على الرغم من مرور أكثر من مائة سنة على تاريخ التوقيع على عقد الحماية الفرنسية على المغرب في 1912، إلا أن تاريخ تلك الفترة وما تلاها من أحداث خصوصا على عهد السلطان محمد بن يوسف، والتي ستنتهي في 1956 بالاستقلال، لا يزال يغري بالنبش في سيرته. ليس لأنه هو الذي صنع لنا مغرب اليوم، ولكن لأنه تاريخ صنعه المغاربة مع الحماية الفرنسية التي نزلت بجنرالاتها وكبار رجالاتها لتفرض سياستها. تلك السياسة ذات الأبعاد الاقتصادية والثقافية، والتي لا تزال تمارس علينا إلى اليوم. في هذه السلسلة إعادة تركيب لأحداث سنوات الحماية، لكن من خلال الدور الذي كان يقوم به المقيمون العامون الذين توالوا على هذه المسؤولية من أول مقيم عام هو الماريشال ليوطي ابتداء من أبريل من سنة 1912 إلى آخر مقيم عام وهو «أندري دوبوا» في مارس من سنة 1956، والذي حضر مراسيم التوقيع على وثيقة الاستقلال. سنكتشف في هذه الفسحة الصيفية كيف أن لكل مقيم عام من أولائك الأربعة عشر مقيما الذين رافقوا السلطان محمد بن يوسف، حكايته. ولكل منهم دوره في تثبيت أسس الحماية، والتي ظلت تواجه بغضب ورفض الوطنيين المغاربة. في هذه السلسلة نستعرض لسيرة الماريشال ليوطي، أول مقيم عام فرنسي. وتيودور ستيغ، الذي رشح محمد بن يوسف ليكون سلطانا بدلا من بقية إخوته. و لوسيان شارل غسافييه، صاحب فكرة الظهير البربري، وهنري بونصو، ومارسيل بيروتون، وشارل اربيل نوجيس، وغابريل بيو، واندريه ديبوا، ودولاتاور، وجيلبير غرانفال، وفرانسيس لا كوست، وأوغيست غيوم، والفونس جوان، الذي جاء ببن عرفة سلطانا، بدعم من الباشا الكلاوي، بعد نفي محمد الخامس. ثم إيروك لابون، الذي سيدشن لبعض الاصلاحات ويمهد بذلك لتباشير الاستقلال. هي نبش في سيرة أحداث تاريخية عاشها مغرب الحماية من خلال الدور الذي كان يقوم به المقيم العام، الذي كان هو الممثل الرسمي للحكومة الفرنسية بكل من تونس والمغرب خلال فترة الحماية لكل منهما، وهو ما كان يقابله المندوب السامي بالمستعمرات البريطانية. كانت استقالة ليوطي من مهام الإقامة العامة مفاجئة لسلطات باريس بالنظر للحماس الذي كان يمارس به مقيمها العام مهامه. لذلك وجدت أن البديل الذي يمكن أن يملأ الفراغ، هو تيودور ستيك الذي استمر في مهامه من 1925 إلى سنة 1929. ولكي يقول «ستيك» لمسؤوليه في باريس إنهم لم يخطئوا الإختيار، فقد سارع لكي يختار هو بنفسه من يجب أن يصبح سلطانا بعد وفاة مولاي يوسف، خصوصا وأنه عرف كيف يصنع حواليه بعض المساندين لسياسته. فلم يكن محمد بن يوسف، الذي سيحمل بعد ذلك اسم السلطان محمد الخامس، في نظر المستعمر الفرنسي غير «حمادة»، أصغر أبناء مولاي يوسف، وأقلهم تعليما. إضافة إلى طبعه الهادئ وانعزاله عن الناس وميله الفطري إلى الزهد والعفاف، ما يجعله غير مكترث بما يدور حوله. بل إنه الابن الذي عاش في كنف والدته بقصر مكناس بعيدا عن الأب. لذلك ستختاره الإقامة الفرنسية، من خلال ثاني مقيم عام وهو «تيودور ستيك» ليكون خليفة السلطان الذي أعلن عن وفاته، بدلا من أخيه المولى إدريس الذي كان واليا على مراكش على عهد والده. فحينما راهنت سلطات الحماية على اختيار محمد الخامس من بين إخوته، كانت ترى فيه الرجل المناسب لسياستها الاستعمارية، خصوصا وأنها وجدت في عدد من المحيطين به استعدادا لخدمة مصالح فرنسا في المغرب من أمثال الصدر الأعظم محمد المقري، والفقيه المعمري. وإذا كانت وفاة السلطان مولاي يوسف المفاجئة يوم الخميس 17 نونبر سنة 1927 ، قد أنهت معارضة السلطان للمشاريع الاستعمارية بالمغرب، وخففت من الضغط على الإقامة العامة، فإنها، من جهة أخرى، نبهت «تيودور ستيك»، المقيم العام الذي عوض ليوطي، إلى ضرورة التدخل بشكل مباشر في مسألة اختيار من يتولى الملك بالمغرب بعد وفاة مولاي يوسف، خاصة وأن السلطان لم يعين، قيد حياته، وليا للعهد، كما هي عادة جل أسلافه. وهكذا استغل المقيم العام «ستيك» فراغ منصب ولاية العهد، فأوعز إلى المقربين من سلطات الحماية، من حاشية السلطان، وبعض رجال الإقامة من الفرنسيين، إلى العمل على اختيار الأمير سيدي محمد بن يوسف ليتولى ملك المغرب، لبعده عن أي نشاط سياسي في حياة والده. كان المقيم «ستيك» متشبعا هو وفريقه بروح المستعمر الذي لا يقنع إلا بالحكم المباشر، وإبعاد السلطان عن كل مشاركة في ممارسة السلطة، حتى ولو كانت رمزية. وكان «تيودور ستيك» في قرارة نفسه لا يرغب في أن يرى مرشح الحاجب التهامي عبابو، الأمير مولاي إدريس، سلطانا على المغرب، لأن طبعه لا يخلو من عناد، بالإضافة إلى كونه يعرف الألاعيب السياسية، وليس من السهل على سلطة الحماية أن تجرده من حقه في ممارسة السلطة. كما كان يعتقد أنه من الصعب عليه استبعاد الابن الأكبر للسلطان الأمير مولاي إدريس بن يوسف عن السلطنة. غير أن المستشار القانوني للإقامة «ميشو بيلير»، والمعتمد العام «أوربان بلان» سيؤكدان له بأنه ليس هناك قاعدة ثابتة في وراثة العرش، باستثناء أن يكون السلطان الجديد من الأسرة العلوية، وأن يحظى هذا الاختيار بموافقة الفقهاء والعلماء المجتمعين بفاس. كانت هذه الفتوى القانونية قد أزاحت هما ثقيلا عن نفسية «تيودور ستيك»، حيث كان يتخوف، بعد تجربته المرة مع مولاي يوسف، أن يتولى سلطنة المغرب شخص قوي يعترض على مشاريعه الاستيطانية بالبلاد. فوافق دون تردد منه على ترشيح الأمير سيدي محمد بن يوسف، خاصة أن المعتمد العام «أوربان بلان» قد أكد له أن الإقامة العامة لن تواجه من هذا الأمير أي عصيان. وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه الفقيه المعمري ومحمد المقري، الذي كان يرى أن الأمير سيدي محمد «شاب مرن سهل المراس والتوجيه». وبعد الانتهاء من مراسيم دفن السلطان مولاي يوسف صباح يوم الجمعة 18 نونبر 1927 بضريح مولاي عبد الله بفاس، أوعز «تيودور ستيك» إلى الصدر الأعظم محمد المقري بأن يقوم بكل الإجراءات، تبعا للتقاليد المخزنية، لمبايعة الأمير سيدي محمد بن يوسف سلطانا على المغرب. وجمع المقري بعض رجال المخزن المقربين إليه من أمثال وزير العدل محمد الرندة، ووزير الأوقاف الفقيه أحمد الجاي، وعمر التازي وزير الأملاك المخزنية. وحضر هذا الاجتماع الفقيه محمد المعمري الذي كان يمثل عين سلطة الحماية في هذا الفريق. بالإضافة إلى رغبته في أن يرى الأمير سيدي محمد بن يوسف متربعا على كرسي السلطنة بالمغرب. وبعد مشاورات قصيرة بين المجتمعين بالقصر الملكي بفاس، أعلن الصدر الأعظم، محمد المقري، «أن المصلحة العليا للبلاد جعلت رجال المخزن المجتمعين يومه الجمعة 23 جمادى الأولى عام 1346 ه الموافق ل18 نونبر 1927 م يبايعون الأمير سيدي محمد بن يوسف سلطانا على المغرب، خلفا لأبيه السلطان مولاي يوسف رحمه الله». وحتى تتخذ هذه البيعة طابعها الرسمي، وصيغتها الشرعية في إطار التقاليد المخزنية المرعية، استدعى الصدر الأعظم، محمد المقري، إلى القصر الملكي هيئة العلماء وقاضي فاس وقتها، الفقيه محمد بن رشيد العراقي، والعلامة عبد الرحمان بن القرشي، وأعيان مدينة فاس، وكبار رجال الدولة الذين حضروا مراسيم جنازة مولاي يوسف، فسلموا على الأمير سيدي محمد وبايعوه بالملك وسنه لم تتجاوز الثامنة عشرة. وصباح يوم السبت 19 نونبر، تقدم المقيم العام «تيودور ستيك» للسلام على السلطان الجديد وتهنئته باسم الجمهورية الفرنسية، كما تقدم لتهنئته ممثلو الدول الأجنبية بالمغرب. وفي مساء اليوم نفسه، تقدم الشرفاء والفقهاء والأعيان وكبار الموظفين المغاربة، الذين اختارهم المقري بعناية، للسلام على السلطان وتهنئته بالملك. غير أن «حمادة» كما سمته الصحافة الفرنسية وقتئذ، هو من سيقود المقاومة ضدها بعد أن وضع يده في يد الوطنيين رغم الثمن الغالي الذي أداه بنفيه ومحاولة تعيين سلطان بديل عنه هو محمد بن عرفة، لدرجة أن ابنه الأمير مولاي الحسن، لم يتردد في القول إن محمد الخامس قامر بعرشه حينما استمع لرجال حزب الاستقلال.