حين يتأخر قطار الإصلاح عن الوصول إلى محطته الحاسمة ويتباطئ في الاستواء على سكته الطبيعية، فانه –لحظتها فقط- ينتابنا شعور مفعم بالخوف والحزن. لكن حين يتغير منطق مكافحة الاصلاح، ويحاول البعض ان يقنعنا باننا لا نستحقه ولا يتطلب الامر بذلا لمجهود حقيقي لصيانة ثمراته، وحين تستمر مسلسلات التجاوزات المؤسساتية المبرمجة والاخطاء المنهجية الفادحة، ويبدع البعض الاخر من قوى الشد إلى الخلف ويجتهدون في صناعة الازمات وتكريس الانسدادات وافتعال المطبات السياسية في محاولة لتعطيل عمل المؤسسات، وحين يستمرئ آخرون مواصلة العبث بالقوانين الوطنية المؤطرة لمجمل العملية السياسية ومنظومة العمل الديمقراطي والمؤسساتي، ويصرون على البقاء في الزمن السياسي الضائع الذي خرج الناس –ذات حراك شعبي مطالب بالاصلاحات العميقة للدولة والقرار العمومي وربطه بصناديق الاقتراع-لفك الحصار والانحسار الذي طوقهم منذ عقود وكرس مأزقا لتنظيماتهم ومنطقهم ومنهجهم في تدبير العمل العام .. حين يحدث ذلك كله، وجب أن نقف مليا ونضع أيدينا على قلوبنا ونرقب من جديد خط العمل ونفحص جيدا منهجية التدبير ونراجع طريقة الاصلاح بكليته.. وحينها تنتابنا موجة من الفزع والريبة والتشكك ممزوجة بالامل والرجاء.. لدرجة اننا لا نصدق ما يحدث من مجريات متسارعة ..من فرط تلاحقها وتعاقبها المتتالي. منذ نحو خمسة من السنوات ونحن نبوح وصدح بالصراخ والقول والكشف والنقد والتعبير العلني ، الكثيرون يمارس هواية الكتابة عبر أقنية الاعلام والمساحات المتاحة في الصحافة، وبعضنا الاخر يصدح بالصوت الهادر احتجاجا في الشارع، حتى انبرى منه اللسان والموقف، محذرين –جميعا ومن مختلف المواقع-من وصول الناس الى اليأس ومن محذور انطفاء الامل الذي انقدح ذات انتفاض شعبي منذ 20 فبراير 2011، وهم يحذرون من نفاد رصيد الصبر المتبقي لدى الناس جميعا من امكانية الاصلاح، ومن قساوة الظروف التي قد تدفعهم الى اليأس من الامكانية التي أتاحتها لحظات تجديد ذاك الامل عبر حكومة الانتقال الديمقراطي النابعة من تجديد الثقة بامكانية الاصلاح التراكمي عبر بوابة المؤسسات الدستورية المنبثقة عن انتخابات غير مطعون في صدقيتها السياسية والتي أفرزت مشاركين جددا في تدبير الحكم وتوجيه السياسات العمومية والقرار العمومي، بكل ما ألفناه من أدبيات ديمقراطية وتراث متراكم من النضج للقوى السياسية من الاصلاحيين، وبكل ما تربى عليه جيلنا من اخلاقيات وقيم العمل العام، كل ذلك لأن العديد من الناس صاروا –لمدة معتبرة من الزمن- لا يؤمنون بالمؤسسات.. وانما تدهورت ثقتهم فيها بفعل الممارسات الرديئة لبعض الاطراف داخلها وبفعل ما فعلناه بأنفسنا ..حتى أوصلناهم الى الجدار والباب المسدود..أتحدث عن الممارسين لتلك المسؤوليات من مواقع الفعل والقرار، وكذا المتفاعلين معهم. لقد سبق أن قلنا لمرات عديدة أن بلادنا ليست استثناء متعاليا عن سنن الله في الدول والمجتمعت، وان عواصف التغيير السياسي الشامل التي اجتاحت الكثير من بلاد العرب ستداهمنا ، وأن الربيع الديمقراطي سيغشانا، اذا لم نتحرك بسرعة نحو تحقيق مطالب الناس المشروعة والمعقولة والممكنة..ذات الصلة بالدمقرطة والعدالة والكرامة ، والعمل على الرد على اسئلتهم بحكمة وعقلانية كما كان في 9 مارس 2011، حينها قلنا أن قطار الاصلاح -الذي تباطأ وتأخر كثيراً- يواجه على مسار آخر مواز قطار نفاد الصبر على الاصلاح الذي طال انتظاره، هذا النفاذ الذي يسير بسرعة جنونية، لقد دعونا مراراً –كجزء من القوى السياسية الديمقراطية واصلاحية الطبيعة والمشروع- الى ضرورة دفع القطار الأول بكل ما نملك من امكانيات وارادات لكي نستدرك القطار الآخر ونخفف من سرعته.. لكن يبدو ان ما نراه من ترددات وارتيابات .. يؤكد شكوكنا، من ان اصواتنا قد تذهب سدى وأن آذان المسؤولين في عمومهم لم تلتقط ذلك النداء التحذيري الصادح نقدا وتوجيها، بحجة انه مجرد صراخ وسينتهي حين يتعب مطلقوه والمستمعون له ايضاً. ليس هذا فقط ، ففي بلادنا التي نجت-بحمد الله-وبحكم الحكمة الجماعية لقيادته وسياسييه ملكا ونخبة وشعبا.. من الجنون والمتاهة والعبث، ثمة من يحاول اليوم أن يفتح قمقم العفاريت لكي يدخلوا إلينا من جديد ومن بعيد، وسواء أكان ذلك بقصد أو بدون قصد.. إن ما حفلت به الايام المنصرفة من سجالات وأحداث ومحاولة العبث في قوانين الصراع السياسي والمس بقواعد التنافس الديمقراطي المفتوح ومحاولات التأثير عليها ، كل ذلك وغيره يدفعنا إلى التحذير مما يجري ، كما يدفعنا الى مطالبة العقلاء –الذين لا نكاد نجد لهم وقعا ولا أثرا- لكي يتحركوا على الفور لإبطال مفعول المحاولات الرعناء التي يجري تصميمها بخبث لإشعال حقولنا السياسية –نسف منطق عمل المؤسسات الدستورية-والاجتماعية-الاستثمار العابث في بعض الملفات الفئوية الملتهبة وبروح مقيتة وانتهازية- كل تلك المحاولات تحاول من جديد إدراجنا في قائمة مواقع وساحات الفوضى العارمة أوالاستقطاب الحاد على مستوى ملفات هامشية، وكأن التشاكس في مجتمعنا أصبح قدرا لا مفرّ منه، إما على أساس هوياتي أو مواطني أو إثني أو فتنوي ... إن جرد حسابات الأعوام الماضية يؤكد لنا – بدون أدنى شك – أن حالة مجتمعنا السياسي والمدني تراجعت وانحدرت نحو الاسوأ، وأن رهاناتنا على ارضاء الشارع وتسكينه وتجميد حراكه بل وتحريف ذلك الحراك لجهة مناقضة ذات النخب السياسية التي كان لها الفضل في الاستجابة لنبضه، أو على الاقل جعل الناس يستفيقون ذات يوم على صور الانفلات المخيف التي تردع الناس من المطالبة بحقوقهم من خلال تشديد قبضة الامن والضبط والتحكم، لكن تلك المحاولات -لحد الان- كانت عاجزة بل فاشلة، ولم تصل الى مراميها النهائية التي كانت تراهن على التعطيل والاعطاب والافشال...وهي مراهنات–بالنتيجة والمنطلق-لم تكن صحيحة ولا سديدة، وبالتالي كان من واجبنا اليوم الصمود في معركة المواجهة السياسية ضد قوى التحكم ومخططات جعل البلد رهينة لقوى مغامرة ومقامرة. لقد كان علينا -كقوى اصلاحية- ان نراجع مواقفنا ازاء مجمل الوضع السياسي العام لجهة تمنيع الانتقال الديمقراطي وتحصينة من ضربات قوى الردة، والانتصار لترسيخ المعادلات السياسية الوفاقية التي انبنت عليها عملية التعاقد السياسي على امتداد المرحلة السابقة، لتعدية الشوط الاساسي من الانتقال الديمقراطي، وتدشين مسلسل العبور الامن للضفة الديمقراطية واستكمال مسارات الاصلاح في اطار الاستقرار وبالتوافق الاساسي مع المؤسسة الملكية، والتشارك المطلوب مع القوى الحية في القرار والمؤسسات والبرامج، من الواجب علينا جميعا كديمقراطيين، ان نفتح أعيننا بشكل افضل على ما يدور في مجتمعنا وما يخطط له من مؤامرات تقصد انهاكه وتفكيك لحمته وافشال مساراته، ونعمل على تفكيك ما يتغلغل داخله من احتقانات وعوامل اضعاف وانهاك للوضع العام وانهاء لمعدلة الاصلاح والتغيير السياسي المؤسسة على قاعدة التعاون بدل الصراع والائتلاف بدل الاختلاف والتشارك بدل التنازع والبناء بدل الغلبة، وهذا ما كانت تعكسه الخطابات السياسية المعلنة -المليئة بالاشارات- للقادة الاصلاحيين في المرحلة ، وما كانت تحمله من مخاوف وتحذيرات ونصائح وتوجيهات، لكي لا نفاجأ بما لا يسعدنا ولكي لا نقع في المصائد التي وقع فيها غيرنا.. وعندئذ لا ينفع الفهم المتأخر ولا الندم ايضاً. إن ما وصل اليه مجتمعنا المغربي اليوم، لم يكن مفاجئا إلا للذين ما زالوا مصرين على إنكار الحقيقة، حقيقة الوضع الانتقالي الحالي والاثار الايجابية التي خلفتها تجربة الاصلاح الحالية، وجب الانتباه الى حقيقة راسخة وخليقة بالاعتبار: أنه حين تموت السياسة تحضر الفوضى في العلاقة بين المؤسسات ويسود منطق المقامرة والمغامرة التي يباشرها البعض من السلطويين الذين يحنون لمعاكسة الاصلاح من داخل المؤسسات ويشتغلون بروحية الاستبداد والتحكم، وحين تنحدر قيم الفعالية والبناء والايجابية والمشاركة في المجتمع -بفعل ما طرأ من ضغوطات وافساد للمجال العام- يتحول الناس الى مجموعات منغلقة ومتناحرة تحركهم نوازع الانتقام والكراهية من انفسهم ومن الآخرين المختلفين عنهم، وحين تسد ابواب الحوار الديمقراطي المفتوح ويتلاشى الامل ويهيمن منطق الاستهانة والاستعلاء ويختلط اللامشروع بالمشروع والعمل المؤسساتي بالمنطق المضاد للمؤسسات الدستورية، يفرز المجتمع السياسي اسوأ ما فيه، ويعبّر كل كائن سياسي-خصوصا المسكون بالخلفية التحكمية والهيمنية- عما بداخله من مطامح شمولية تريد مصادرة ارادة الناس والتحكم في حياتهم واختياراتهم بشكل يتناقض مع من يفرزون من نخب بطريقتهم الخاصة. إن أولئك السلطويين حين يتحكمون، ومن خلالهم يسيطر على ممارساتهم السياسية منهج الغلبة، أنذاك تجعل عموم الناس ييبادرون لانتزاع حقوقهم بأيديهم بدون وسائط ببساطة لأن عقد الثقة انفرط، تماما كما كان يحصل في العصور التي ضلت فيها المجتمعات عن الاهتداء بفكرة الدولة والقانون واخلاقيات العيش المشترك وقيم العدالة والحرية، تلك القيم التي تجعل الجميع يشعرون بالأمن والاستقرار والرضا والقناعة. لكننا في المرحلة القادمة -بالرغم من ذلك- سنكون مقبلين على تحولات سياسية كبيرة لها استحقاقاتها الديمقراطية والتنموية، سواء على صعيد الداخل وما يتعلق به من ازمات اقتصادية ومقررات اصلاحية مرة، أو من صراعات سياسية حول حسم قضية الاصلاح، أو سنواجه انقسامات في مناطق النفوذ التي تؤطر مسعى القوى التسلطية، أو سنكون ازاء تحديات خارجية تتطلب تمنيعا للصف الوطني الداخلي، وعلى صعيد الخارج بما تحفل به المنطقة والنظام الاقليمي العربي برمته.. وبالتحديد ما تعيشه قضيتنا الوطنية الاولى من تحديات كبرى ومن نذر تحولات سياسية حول مصيرنا المشترك، تحولات قائمة واخرى قادمة، ومن اشتباكات سياسية لها صلة بقوى النفوذ الدولي والاقليمي، ومن ترتيبات وخرائط جديدة يعاد رسمها، وبالتالي فان الفاتورة التي سندفعها-لا قدر الله- ستكون باهظة لو أخطأنا التقدير والطرق والمنهج، وهي كلها تحولات وتطورات تحتاج الى جبهة داخلية متماسكة ، جبهة مؤمنة بنجاعة أطروحتنا في الاصلاح من داخل الاستقرار.. واعتقد ان حالة مجتمعنا ليست كذلك الان، ما يعني أننا سنواجه لحظات صعبة يفترض ان نستبقها بعمل جبار وصريح وجهود جدية، تستهدف أول ما تستهدف تثبيت المعادلة السياسية القائمة نحو معادلة صحيحة وصلبة تقنع الناس بأن مرحلة جديدة قد بدأت حقاً. هل بدأت حقا .. لا ادري. بقي لدي رجاء واحد للمسؤولين في بلدي، وهو ان نتعلم من تجارب غيرنا ومن مآلاتهم، لكي نستدرك ما قد يفاجئنا من احداث بحلول مقنعة: رجاء دعونا ننقذ بلدنا من هذا المجهول، دعونا نخرج من منطق الاستعلاء والاستهانة في التعامل مع الناس وقضاياهم ونجرب منطق الفهم والاستجابة.. دعونا نفتح الابواب المشروعة امام الناس، ونخفف معاناتهم ونطمئنهم على مستقبلهم ونعيد اليهم الثقة بانفسهم وبلدهم ، لكي لا ندفعهم الى الدخول من ابواب غير مشروعة ومزدحمة بالالغام ايضا.. دعونا ننجح انتقالنا الديمقراطي ..ونحترم ارادة الناس وننعش آمالهم ولا نعبث بارادتهم...