كلنا يسمع عن قصص النجاح وكيف فعل أصحابها حتى يكونوا ما صاروا، لكن بعضٌ من تلك القصة تجعلك تشعر بالدهشة وتبقى تتسائل بنفسك كيف تمكن هذا من مقاومة وتحدي كل ما حوله من تحديات، بل كيف خرج من تحت الرماد ليصبح شيئاً بالمجتمع خاصةً بقطاع غزة المحاصر. تزوجت تلك الفتاة وهي بالصف العاشر الأساسي، وعندما نظرت إليها مدرساتها تملكهن العجب لما تملك الفتاة من موهبة شعرية تفرش لها الأرض بالورود لتصل، لكن أمل أبو عاصي "32" عاماً كان طريقها مفروشا بالأشواك قبل حيازتها على أربعة ألقاب في الشعر، ووصولها إلى العمق العربي بكلمتها. بعد زواجها بسنوات وإنجابها لأطفالها الأربعة وكانت فتاتها الكبرى ذات تسع سنوات وصغيرها ذو عامين، قررت أملُ أن تدخل الجامعة، قرارها لاقى ترحيباً من زوجها التاجر الذي لم يحصل على فرصته بالتعليم بعد الثانوية العامة، فقرر أن يمنحها لزوجته أمل. القرار لم يكن محل ترحيب لمحيط أبو عاصي الاجتماعي، فبِعُرف المجتمع إذا تزوجت الفتاة فقد أخذت مستقبلها وإذا أنجبت فوَقتها لأطفالها، موهبة اليازجي كانت معها منذ طفولتها حيث كان والدها تحسين أبو عاصي أسيراً في سجون الاحتلال الصهيوني حينما وجد في استقباله 3 دفاتر مليئة بالقصائد الشعرية لطفلته أمل ذات الثمانية أعوام آنذاك، فكانت نعم الهدية في استقباله. ظلت أبو عاصي مولعة بالشعر والكتابة حتى الصف العاشر الأساسي، وبعد الزواج كحال باقي النساء انخفضت الكتابة حتى اضمحلت، لكن جذر النبتة ما زال تحت التراب لم يمت من قوته وينتظر قطرة من الماء ليخرج إلى النور، لكن أمل النبتة الصادقة التي كانت تعيش مع زوجها سامي اليازجي والذي لم يكن أبداً معترضاً عليها بل وشجعها،فظلت النبتة تحت التراب بلا موت. عام 2010 قررت أبو عاصي أن تدخل مرحلة ليست بالسهلة أبداً في حياة أي إمرأة متزوجة، ووسط الموافقات والإعتراضات، دخلت أمل الجامعة الإسلامية قسم اللغة العربية وبفضل اليد العليا زوجها سامي وإرادتها التي لا تعرف القهر اكتسحت المتزوجة ذات الأربعة أطفال جميع زملاء الدفعة لتحوز على المرتبة الأولى عليهم. موهبتها ومهارتها في إدارة تلك الموهبة، استدعت اهتمام أستاذها الجامعي الأستاذ الدكتور عبد الخالق العف، والذي أشرف بشكل مباشر عليها فعلمها الشعر والعروض لما رأى في عيني تلميذته الإرادة الصلبة، فكانت نعم المسانِدة لمدينتهاغزة المحاصرة في العمق العربي، فألفت الشعر وكانت لساناً سليطاُ على جرائم الاحتلال وكانت نعم من يمثل شعبه وينقل معاناته. ومن لا يحترف صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر، وهي تسير على راحة كف يد زوجها الممدودة لها ووسط كل التحديات التي كان مسؤوليات بيتها وأطفالها وزوجها التحدي الأكبر. والمحيط الاجتماعي الذي لم يكن يروق له كثيراً ما تفعل واجهت أمل بكل تحد وأمل وبلا كلل أو ملل طريقها الأكاديمي بالشعر حتى أنجزت البكالوريوس بالمرتبة الأولى على الدفعة وسجلت لدراسة الماجستير. فالموهوب والناجح لا يعرف الكلل أو الملل ويسلك كل طريقٍ للوصول، ويحترف صعود وركوب الأمواج وخاصة العالية منها، وقد كان لأرض الكنانة مصر الدور الأولى في نشر شعر أمل حيث صدر لها ديوان "أربعة فصول للضباب" هناك والذي تصفه أمل بأنه كُتب بالدموع من كثرة ما بكت أثناء كتابته، فلم تنزل دمعتها أمام الجمهور بل كان قلبها من يكبي أثناء الكتابة، لتهجو حصاراً لم تذنب غزة حتى يفرضوه عليها. أربعُ قضايا رئيسة كرست أمل لها موهبتها الشعرية، القضية الأولى والتي شغلت اهتمامها كانت العودة، فبالرغم من كونها من مدينة غزة الأصل إلا أنها لم تنس الأرض التي احتلها الصهاينة، فظلت تناصرها حتى نالت كلمتُها لقب شاعرة العودة، أما ما يقارب من 6000 أسير بسجون الاحتلال فقد كان لتضحيتهم الجسيمة نصيب من مساحة الأرق التي شغلت كلمة أمل حتى حازت لقب شاعرة الأسرى. فقد منحها إياه الأسير المحرر أحمد الفليت مسؤول رابطة الأسرى والمحررين بغزة، عملت أبو عاصي أيضاً مع العديد من دور النشر مثل القمري عبر الإنترنت، وقد كان للإعلام أيضاً نصيب من رحلة أمل في الشعر حيث عملت في قناة الأقصى الفضائية التابعة لحركة حماس في غزة. كما فرضت الدول المجاورة الحصار الأرضي على غزة، استطاع الشباب كسره على مواقع التواصل الاجتماعي هكذا تصف أبو عاصي الثورة الإلكترونية التي أطلقها الغزيون بالسنوات الأخيرة، فقد تواصل مع أمل الكثيرون من أبناء العروبة خاصةاليمنيون كانوا أكثر وأجمل من تواصلوا معها كما تقول، وقد أثنت عليهم كثيراً، أيضاً الجزائر بلد المليون شهيد تفاعلوا مع اليازجي عبر وسائل التواصل. لكن اللافت بمسيرتها أن الحادثة الفارقة في حياة أبو عاصي كانت يوم أن أقدم أخوها محمد صاحب كشك "روتس الغلابة" في غزة على تجرع السم، بعدما صادرت له بلدية غزة البسطة الصغيرة التي يبيع عليها الذرة المسلوق. شقيق أمل أطلق على بسطته روتس الغلابة قياساً على مطعم الروتس غرب غزة والذي لا يتمكن من دخوله إلا أصحاب الأموال من أصحاب الأعمال في غزة. وقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعد الحادث فليس كل ما في غزة ملائكي، وهناك من الأخطاء كما في كل البقاع، لاقت الحادثة تفاعلاُ عالياً من كلمة وقلم أبوعاصي فلم تنم ليلة على مواقع التواصل الأجتماعي، وانتشرت قصة أخيها كما النار بالهشيم لتصل إلى الجميع ليُوضع حداً لما يحدث من حصار أضاع أحلام الشباب، وخلل إداري من قبل بلدية غزة. تقول أبو عاصي أن الأديب يجب أن يكون مستقلاً في رسالته وليس محسوباً على أحد فهو يمثل وطناً بكامله، لكن للأسف بعد الحادث كثيرون تخلوا عني كنت أنتظر منهم مساعدة، وآخرون وقفوا معي وآزروني، وقد مضت الحادثة وعاد أخي بعدما خرج بسلامة المولى من المشفى إلى مكان عمله في البسطة الصغيرة، رغم بعض عروض العمل التي أتت إليه إلا أن أبى إلا أن يظل ممثلاُ للبسطاء. تقول أمل الشعر جعل مني إمرأة مختلفة تماماً، أصبحت أشعر بمسؤولية عالية وأني محاسبة وكلمتي محسوبٌ صداها، فقد ضاعف نجاحي الأمانة الملقاة على عاتقي فاتجهت لمركز القطان للأطفال وسط غزة كي أعلم الأطفال العروض وكتابة الشعر فأفضل مرحلة لبناء مقاومين بالكلمة هي الطفولة. كما تعبر عن حزنها عن الواقع الذي وصل إليه الحال العربي اليوم، فبعدما كنا نحن الأطهر والأفضل بالعالم أصبحنا لا نذكر إلا والدماء ترافق الحديث عنا، الكتاب أصبح في عزلة، الشعر علمني الحرب بالكلمة فلم القتال والتناحر ونحن أولو أفضل دين نزل، فالبيوت نفسها أصبحت شعوب مختلفة وعلى المائدة الواحدة. فلو أننا نحب ديننا ونبينا لم يحدث ما يحدث الآن، فوحدتنا وصلاحنا مرهون بمدى التزامنا بديننا وإتباع نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، فالجدالات العميقة الغير مرفوقة بأي حجة أضحت الشغل الشاغل لمجالسنا يكفر بعضنا بعضاً ففهم الدين بشكل بسيط سيجعل قلوبنا طيبة بيضاء كما تقول أبو عاصي. أما مسابقة مجلس الكتاب والأدباء والمثقفين العرب فقد حصدت فيها أمل على المرتبة الأولى على مستوى العربي لتصل بذلك إلى العمق العربي بلسانها الغزي، والآن روايتها "عندما يتعرى النهر" بطريقها للولادة الأدبية نهاية أغسطس، تختم أبو عاصي "وصلت إلى أفضل وأكثر مما أريد، فقد وهبني الله الكثير مما لم أطلب منه". إنجاز ونجاح أمل أبو عاصي هذا مثال على واحدة من كثيرين لم يمنعهم الطوق الذي فرض على غزة من إحداث ثغرات، فبرغم معبر رفح البري البوابة السوداء التي تحكم غزة وضياع العديد من الفرص في العواصم العربية على أبو عاصي وغيرها من آلاف الفلسطينيين إلا أنهم لم يسلًّموا للأمر الواقع بل استمروا في نضالهم حتى يصلوا. فمنهم من ظفر بالفوز وخرج من المعبر بعد رحلة معاناة شاقة بالانتظار وخرج ليكمل المسيرة بالخارج، ومنهم من ينتظر الخروج كحال اليازجي التي تتمنى أن تخرج لتكمل مسيرة التعليم بالدكتوراة لتكون مفخرة لزوجها ومحيطها الاجتماعي.