وإذا قمنا، في المقالات السابقة، بتحديد الديمقراطية التي نريد، والتي اعتبرناها متناقضة مع ديمقراطية الواجهة، ومع الديمقراطية الليبرالية، التي اشترطنا فيها أن تصير مستجيبة لإرادة الشعوب، في البلدان ذات الأنظمة التابعة، والتي لم نصنفها في خانة الديمقراطية الاشتراكية، مع أننا اشترطنا فيها أن تصير بمضامين اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، نظرا لكون الوعي الاشتراكي، لم يترسخ بعد بين أفراد المجتمع، في كل بلد من البلدان ذات الأنظمة التابعة، وخاصة في المغرب. ولأن الديمقراطية الاشتراكية، لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل قيام الدولة الاشتراكية. والدول القائمة في البلدان ذات الأنظمة التابعة، لا يمكن أن تقبل بتحولها إلى دول اشتراكية، ونظرا لكون الديمقراطية الليبرالية، التي كانت، في مراحل معينة، تبهر الرأي العام في البلدان ذات الأنظمة التابعة، ومنها المغرب، ولأنها صارت بفعل توجيهها من قبل النظام الرأسمالي العالمي، بمؤسساته المالية الدولية، وبشركاته العابرة للقارات، كما توجه تماما ديمقراطية الواجهة، من قبل التحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف. فإننا نتساءل: هل الديمقراطية الليبرالية، لا زالت واردة كمطلب جماهيري؟ وهل تحقق المجتمع الليبرالي، في البلدان ذات الأنظمة التابعة، حتى تصير الديمقراطية الليبرالية مطلبا جماهيريا؟ وهل يمكن أن يتحقق المجتمع الليبرالي، في المجتمعات ذات الأنظمة التابعة، ومنها المغرب؟ أليست البورجوازية، القائمة في هذه البلدان، ذات أصول غير بورجوازية؟ هل خاضت الصراع ضد الإقطاع، من أجل الوصول إلى السلطة، كما هو الشأن بالنسبة للبورجوازية الأوروبية؟ أليست البورجوازية، والإقطاع، بشكليه القديم، والجديد، نتيجة للسياسة التي نهجها الاستعمار بشكله التقليدي، ونتيجة لانتشار الفساد الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والإداري، في كل البلدان ذات الأنظمة التابعة، ومنها المغرب؟ أليس الجمع بين السلطة، والثروة، هو الذي يؤدي إلى تكديس المزيد من الثروات الهائلة، في يد رجال السلطة، من أصغرهم، إلى أكبرهم، في كل بلد من البلدان ذات الأنظمة التابعة؟ وهل يمكن أن تعمل البورجوازية، في هذه البلدان ذات الأنظمة التابعة، على تحقيق الديمقراطية الليبرالية، في ظل تحالفها مع الإقطاع؟ وهل بورجوازية البلدان ذات الأنظمة التابعة ليبرالية، حتى تعمل على تحقيق الديمقراطية الليبرالية؟ وهل يمكن، في ظل الوضع الطبقي في المجتمعات المحكومة بالأنظمة التابعة، أن تصير الديمقراطية الليبرالية كمطلب جماهيري؟ وما طبيعة الديمقراطية التي تصير مطلبا جماهيريا؟ إن الشروط الموضوعية، التي تحكم البلدان ذات الأنظمة التابعة، التي تم فيها صنع البورجوازية، والإقطاع، في نفس الوقت، من قبل الاحتلال الأجنبي، ليست هي الشروط الموضوعية، التي ساعدت على ظهور البورجوازية في أوروبا، والتي كانت محكومة بالصراع الطبقي، بين البورجوازية، والإقطاع، والتي ترتب عنها إسقاط السلطة الإقطاعية، التي كانت مدعومة من الكنيسة، ووصول البورجوازية إلى فرض سلطتها، انطلاقا مما صار يعرف بالثورة الفرنسية، التي قامت في أواخر القرن الثامن عشر، وهذا الاختلاف، هو الذي جعل الديمقراطية الليبرالية، واردة بالنسبة للمجتمع البورجوازي الناشئ، حتى يتم التداول على السلطة، علن طريق تفعيل الديمقراطية الليبرالية، بينما نجد أنه في البلدان ذات الأنظمة التابعة، حيث أشرف الاستعمار بشكله القديم، الذي كان لا يهتم إلا بنهب ثروات هذه البلدان، على إيجاد التشكيلة الإقطاعية، والتشكيلة البورجوازية، اللتين تمكنتا، في عهده، من التمتع بالكثير من الامتيازات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية. وهذه الامتيازات، هي التي مكنت هاتين التشكيلتين، من تسلم السلطة من الاحتلال الأجنبي، في إطار ما صار يسمى بالاستقلال السياسي، الذي حافظ على التبعية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، كذلك. إلا أن الجماهير الشعبية الكادحة، بالخصوص، وبفعل ارتفاع وعيها السياسي، صارت تطالب بالديمقراطية، التي لا يمكن اعتبارها ديمقراطية ليبرالية، نظرا لكون الجماهير الشعبية الكادحة، تعاني اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، كما تعاني سياسيا. وهو ما يجعل الديمقراطية، التي تطالب بها، ذات مضامين اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية. وهذا النوع من الديمقراطية، الذي يقتضي قيام دستور ديمقراطي شعبي، ووجود هيأة مستقلة، للإشراف على الانتخابات، ووجود قوانين انتخابية، تضمن النزاهة الكاملة للانتخابات، من أجل إفراز مؤسسات تمثيلية حقيقية، في المؤسسات الجماعية، والتشريعية، والحكومية، التي تتفرغ لتحقيق التوزيع العادل للثروة، والاستجابة للمطالب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، التي يتمثل تحقيقها في تحقيق الديمقراطية، بكل مضامينها المذكورة، وهو ما يتناقض مع مصالح التحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف، الذي لا يستجيب للمطلب الديمقراطي الشعبي، ويفرض على الشعب، وعلى الجماهير الشعبية الكادحة، شكلا من الديمقراطية، التي لا تستجيب لمطالبها، وبدون مضامين اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، وتختصر فقط في المضمون الانتخابي، الذي يعتبر جزءا بسيطا من المضمون السياسي، وفي إطار دستور ممنوح، لا علاقة له بالدستور الديمقراطي الشعبي، كما يحصل في المغرب، ومنذ الاستقلال السياسي سنة 1956، وإلى دستور فاتح يوليوز 2011، والذي لم يعرف، وفي ظل جميع الدساتير الممنوحة، إلا الانتخابات المزورة، التي لا تخدم إلا مصالح الطبقة الحاكمة، وباقي المستغلين، وسائر المستفيدين من الاستغلال المادي، والمعنوي. ولذلك، فمطلب الديمقراطية الليبرالية، غير وارد من قبل الطبقة الحاكمة، في كل بلد من البلدان ذات الأنظمة التابعة، ومنها المغرب، ولا من قبل شعوب هذه البلدان، ومنها الشعب المغربي. فديمقراطية الواجهة، لا يمكن أن تكون هي الديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية بمضامينها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ليست كذلك هي الديمقراطية الليبرالية؛ لأن الديمقراطية الليبرالية، تأتي استجابة لمطالب البورجوازية الليبرالية. والبورجوازية الليبرالية، التي أفرزها الصراع مع الإقطاع، غير موجودة في البلدان ذات الأنظمة التابعة، التي توجد فيها بورجوازية من صنع استعماري، ونتيجة لانتشار الفساد الإداري، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، الذي لا زال قائما إلى يومنا هذا، كما هو الشأن بالنسبة للإقطاع بشكليه القديم، والجديد، ونتيجة كذلك لسيادة اقتصاد الريع، المترتب عن الامتيازات المقدمة إلى العملاء، على اختلاف درجاتهم. أما الديمقراطية التي تأتي استجابة لمطالب الجماهير الشعبية الكادحة، فهي الديمقراطية بمضامينها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وفي ظل دستور ديمقراطي شعبي. ومعلوم أن المجتمع الليبرالي، الذي يقف وراء تحقق الديمقراطية الليبرالية، لم يتحقق في أي بلد من البلدان ذات الأنظمة التابعة، ومنها المغرب. وهو ما يجعل إمكانية تحقق الديمقراطية الليبرالية، غير وارد؛ لأن التشوه الطبقي، أصاب المجتمعات ذات الأنظمة التابعة. فالاحتلال الأجنبي، لما عمل على إنشاء التشكيلة الإقطاعية، والتشكيلة البورجوازية، في نفس الوقت، ودون أن تأتي التشكيلات كنتيجة حتمية للتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والسياسي للمجتمع المحتل، وجعل التشكيلتين معا مرتبطتين بالاحتلال الأجنبي، وتسليمهما الحكم، في إطار الاستقلال السياسي، الذي عرفته البلدان ذات الأنظمة التابعة، لتبقى مصالح التشكيلتين: الإقطاعية، والبورجوازية، مرتبطة بحماية الدولة التابعة، المرتبطة بالدولة الرأسمالية المحتلة سابقا،والتي لا زالت محتلة للاقتصاد، والاجتماع، والثقافة. ولذلك، لا نستغرب إذا وجدنا أن الإقطاع، والإقطاع الجديد، ليس لديه أي مشكل مع البورجوازية، وأن البورجوازية، ليس لديها أي مشكل مع الإقطاع؛ لأن كلا منهما ليس نقيضا للآخر، ولأن الصراع الذي جرى في أوروبا بين البورجوازية، والإقطاع، لم تعرفه البورجوازية والإقطاع في البلدان ذات الأنظمة التابعة، خاصة، وأنهما، معا، يحملان نفس الأيديولوجية، التي توجه ممارستهما السياسية. هذه الأيديولوجية، هي بمثابة خليط، بين فكر البورجوازية، والفكر الإقطاعي، إلى جانب الفكر الديني، لصياغة أيديولوجية البورجوازية، والإقطاع، في البلدان ذات الأنظمة التابعة، ومنها المغرب، وهذه الأيديولوجية المختلطة، هي التي تقف وراء التحالف بين البرجوازية، والإقطاع، الذي نسميه بالتحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف، والحاكم في البلدان ذات الأنظمة التابعة. وهو ما يعني: أن تحقق المجتمع الليبرالي، صار غير وارد في مجتمعات البلدان ذات الأنظمة التابعة، وحتى إذا وصلت الطبقة الوسطى إلى الحكم، عن طريق الانقلاب، أو عن طريق الانتخابات المزورة، غير الحرة، وغير النزيهة، فإن تلك الطبقة، غالبا ما تكون مريضة بالتطلعات الطبقية، التي تجعلها تستغل السلطة، لتحقيق تطلعاتها الطبقية، لتصير مصنفة بدورها، إلى جانب التحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف. هذا ما يعني: أن الآليات التي رسخها الاحتلال الأجنبي، في البلدان ذات الأنظمة التابعة، تجعل قيام مجتمع ليبرالي، من باب المستحيلات، مما يجعل صيرورة الديمقراطية الليبرالية مطلبا جماهيريا، كذلك من باب المستحيلات، خاصة، وأن الجماهير الشعبية الكادحة، في البلدان ذات الأنظمة التابعة، تعاني من التحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف، ومن الطبقة الوسطى، ومن الفساد الإداري، ومن المؤسسات المنفرزة عن الفساد السياسي، الذي تعرفه الانتخابات في ظل الدساتير الممنوحة، التي لا علاقة لها بالإرادة الشعبية، بقدر مالها علاقة بتزوير تلك الإرادة، الذي صار منهجية للطبقة الحاكمة، في كل بلد من البلدان ذات الأنظمة التابعة، بما فيها التحالف البورجوازي الإقطاعي المتخلف، والحاكم في هذه البلدان، بما فيها المغرب.