يعتبر الفيلم القصير " بيانو" للمخرج المغربي لحسن زينون من بين الأفلام المتميزة في تجربته السينمائية، والذي أنتج سنة 2002. فيلم استعاد فيه، حسب تصريح سابق له في بني ملال، لحظات من طفولته في إحدى الأحياء الهامشية بالدار البيضاء أنذاك خلال خمسينيات القرن الماضي، بعدما حلت أسرته بها، قادمة من الجنوب المغربي (سوس) مثل آلاف العائلات المغربية التي هاجرت إلى المدن الكبرى قبل وبعد الحماية، هذه الأسر جاءت محملة بثقافة محافظة كان لها دور في سيرورة اندماجها في المجتمع الحضري. فيلم "بيانو" الذي انطلق من موضوع فني لخدمة الإبداع السينمائي، ويتعلق الأمر بعلاقة الفرد بالموسيقى، حيث قدم لنا من خلاله المخرج موقف فئات عريضة من المجتمع المغربي من الفن عامة والموسيقى خاصة. يعنينا في هذا المقال، التوقف عند هذه الإشكالية ورصد أشكال استثمار اللغة السينمائية لطرحها. سلطة الأب والوصاية المطلقة ركز المخرج لحسن زينون في فيلمه "بيانو" على سلطة الأب منذ اللقطة الأولى والثانية، بل ولمح لذلك بإدراج مقولة لأحد المفكرين تتضمن فكرة كون العدو الأول للإنسان هو الخضوع، ففي اللقطة الأولى حضر الأب كشخص عائدا إلى المنزل، في حين حضر رمزيا في الحوار بين الأم والابن فوق سطح المنزل، سلطة سيكشف عنها المخرج أكثر في لقطة أخرى داخل المطبخ، وقد اعتمد على لقطة / مشهد plan séquence، مركزا على الحوار بين الشخصيتين، بالمزاوجة بين الحوار اللفظي والجسدي، هذا الأخير برز في الدوران حول بعضهما البعض للتعبير عن التيه والضياع وعدم القدرة على اتخاذ القرار، خاصة من طرف الأم العاجزة عن مصارحة الأب برغبة ابنها. تتوالى اللقطات المعبرة عن تسلط الأب داخل الفيلم من خلال تقبيل يده من طرف الأبناء عند ولوجه المنزل، واللجوء إلى الحوار بالعيون بين الأم والأبناء خوفا من الأب، وفي هذه اللقطات التي كانت مكبرة أراد المخرج أن يقرب لنا ما تحس به الشخصيات في حضرة أب متسلط يرفض الاستماع للموسيقى في المذياع، ورغم ذلك يرقص رقصة " أحواش" حين يذهب لمسقط رأسه (انفصام). يقدم لنا المخرج جانبا آخر من سلطة الأب من خلال لقطة صفع الابن والإتيان بالفأس لتكسير البيانو، وقد أدى دور الأب بمهارة أحمد بولان الذي ينتسب للسينما المغربية تمثيلا وإخراجا. استنطاق الفضاء دفاعا عن الفن اعتمد المخرج لحسن زينون في إدارة التصوير على عبد الكريم الدرقاوي، وهو من بين الأسماء البارزة وطنيا في هذا المجال، ولهذا جاءت اللقطات من حيث التأطير وزوايا التقاطها مليئة بالدلالات والرموز، ومحيلة على الكثير من جوانب الخصوصية المغربية، من خلال صور الأثاث المنزلي واللمة العائلية وأواني الطبخ خاصة الطاجين، باعتباره أيقونة نكتشف فيها الأصالة المغربية. برزت بشكل ملحوظ أواني إعداد الشاي والساعة الحائطية والمذياع القديم، بعضها صور في لقطات مكبرة لتثمين حضورها في الفيلم. كل هذه التفاصيل تتضمن إحالة على إبداعية الصانع التقليدي المغربي خصوصا، واهتمامه بالجوانب الفنية والجمالية في منتوجاته، وبالتالي يمكن اعتبارها صورا تتماشى وتيمة الفيلم المدافعة عن الفن. من الجوانب المثيرة في الفيلم كذلك، الاعتماد في الموسيقى التصويرية على معزوفات من البيانو مأخوذة من معزوفة مشهورة لفرديريك شوبان، هذا الأخير استحضره المخرج كرمز من رموز الموسيقى العالمية، كما وظفت الإنارة بطريقة فنية قربت لنا تفاصيل وجوه وسحنات الشخصيات ومعالم الأمكنة. الفن في مواجهة سلطة الأب مقابل صوت الأب الرافض للموسيقى الحديثة، عبر آلية المنع التي واجه بها رغبة ابنه في شراء البيانو التي لم يعبر عنها بشكل مباشر في الفيلم، برزت شخصيات/ قوى تعارض هذا التوجه، سعت إلى تحقيق غاية " علي" وأمنيته، بدءا من الأم التي كانت تهدئ وتحاور الابن خوفا من الاصطدام مع الأب، ثم الخال العاشق للموسيقى والمالك لفرن شعبي، وقد تم تصويره في لقطات مقربة في الحوار مع " علي" ليقربنا المخرج من وضعه بشكل واضح، تدخل الخال بلغ درجة الدعم المالي المباشر ل "علي". والطرف الأكثر أهمية في هذا الصراع هو الأستاذة وإن كانت مواجهتها للأب غير مباشرة، وهذا ما جعل المخرج يستحضرها بتقنية "الفلاش باك". يمكن أن نضيف إلى هؤلاء المعارضين للأب، صاحب العربة وبعض الجيران الذين دعموا "علي" حين ساعدوه في إيصال البيانو إلى داخل المنزل، رغم أن بعضهم لم يكن على علم بماهية ما يحملونه. ومن أحسن اللقطات التي تضمنها الفيلم، تلك التي ختم بها، حيث صور "علي" منهمكا في العزف على ألته، بعدها بدأت النوافذ تفتح من تلقاء نفسها الواحدة تلو الأخرى، بما فيها نوافذ الجيران التي رحبت هي الأخرى بصوت البيانو الجميل الذي يخاطب الإحساس، وقد ساعد اشتغال الموضب الراحل محمد مزيان مع المخرج لحسن زينون في هذا الفيلم لخلق متواليات سردية مترابطة تمتع العين والوجدان.