على عكس ثورات ما سمي بالربيع العربي التي هزت العالم العربي سنة 2011 .. والتي شكلت انتفاضة شعوب ضد حكام يحكمون أوطانهم بوكالة من المحتل المبريالي .. على العكس من ذلك؛ كانت ثورة المغاربة بتلاحم بين الراعي والرعية .. السلطان والشعب .. الملك والمواطنين .. أجل .. كان انحياز السلطان المجاهد محمد الخامس رحمه الله إلى شعبه ودوره السري في الإسهام في تأسيس الحركة الوطنية .. ثم دوره المستمر في دعمها وتقويتها .. كان هذا هو موقفه الذي يحق لكل مغربي أن يفتخر به ويحمد الله عليه .. مع أن المحتل الإمبريالي حاول كسبه ليكون طوع أمره ورهن إشارته، واتخذ لذلك جميع الخطوات؛ بما فيها اختياره ليكون ملكا وهو صغير السن ظنا منه أنه سيكون أداة طيعة في يده .. ومع تعرضه لأنواع الضغوط وأنواع المكر وأنواع الإغراء ..؛ ثبت السلطان على وطنيته وانحيازه لشعبه. وفي بيان إسهام الفقيه بلعربي في هذا الاختيار المشرف؛ يقول المؤرخ الدكتور عبد الكريم الفلالي: "أصبح شيخ الإسلام (محمد بن العربي) أول من يرجع إليه محمد الخامس ويستنير بنصحه في أكثر المواقف شدة. وقد سجل التاريخ أن شيخ الإسلام كان الرائد الصادق الملهم الذي أصلح الله به المغرب الأقصى ملكا وشعبا مدة حياته. ولقد استطاع بصدقه وأمانته وقناعته أن يبعد سياسة محمد الخامس عن كل ما يحدث الفجوة بينه وبين شعبه"اه (التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير) وقال الأستاذ عبد الرحيم الورديغي في ترجمته للفقيه بلعربي: "لما اتصل به القصر الملكي من جديد بصفته متحالفا مع الوطنيين، أصبح ينصت إليه السلطان محمد بن يوسف، فكان يذكره بأن سلطانا أو ملكا وجب أن يتتبع طريق الشعوب المناهضة التي تنسجم مع رؤسائها في الكفاح التحريري، وكان يعطيه أمثلة شعوب أندونيسيا والهند التي كانت تنسجم مع زعمائها المشهورين، كأحمد سوكارتو وماهتما غاندي ضد الاحتلال الهولندي والإنجليزي"اه. نعم .. لقد اختار السلطان وطنيته وانحاز إلى شعبه جزاه الله خيرا .. وقد قابله الشعب بقيادة الوطنيين بالوفاء نفسه والموقف ذاته؛ فانتفض وثار لما تجرأ المحتل الفرنسي على نفيه وقاد انقلابا على الشرعية؛ بالسعي لإزاحة محمد الخامس عن الحكم واستبداله بابن عرفة الخائن .. ومن الصفحات المضيئة في ذلك مواقف عالم المغرب المناضل الفقيه بلعربي العلوي رحمه الله: قال الأستاذ الورديغي: "في سنة 1951، وضع الجنرال (ألفونسو جوان) تصميما (ماكيافيليا) يشرع التزوير والعنف واللامشروعية كمبدإ لتسيير إدارة المغرب، فقد كان أكبر المزورين وأكبر الخداعين من المقيمين الفرنسيين بالمغرب؛ لقد كان يفتخر أمام حكومة باريس بأنه نجح في الانسياق إلى جانبه جميع قبائل المغرب ضد خطة حزب الاستقلال الهادفة إلى الحصول على استقلال المغرب وضد السلطان محمد بن يوسف المنحاز إلى الوطنيين. وبصفته العضو البارز في جمعية علماء المغرب؛ فقد فضح شيخ الإسلام بلعربي العلوي بصفة مكشوفة -بعد رجوعه من المنفى-؛ الخطة المكيافيلية للكافر "جوان" وفضح كذلك جميع العرائض وبرقيات التأييد الصادرة من العلماء والتجار والصناع المغاربة المتعاونين مع فرنسا. ويحكى فيما بعد أن بعض المتعاونين المغاربة قد قطعوا أصبعهم بسبب أنهم وقعوا بعض العرائض ضد الوطنيين. ففي هذا الوقت العصيب، كان بلعربي يستعمل سلطته الروحية واستراتيجيته الثورية ليتهم بالكفر والإلحاد كل أولئك الذين يتعاونون مع الحماية الفرنسية ويحاولون النيل من الشخصية المغربية وبالمس بالوحدة الترابية للبلاد وبقطع أية علاقة بالوطن العربي. لقد كان التخطيط الميكيافيلي لجوان في التزوير والعنف واللامشروعية في طريق التنفيذ، فقد كان يهدف بادئ الأمر إلى اعتقال ونفي جميع الوطنيين، وكان يهدف ثانيا إلى طرد جميع الفرنسيين الذين تعاونوا من قريب أو من بعيد مع الوطنيين، ثم نفي السلطان محمد بن يوسف ليعوضه بأحد من أعضاء العائلة الملكية، وهو السيد محمد ولد مولاي عرفة الذي صادق على الاحتلال الدائم للمغرب من طرف فرنسا بصعوده إلى عرش العلويين... والمعروف أن هذا التخطيط لجوان شرع في تنفيذه بسرعة بعد الحوادث الدامية التي وقعت بالدارالبيضاء وإثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، فاعتقل جميع القادة النقابيون والسياسيون وسيقوا إلى السجون وإلى المنافي النائية في البوادي. فبقي السلطان محمد بن يوسف منعزلا في قصره، فالتجأ إلى أولئك الذين لم يمسوا بعد، ومنهم الشيخ محمد بلعربي العلوي ليدلي إليه برأيه عن القمع الذي كان يقوم به الجنرال (ألفونس جوان)، فنصحه الشيخ المناضل بالصبر وبالشجاعة. وبعد بضعة شهور، قام ضابط سامي مكلف بالاستعلامات العامة لدى الإقامة العامة بجس النبض لدى محمد بلعربي، فورد إلى بيته بفاس ليحاول إرجاعه واستعماله كوسيلة دينية، لتقوية جناح المتعاونين الذين كان تيارهم قويا آنذاك. استمع الشيخ العلوي، وهو عضو العائلة الحاكمة في المغرب ورجل دين ذو قيمة كبرى في عصره، إلى عرض الضابط الماكر الذي يصف "الموقف المخزي للسلطان ابن يوسف تجاه الفرنسيين"! فأجاب الفقيه هذا الضابط للاستعلامات: "بأن كل من استولى على مكانة السلطان ابن يوسف سيتعرض إلى الخيانة المكشوفة وإلى التعاون المقيت مع الاحتلال، ويستحق الشنق بعد طرده من حظيرة الأمة الإسلامية". اقتنع الضابط الفرنسي بالإجابة الواضحة للشيخ العلوي، فنقلها حرفيا لرؤسائه الذين كانوا يتمنون أن يكون الشيخ بجانبهم. فأعطوا في الحين الأمر لرئيس إقليمفاس، الجنرال (لابارا) بأن يقيم حراسة منع الخروج على الشيخ من بيته اعتبارا لكبر سنه (72سنة) وانتظار مشاهدة تطور الأحداث أو ما إذا كان في نية الشيخ أن ينصاع لأوامرهم. وفاء الشيخ لوطنه وملكه: وفي عشرين غشت 1953، نفي السلطان محمد بن يوسف إلى جزيرة كورسيكا بعدما أدانته السلطات الفرنسية على يد علماء المغرب بأنه خرج عن الطريقة الإسلامية! أما الشيخ محمد بلعربي العلوي الرجل الوفي الذي لا يرتشي والذي كان أحسن علماء المسلمين في عصره وكان قاضيا ووزيرا للعدلية؛ فقد رفض قطعا التوقيع على عقدة تنصيب السلطان الجديد الذي نصبه الفرنسيون، وهو عميلهم محمد ولد مولاي عرفة، فكان جزاء موقفه طلب نفيه العاجل من طرف ولد مولاي عرفة إلى القرية الجنوبية تيزنيتبإقليمأكادير. كان ذلك في شهر دجنبر 1953 بعد أربعة أشهر على تنصيب السلطان المزعوم ولد مولاي عرفة بالرباط. فبينما كانت السلطات الفرنسية تتودد إليه بسبب طعنه في السن بإبقائه في البيت تحت الحراسة بفاس، فإن الحكم الإقطاعي الجديد نفاه بدون شفقة ولا رحمة وفي طقس حار حيث سكن في غرفة ضيقة لا ضوء لها ويعرفونها الآن سكان تيزنيت. ومن حين لآخر، كانت سلطة المراقبة الفرنسية ترخص للشيخ بأن يسير قدما في أزقة تيزنيت تحت الأنظار الخفية للشرطة القروية، وكان يتناقش مع بعض سكان تيزنيت، فيستخبر عن العمل البطولي لمقاومي المدن والقرى، فكان يفتخر بذلك ويوجه تبريكه للمكافحين في الظلام. وكان يساند الأعمال المسلحة للمقاومين، وبالعكس من ذلك؛ فإن زملاءه من علماء فاس وضعوا فتوى -وتعني استشارة قانونية في الإسلام-؛ في بداية العمل المسلح، تدعي بأن المقاومين إرهابيين مرتزقة يقتلون مواطنين وديعين، ويطلب هؤلاء العلماء الخونة إدانتهم بالإعدام بعد اعتقالهم!! بينما كان شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي يهاجم هذه الفتوى المخجلة التي أوحى بها المحتلون الفرنسيون وعملاؤهم. ومن المعلوم أن استمرارية المقاومة المسلحة في المدن والقرى قد أسرعت في حل مشكلة العرش بالمغرب، فابتهج شيخنا للعمليات البطولية للمقاومين في منفاه السحيق لأن جسمه الفاني ذو السن ثلاثة وسبعين سنة كان يحتوي على روح ثورية أعطته القناعة بأن الوجود الفرنسي سينمحي من المغرب"اه. وقد كشف المؤرخ عبد الكريم الفيلالي في كتابه "التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير" أن المؤامرة ضد السلطان محمد الخامس كانت من تدبير التهامي الكلاوي الذي أصدر بياناً وقّع عليه 270 من الباشاوات والقواد فيه: "إننا معشر القواد في مختلف الجهات المغربية ومن في دائرتهم من المغاربة رجال حركة المعارضة والإصلاح الممضين أسفله تحت رئاسة سعادة الباشا الهمام السيد الحاج التهامي المزواري الكلاوي؛ نتقدم بكل شرف إلى سعادة المقيم العام للدولة الفرنسية الفخيمة بما يأتي: بما أن السلطان سيدي محمد بن يوسف خرج عن جميع رجال المغرب العاملين، واتبع طريقاً مخالفاً للقواعد الدينية بانتمائه للأحزاب المتطرفة غير المعترف بها وتطبيق مبادئها في البلاد؛ الشيء الذي جعله يسير بالمغرب في طريق الهاوية؛فإننا بصفتنا كبراء المغرب وأصحاب الحل والعقد، ومن ذوي الغيرة على الدين الإسلامي؛ نقدم لسعادة المقيم العام وللدولة الفرنسية طلب عزل السلطان عن الحكم وتنحيته عن العرش وإسناد هذا الأمر إلى من يستحقه"اه. قال الأستاذ زين العابدين العلوي في كتابه "تاريخ المغرب من عهد السلطان الحسن الأول إلى عهد السلطان عبد الحفيظ": "كان الكلاوي قد استفاد كثيرا من مسألة نقل الإمامة إلى ابن عرفة، من "فتاوى" الكتاني و"شروحاته"؛ رغم ما قام ضدها من احتجاجات وردود أفعال؛ منها ما قام به محمد بن العربي العلوي الذي صرح برأيه في ابن عرفة مستدلا بحديث شريف يقول: "إذا بويع أمير ثم خرج عليه أمير، فاقطعوا رأس الذي خرج". وكان ثمن صراحته هذه أن نفي إلى تزنيت". يقول الأستاذ عبد القادر الصحراوي في ترجمته للفقيه بلعربي: "في شهر ديسمبر (1953) -وكانت قد مرت إذ ذاك أربعة أشهر على تنصيب ابن عرف-؛ بعث (الجنرال لابارا) رسولا جديدا إلى شيخ الإسلام ليفاوضه في أمر جديد. ويتعلق الأمر في هذه المرة بحركة الفداء والمقاومة المسلحة التي كانت قد ظهرت إلى الوجود، وبدأت عملها في الدارالبيضاء والرباط وفاس وغيرها، وأصبحت تنذر بالتوسع، وتحملهم على التفكير في الحد من خطرها بأي ثمن وبأية وسيلة من الوسائل. وقع اختيار (الجنرال لابارا) في هذه المهمة على صديق له قديم، هو (الكومندان روزي). و(الكومندان روزي) موظف سابق، كان زميلا في العمل للجنرال (لابارا) نفسه، ولكنه كان قد غادر الوظيفة إلى الأعمال الحرة، وفتح محلا للتجارة في السيارات، إلا أن صداقته للجنرال لابارا ظلت قائمة، وظل الجنرال يعتمد عليه في المهمات الدقيقة وذات الصبغة الخاصة. ولعله لذلك، استهلها بملاحظة أن "السيارة" التي يستعملها شيخ الإسلام ليست على قدر المقام! وفطن شيخ الإسلام بسرعة إلى معنى هذا الاستهلال من تاجر سيارات، فأجاب بسرعة أنه هو لا يملك سيارة على الإطلاق، ولا يشعر بالحاجة إليها، وأن السيارة التي يعنيها الكومندان إنما هي سيارة ابنه مصطفى، الذي كان حاضرا هذه المقابلة، وكان يقوم فيها بدور الترجمة بين الرجلين. وتخطى الكومندان حديث السيارات إلى المقصود بالذات، فتحدث عن أعمال العنف والتقتيل التي يقوم بها بعض "الإرهابيين" وأن العنصر الجديد والخطير في هذه "الاعتداءات" أنها تجاوزت جميع الحدود التي يمكن أن تتصورها؛ فمست بعض رجال الدين، وأنه لا ينبغي له هو، وهو شيخ الإسلام، أن يظل ساكتا أمام هذه الحال! وكان واضحا أن (الكومندان روزي) يقصد ما تعرض له على يد المقاومين والفدائيين؛ بعض الأئمة بالخصوص، وكانوا يخطبون في صلاة الجمعة، فيقولون كلاما في صالح الاستعمار. والآن ما هو المطلوب من شيخ الإسلام؟ المطلوب منه أن يدلي بتصريح يستنكر فيه هذه الأعمال، ويستنكر على الخصوص الاعتداء على العلماء والأئمة ورجال الدين! وكان جواب شيخ الإسلام في منتهى الطرافة والوضوح: طلب من الكومندان أن يبلغ المسؤولين ما يلي: "لقد جربنا نحن تجربتنا وفشلنا، وليس من حقنا -ونحن فاشلون- أن نحشر أنفسنا في تجربة أناس آخرين. إن العنف يولد العنف؛ وإن ما قمتم به أنتم من أعمال، كان يستلزم بالضرورة ردود فعل من هذا النوع"! وودع الكومندان وانصرف، وصحبه مصطفى إلى الباب، وعندما عاد وجد والده يشرب الشاي، وبمنتهى الهدوء والبساطة والاقتناع، قال الوالد لولده: "نبه والدتك أن تهيء لي ما أحتاج إليه من الملابس، فإنه المنفى"! وبعد ثلاثة أيام بالضبط، أُخذ شيخ الإسلام منفيا إلى تزنيت، في أقصى سوس، على بعد ألف كيلومتر من فاس". تقول الأستاذة ثريا برادة: "كان الفقيه بلعربي هو العالم الوحيد الذي لم يوقع على بيعة بن عرفة، ويحكى أنه حينما طلب منه التوقيع؛ نزع عمامته من فوق رأسه قائلا: "هل بعد أن شاب شعري أقوم بتوقيع ما أعتبره غير الحق، وأخون ملكي وبلدي؟؟ لن أوقع حتى ولو قطعتهم يدي". ونادى بالجهاد في سبيل الله، وأفتى بعدم شرعية مبايعة ابن عرفة انطلاقا من المذهب المالكي الذي يقضي بأنه إذا بويع إمامان يقتل الثاني. كما رفض أن يشارك في فتوى وقعها عدة علماء تدين المقاومين بالسلاح، وتبيح الحكم عليهم بالإعدام، فقامت السلطات الاستعمارية بنفيه من جديد إلى تزنيت". (ترجمتها للفقيه في معلمة المغرب).