعنا، رهين بانتصاب قُوةٍ عظمى كِنُّها تحصينٌ و حراك علمي متنوع الأبعاد، يشع معه الأمل في استرداد فاعلية الصروح المعرفية المنتشرة على الأرجاء، و تدشين المصانع الرئيسية للمعرفة المستوعبة الشاملة لأدرب الدفاع و المرافعة، مستوعبة تبدلات المجتمع و طبائع القيم؛ و تعدية الرؤيا و الامتداد بالبحث العلمي ليصير منطلقا قويما لتفعيل مجمل مباغي التكوين الثقافي، تنزيلها فكرا و فعلا، فقها و تأصيلا، في إطار مرجعية ثَبَوتُقٍ مُجَدَّد تقوم على تجديد القواعد و تجويد الاستيعاب، و محاولة ترسيم الآفاق على نسق حقيقي يمضي بالرؤية العلمية نحو تبني إبستمولوجية راقية ينطلق منها، لتتناغم و المتغيرات التي شهدتها مناهج "الأخذ و التلقي" ، و الإعلان عن ما سماه فضيلة العلامة الألمعي "الشاهد البوشيخي "، في شهادته على فسوق مناهج المعرفة العلمية، (توبة منهجية نصوح تراعي واقع الحال، و تدرس مختلف المباحث بناء على متغيراته، مستحضرة السياق التاريخي و الحضاري و نزعة التراث و أنساقه المختلفة و توليفاته المتشابكة).. و تلك أقوم سبيل لمعالجة مداخل الاختلال … فالحديث عن المنهج، بالتزامن مع مقاربة مفهوم المثقف المدافع،حديث عن جملة الوسائل التي وجب أن يهتدي بها في إطار توجهه الثقافي، لينتج حلا وسطا لجدلية المعرفة و المجتمع، التي تتمركز جذورها المفاهيمية في صيغ التداول الثقافي كبنية تقعيد لمجمل الأنساق و العناوين المتداخلة في حقل الصياغة. أخلاقيا، فإن الحراك الثقافي، بمناهجه و مراميه، لا تحركه الرغبة في الدفاع عن رؤية أو البرهنة على صيغة و قيمة معينة، بقدر ما تحركه الإرادة في حصر و دمج و تركيب إطار مختلف عن الواقع الملحوظ، و رهانات الثقافة اليوم، وجب أن تهتدي لمحاولة صناعة مادة خام لإنتاج الفكر و التجريد النظري في السياق الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي، بتناغم و تواشج، ثقافة عاملة شريكة في عملية الإنتاج الفكري المستوعب لتبدلات القيم و نشوزها … إن القصد لإحاطة التحصيل العلمي المؤسس لثقافة المدافعة و الحراك، وجب أن يراهن على إماطة أدى انخرام سياق المنهج، عن كل عمل كيفما كانت مرجعياته و دلائله و مراجعه، محاولا خلق ترسانة عملية يهتدي بها المثقف المدافع، و يؤسس عليها بنوده القيمية و الأخلاقية التي تبيح له الإحاطة وفق اجتهادات الحضارة و التراث، بالوجهة التي تعيده إلى نقطة ارتكازها، تَنداحُ منها أنصبة النداء ليكون العلم نافعا مُغَيِّرا …