من الطابوهات السياسية المنتشرة في عالمنا العربي يأتي "ربط المحاسبة بالمسئولية" كما يصطلح عليه عند المغاربيين، ربما تأثرا بالثقافة الفرنسية وترجمة مباشرة لمعنى " ، وإن كان لا يزال مفهوما مجردا تتناوله بعض Lier la responsabilité avec la reddition des comptes" الخطابات الرسمية من باب الاستهلاك الإعلامي مسايرة للحداثة، وكذا خطابات المعارضة الجادة من باب المطالبة بربط فعليّ لشقَّي المفهوم، ثم من باب نقد سلوكات المسئولين الذين لا مُسائِل لهم أوأنهم يمتلكون "حق الفيتو" ضد المساءلة من الداخل. ومن هنا جاءت صيغة المفهوم المغاربي محتشمة بالمقارنة مع الصيغة المتداولة – حتى لا أقول المطبقة في دنيا الناس- عند بعض المفكرين المشارقة حيث يوظفون مفهوم محاسبة المسئولية" تأثرا بالتعبير الأنجلوسكسوني "responsibility accounting" وهي صيغة أكثر جرأة من سابقتها، وخصوصا عندما ترتقي إلى نظام رقابي لقياس الفرق بين الأداء الفعلي والأداء المخطط له أو الموعود به. وبهذا تعتبر، في حالة ممارستها فعليا، سر النجاح وضمان التفوق. ومن البديهيات فإن تغييب الخطط الواضحة المبنية على رؤى علمية، ومحاولة تعويضها بوعود غامضة فضفاضة لا تُعلَم نتائجها ولا مدد تنفيذها ولا… فإن هذا السلوك اللاّمسئول ما هو إلا تفلت من المحاسبة ليس إلا. ولعل هذا هو التصرف السائد في شرق العالم العربي وغربه نظرا لغياب، أو على الأقل اختلال، شرطي المعادلة: قوة المحاسب ونزاهة المسئول. فإذا كان المسئول كما تُعَرّفُه بعض الأدبيات الفرنسية يمثل "ذلك الذي عليه أن يجيب"، فمن عساه يكون المُسائل الذي ينصت إلى الجواب ويقيمه ثم يحرك مسطرة المحاسبة إن حالا أو استقبالا؟. المسائل إذن، كما يقول معنى المثل الفرنسي أيضا، أكبر وأقوى من المسئول. فالمسئول مكلف بالإنجازٍ ، وعليه أن يجيب من يهمه الأمرُ، بصفته الوحيد الذي بمقدوره أن يتخذ قرارا، يجيبه عن النتائج المحصلة. عندما تكون كراسي المسئوليات العليا في دولة ما، كما هو الشأن في دولنا العربية، محمية من مركز أو مراكز للهيمنة، الحماية بمعناها وبحمولتها التاريخية كما تم تعديلها أو تتميمها لتصبح مواكبة للعصر، فإن المحاسبة تصبح حكرا على من منح الكراسي، لأنه هو من حدد المهام وقسمها، ورسم الأهداف وجدولها. وهو وحده من يحدد دورية المحاسبة وكيفيتها، وهو من يتابع ويراقب، وطبعا هو من يقبل أو يرفض. وبهذا فإن الشعوب في مثل هذه الدول تأتي من حيث الاعتبار في درجة ثانية أو ثالثة. فهي وإن صوتت على من ينوبون عنها في برلمانات أو مجالس أمة أو مجالس شورى أو حكومات، فإن الأمر لا يعدو أن يكون مسرحية، وخراجها مجرد ممثلين بالمعنى المسرحي دائما، وليس بالمعنى السياسي. كما أن المؤسسات التي أفرزها ذلك التصويت تكون فاقدة للإرادة، منزوعةَ المسئولية، وبالتالي لا تمتلك سلطة القرار. لذا تدخل جميعُها – تنفيذية كانت أم تشريعية – في مؤامرة صمت رهيب وسكوت أخرس ينتج عنهما إقبار آليات المحاسبة الشعبية، ومن تم النفور الواعي من المسرح وخشباته. فتضمر الشعوب خيبتها، حين فقدت دورها في المساءلة بتفويتها إلى "الممثلين"، وتضُمها إلى ما يمكن أن نصطلح عليه ب"خزان الغضب" إلى حين. أما في الدول المستقلة في قراراتها، الممتلكة لإرادتها، المستقوية بشعوبها، فتأتي الانتخابات الحرة النزيهة بمن تتوفر فيه شروط المسئولية رئيسا كان أو حكومة أو برلمانا. تضع المؤسسة المسئولة، وعينها على خدمة الصالح العام، الخططَ السياسية أو الأنظمة القانونية أو المشاريع الاقتصادية والاجتماعية القابلة للإنجاز، فتحدد ما تريد القيام به، مع المدة اللازمة والميزانية وغيرهما. ثم تشرع في التنفيذ على مرئى ومسمع الشعب الذي ترجع له الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف، بالرضى أو عدمه. وطبعا يأتي جزاء الشعب، للذين حمّلهم المسئولية، من جنس عمل كل مسئول. وفي الختام، ونحن نطل من نافذة الأمل، نتساءل مع أبي القاسم الشابي ونقول: متى تستجيب شعوبنا القدر، وينجلي ليلها، وينكسر قيدها، فتستحق الحياة، وتستحق الحرية، وتستحق الكرامة، و… وتمارس محاسبة المسئولية؟