أعادت خطبة " الفتنة" التي ألقيت بمدينة الحسيمة فتح سؤال علاقة الديني بالسياسي في المشهد الفكري المغربي و لا سيما على مستوى خطبة الجمعة بعدما ساد الاعتقاد أن وزارة التوفيق استطاعت رسم الحدود الفاصلة بينهما من خلال خرجاتها الدرامية و توقيفها لعدد من الخطباء الخارجين عن صف الوزارة بحجة عدم احترام دليل الإمامة الذي يحدد للخطيب مجال التحرك الفكري و الوعظي، غير أن حادثة الحسيمة بينت مدى هشاشة هذا البناء الذي أقامت عليه وزارة التوفيق أحكامها المتعلقة بمنع الخطباء، و هذا الأمر يستدعي مساءلة هذا الاختيار بيداغوجيا و شرعيا. إن هذا الاضطراب الذي تعيشه الخطبة المغربية هو إفراز طبيعي لمسار هاجسه الأول هو تأميم الحقل الديني قصد إبعاد الإسلاميين عن مزاحمة الملك في السلطة الدينية، و هو البند الأول و الاستراتيجي الذي يحدد معالم و رؤية وزارة أحمد التوفيق للشأن الديني إجمالا، و الخطبة مدخل من المداخل الأساسية في هذا المشروع نظرا لطبيعتها الجماهرية القارة ، أما البند الثاني فهو الترويج للنموذج الديني الوسطي المغربي المتحكم فيه، و إبراز أحقية الزعامة الدينية للمغرب في محيط إقليمي يغلي بالتيارات" غير الوسطية" و لاسيما على مستوى غرب إفريقيا على أساس هذان البندان العريضان تتحرك الوزارة: تفريغ الحقل الديني و التحكم فيه من جهة، و الترويج له في الخارج من جهة أخرى، غير أن أكبر مشكل يواجهه هذا التوجه هو التداخل الجبري الحاصل بين الديني و السياسي و صعوبة الفصل بينهما، و هنا أستغرب واقع كثير من الإسلاميين الذين انخرطوا بوعي أو بغير وعي في ترديد هذه الأسطوانة غير آبهين بخطورة الفصل بين الدين و السياسة، فليس لذلك إلا معنى واحد هو الدعوة المجانية للعلمانية التي تريد حصر الدين في مجرد شعائر و عبادات لا علاقة لها بالحياة العامة من خلال تسييجه في عبارات: " الدين شأن خاص" " أنت و علاقتك بربك". إن فصل خطبة الجمعة عن واقع الناس و همومهم، و تحويل المساجد إلى عوالم منفصلة، و جعل الخطباء خارج الزمان و المكان يعد ضربا من الخبل، و ذلك بسبب شمولية الدين التي تجعله عصيا على الإقصاء. البعض يستنكر أن يتحدث خطيب الجمعة عن الأعياد و المناسبات الوطنية و القضايا الاجتماعية كحوادث السير و الرضاعة الطبيعية و غيرها، و يرون أنها قضايا بعيدة عن الدين، و الحقيقة أنها من صلب الدين و جوهره إذا ما تم تسليط الضوء عليها وفق رؤية شرعية، لأن الإشكال ليس في الأقضية و الحوادث بل في طريقة تناولها، و زاوية النظر إليها. و هكذا يتضح أن هذا التمرين البيداغوجي الذي وضعت فيه وزارة التوفيق نفسها أورثها الكثير من العنت، و أثبت بلا مواربة أن فصل الدين عن الحوادث و الأقضية بغض النظر عن تصنيفها أمر يضرب في الصميم مخطط الوزارة عينها، فهي بقدر ما تسعى إلى الفصل بين الديني و السياسي تجد نفسها مضطرة إلى الاستعانة به للتبشير بمشروعها التحكمي. فهل من المعقول أن يتم تغييب الخطاب الديني عن أحداث الحسيمة دون غيره من الخطابات الأخرى؟ و هل يعقل أن يمنع الخطيب من الإدلاء بالرأي الشرعي في أمر هو حديث الخاصة و العامة؟ و هل كانت الخطبة على عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و الخلفاء تقتصر على أمور العبادة و العقيدة -على أهميتها- فقط ،التاريخ يخبرنا أن خطبه عليه السلام كانت في غالبها استجابة طبيعية لما كان يحدث في زمانه من وقائع و أحداث، و كذلك كان الحال على عهد الصحابة الكرام. فليس هناك عاقل يقبل أن يدعو الخطيب الناس إلى التصويت لصالح هذا الحزب أو ذاك أو يروج له بأي شكل من الأشكال – حدث أن الخطباء دعوا الناس إلى التصويت بنعم على التعديل الدستوري الأخير- و هذا ضابط أخلاقي شأنه في ذلك شأن القاضي الذي يمنع عليه مخالطة تجمعات الناس أو الطبيب الذي يلتزم بعلاج العدو و الصديق، و لكن في المقابل لا يمكن تكميم أفواه الخطباء و منعهم من ممارسة واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و لذا كان على خطيب الحسيمة أن يتحدث عن حراك الحسيمة و يحث الناس على التحلي بقيم السلم و الأخوة و الوحدة، بدل تخوين الحراك و تصنيفه ضمن خانة الفتنة، و لو أن هذا الخطيب تٌرك على سجيته لما خرج عن إجماع سكان الريف، و عليه فالمطلوب هو تغيير الخطاب الديني الرسمي، و ليس تغييب قضايا الناس عن خطبة الجمعة.