إن التركيب الحروفي في اللغة العربية يشير إلى أن نظم الحروف عامة يحدد العلاقة بين المعنى ولفظه، لكن لا يجب أن ننسى بأن هناك علاقة أخرى تتحدد بين المعنى ورسمه، ولذلك فأهمية الكلمة في المصحف الكريم ووضعها في مكانها اللائق لا يحيد عن رسمها بالشكل اللائق، وفي الموضع اللائق وهو شرط للفصاحة اللفظية والخطية معا حتى يتناسب المعنى والقصد في اللفظ والخط على حد سواء. فالخط العربي مثل اللغة العربية، بل إنه ترجمانها يسير في نفس الجمال. لأن الوضع الجميل للألفاظ القرآنية يوازيه الوضع الجميل للكلمات في المصحف الكريم، وانتظام أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف إلى الحرف، في الكلمة إلى الكلمة، في الجملة إلى الجملة، يخلف رونقا جماليا يثير الإحساس ويؤثر في النفس، وهو نفسه على مستوى الخط، حيث تنتظم أسباب الإعجاز من البصر في الحرف إلى الحرف، في الكلمة إلى الكلمة.. يخلف رونقا وبهاء، فيتركب الجمال في الذهن ويؤثر على الإحساس. وهذان النوعان من الإعجاز تختص بهما اللغة العربية وحدها، والخط العربي وحده. فهي صورة كاملة متكاملة وواحدة موحدة. وبذلك فالقرآن معجز بلفظه وبخطه. والقرآن الكريم قوام الكمال في اللغة العربية بكل تفاصيلها، كذلك الشأن ينبغي أن يكون بالنسبة للخط العربي بكل تفاصيله في الدرجة الثانية. والله تبارك وتعالى الذي جعل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، جعل له كذلك خطا عربيا مبينا. فتجد السامع والرائي في نفس الوقت ينبهران أمام كتاب الله تعالى سمعا وبصرا. فنظم الحروف يبتدئ من صناعة أشكال الحروف ثم تواليها في الكلمة المكتوبة متراصة على النحو الجمالي الذي يليق بتلك الكلمة، ثم تواليها في الآية الكريمة بالشكل الجمالي المتناسق المتكامل الذي يليق بوضعية تلك الآية الكريمة، ثم في السورة الشريفة بأبهى الطرق الجمالية التي تقتضيها تلك السورة الشريفة. وهي الحروف بهذا المعنى تستبطن إيقاعا عفويا غير مصطنع، قوامه التوافق الجمالي بين خصائص تلك الحروف وبين ما تدل عليه من المعاني إيحاء أو إيماء. فما أن ترى الكلمة في هذا المصحف الكريم حتى تجد أن خصائص الحروف ومعانيها هي التي تتحكم بإيقاعاتها وجمالياتها طواعية في الجمالية البصرية لمبصريها، كما أنها لو سمعت لتحكمت بإيقاعاتها الصوتية في أذواق السامعين. فجمالية الحروف في هذا المصحف الشريف توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر المختلفة، باعتبار وجود نظام فطري يحكم العلاقات الكائنة بين الحواس والأحاسيس والمادة البصرية. فاستيحاء معاني الحروف في جمالياتها البصرية، إنما يتفاعل عن طريق التوظيف الحرفي الذي يبرز عملية النظم القرآني البصري في استواء موحد في عمليات تركيب الحروف والكلمات والجمل، باعتبار الجانب البصري الذي يحقق الافتتان بوضعه في الموضع الصحيح اللائق الذي يتم بانعكاس شعوري على المشاعر والأحاسيس التي تثيره جماليات الحروف في النفوس. فجمال أشكال الحروف يؤثر في الوجدان. فتجد مثلا حرف لام الألف أو النون أو الجيم أو الميم في هذا المصحف توحي بصريا بأحاسيس معينة. فضلا عن تمكينها لمعنى معين ببصرية الكلمة والجملة ومقصدها. وبذلك فالنظم البصري للحروف في المصحف الكريم يتميز بسياق متفرد يتسم بالطابع الروحي في عملية التركيب، وطابع القدسية في عملية التموضع الحرفي، وطابع الجمالية في عملية التقييس والترصيص والتصفيف والتلوين والتزيين والتنميق بمقدار ما تشتمل عليه من معاني وما تثيره من أحاسيس في النفوس. وبالتأمل في الحروف سواء مفردة أو مركبة بتجلياتها الشكلية وطريقة رسمها، وتجلياتها اللونية نلمس البعد الفلسفي ونلمس البعد الروحي بنوع من الاستمتاع الذي يترتب عن عملية النظم الحروفي البصري المحكم. إن المتمعن في حروف المصحف الشريف، من حيث نظمها بصريا، يجد سيلا من الأشكال والعلامات والمنمنمات تغذي الوضع والتركيب لتغني الجمال كما تغنيها الحروف مركبة، وهي تتكامل وتتجانس فيما بينها في توليف مع أشكال الحروف في ميلانها ودورانها وحركاتها وجمالياتها تتناسب مع الإيقاع الخطي الذي يتبدى بشكل أجمل، لأن هناك خصائص روحية تتسم بها الحروف. فالبنظر إلى التركيب ومواقع الحروف وتموضعها بالشكل المناسب؛ نرصد حركة تفاعلية في البصر، ونرصد ترصيص نونيات أواخر الحروف غير المنقطة، والرؤوس المدورة في الألفات، وموضع وقوع الهمزات، حيث تقع في الدوائر المثمنة الفاصلة بين الآيات الكريمة، والشكل الذي تنزل به المدود، وكيف تساند الحروف بعضها البعض، وتعضد بعضها البعض، وتحن فيما بينها، مع توالي الحركات والفتحات، ونزول المدود العمودية المتزنة والمتوالية التي تفصح عن الفصاحة البصرية، فهي ذاك التجلي الباهي الذي يخرج في النظم المخرج الجمالي التأثيري، لدوره الذي يؤديه في المعنى، فتتبدى بذلك في نظم بصري سوي، التقى مع شكل الآيات العذبة المنظر، والرشيقة التركيب، والفائقة الجمال والمؤثرة في القلوب، والتقى معها كذلك في المنهج والمضمون والأسلوب والاحتفال بالمعنى الروحي وأكد على أن المادة الخطية التي شكلت ورودا جماليا هي التي رسمت معالم منهج هذا النظم الحروفي البصري لهذا المصحف الشريف، وهو يشكل قصدا مهذبا من حيث الجمالية الدلالية.