الإصلاح جد لا هزل فيه، وهو مسار حتمي لا يتطلب الإرجاء ولا التأجيل، أو الإبطاء أو المناورات التي تداعب أخيلات كثير ممن يتصدرون واجهت الأحداث من بعض الكيانات السياسية والحزبية السلطوية الطبيعية، أو من الذين يتربصون بالمرحلة ويعبثون بمستحقاتها، إنها تلك القوى الفاعلة -في السر والعلن- التي استفادت وتربحت وراكمت المصالح والمطامع، وبنت النفوذ الريعي والوجاهي والتحكمي في مغرب الأمس واليوم.. قوى لا زالت تداور وتناور في هامش الأحداث السياسية، وتقامر بمستقبل الصيغة المغربية في الإصلاح والوفاق الوطني والحفاظ على الاستقرار المؤسساتي والتقدم التدريجي الحاسم لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة المواطنة الكاملة، والكرامة المستعادة غير المستباحة ولا المهدورة، مغرب السيادة والريادة والقيادة ... هي –إذن- قصة مسارين ومنطقين –لا يتعاكسان بالضرورة- بل قد يتخالفان في الرؤية والموعد: احدهما مسار الإصلاح الوقائي والتراكمي، والآخر مسار نفاد صبر بعض الفئات من الناس المؤجلة مطالبهم الفئوية. لم تكن موجة الربيع الديمقراطي–لحظة الوعي بهذا التمايز بين المسارين- قد انطلقت بعد ولا انداحت شرارتها، لكن إشاراتها وتحذيراتها كانت واضحة بما يكفي لكل مراقب أو متابع لما يجري في بلداننا كلها. في بعض البلدان وصل نفاد صبر الناس إلى محطته الأخيرة ورأينا ما حدث وما انتهت إليه بعض الدول من تفكك وتداعي وانهيار، وبعض الشعوب من كوارث كادت تدمر العمران والإنسان والبنيان، وفي بلدان أخرى ما زال هذا القطار يتحرك وما زالت سرعته تتصاعد، لكن الأمور لحسن الحظ ما تزال تحت السيطرة حتى الآن. ومع أننا نتمنى أن نستدرك وصوله وأن نستبقه من خلال دفع عجلات قطار التغيير العميق إلى مداه، إلا أن ما يخيف –حقا- هو أن البعض-سواء من قوى التحكم أو العدم- ما زال يراهن على إمكانية اللعب على القطارين معا وإيهام الناس أن بيده عصا سحرية تحرك قطار التغيير متى شاء وتضبط سرعة قطار نفاذ الصبر متى أراد. للتذكير فقط، واجب المرحلة، يحدونا لكي نتأمل فيما حدث حولنا وبما يحدث في داخلنا، على أمل أن نستدرك الخطأ، ونفهم المطلوب، ونتحرك بسرعة نحو سكة السلامة الوطنية على درب إنجاح الانتقال والمضي بعيدا في إنفاد مستحقات الانتقال الديمقراطي، ومغادرة منطق الريب والتردد. إن قصة الناس مع الإصلاح لا تختلف كثيرا عن قصة قطارين انطلقا من محطة واحدة : -احدهما انطلق سريعا ثم أخذ يبطئ شيئا فشيئا إلى أن توقف.. وحين اجتمعت ورشات العمل لإصلاح عطله، وانقسم خبراؤها في تحديد موقع الخلل، تم الاتفاق على تسليك المسألة وترقيع الخلل لحين تمكينه من السير مؤقتا.. وهكذا ظل يسير ويتوقف مترنحا.. ولكن ببطء وبإحساس عام بأنه يحتاج إلى غصلاح شامل ليستعيد عافيته.. -اما القطار الآخر فقد انطلق من المحطة ذاتها.. وتصاعدت سرعته شيئاً فشيئا، لكنه حين تعطل زميله أخذت عجلاته تدور على السكة بسرعة مذهلة حتى أصبح البعض يشك بأنه قد فقد السيطرة، وأنه على وشك الاصطدام بالمجهول. القطار البطيء يشبه تماما مسيرة الإصلاح ودعواته وتجربته التي عرفناها في السنوات الماضية، واجترحنا تجربتها الجارية مع بعض التردد في بعض الأوساط التي تحن لغلق القوس الديمقراطي والإصلاحي الذي انفتح ذات ربيع. والقطار الآخر يشبه نفاذ صبر الناس الذين عولوا على وصولهم إلى المحطة في الوقت المحدد، لكن خيبتهم في الوصول أفقدتهم القدرة على التحمل والصبر. والمثال الذي سقته سلفاً أحسست أنه ينطبق تماما على حالتنا.. فمنذ تجربة التناوب المجهض مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي منذ سنوات، انطلق قطار الإصلاح التدريجي في بلادنا، لكنه ما زال بطيئا ولم يصل إلى المحطة المطلوبة، وقد تحفز وتجدد مع رياح الربيع العربي وأساسا مع الصعود السياسي للعدالة والتنمية–معية ائتلاف عريض وآمال شعبية أوثق- وقيادته لحكومة التناوب الديمقراطي مع حكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران. فيما لا يزال قطار نفاذ الصبر لدى الناس يسير بسرعة ملفتة، لدرجة أن أحدنا لا يعرف إلى أين سينتهي به المطاف. وهذا - وبالطبع - يجعلنا أمام خيارين اثنين يمكن أن يصلحا للحل: -احدهما يتعلق بالقطار الأول من حيث إصلاحه وزيادة سرعته وتزويده بكل ما يوفر له القدرة على متابعة رحلته.. -والآخر يتعلق بالقطار السريع (قطار نفاذ الصبر) من حيث تخفيف سرعته أو العمل على إيقافه أو تطويق ما يمكن أن ينتج عن سرعته من أضرار وتداعيات مزعجة. لا ادري بالطبع إذا كانت الحكومة - على مدى السنوات العاصفة الماضية، التي دبرت فيها مقاليد السلطة رغم إرادات التعطيل والنسف والتجييش- لا أدري إن كانت مشغولة بأحد الخيارين السابقين. لكنني أعتقد يقينا أن كل الحكومات التي سبقتها، اختارت العمل على القطار الثاني، لمنع اندفاعه، والتقليل ما أمكن من سرعته، ظناً منها أن تراكمات الأعطال والمخاوف التي أصابت القطار الأول، ناهيك عن هواجس تكاليف إصلاحه وزيادة سرعته، أصبحت فوق قدرتها وبالتالي فإنها اضطرت إلى التعامل مع نفاذ الصبر من خلال معالجات سياسية واجتماعية واقتصادية.. غالبا ما انتهت إلى الجدار المسدود.. أو في أفضل الحالات إلى إعطاء انطباع بأن سرعة القطار قد خفت فيما الحقيقة غير ذلك. إذا سؤلت : ما العمل ..؟ سأجيب بأنه يفترض أن يتم في إطارين : - احدهما تحت عنوان إعادة الأمل، - والآخر تحت عنوان رفع الهمة والعزم ... لا أريد أن أخوض في التفاصيل.. لكن لا بد أن نعترف أن إيصال الناس إلى اليأس سيدمر كل شيء، كما أن الاعتماد على الانتظار الطويل مع نفاذ الصبر قد يفضي إلى أزمات لا تنفع معها الحلول.. ولذلك فإن الحكومة الحالية-بالاطلاع عن قرب من منهجية تدبيرها وأولويات ذلك-هي جادة، ولابد لها أن ترفع همة الناس من خلال إصلاح قطار الإصلاح، ولا بد أيضا أن تحيي فيهم الأمل من خلال تقليل مخاوفهم من سرعة القطار الثاني.. بمعنى المزاوجة بين الخيارين: تسريع وتيرة الإصلاح بشكل جدي، وتخفيف شعور الناس بالضيق ونفاذ الصبر وغيرهما من المشكلات التي دخلت من بوابة تصاعد حدة الإحساس بالخيبة والخوف من القادم. منذ أربعة أعوام طويلة على الأقل، وما زال السؤال لم يتغير جذريا: كيف ندفع عجلات الإصلاح والتغيير؟ والمؤسف أنه بالرغم مما حدث حولنا من كوارث ومصائب ما زال السؤال يتكرر، والمناورات تتجدد وأصحابها الذين انتفض في وجههم الحراك الشعبي ذات انتفاضة، لا زالوا يبرزون ويستفزون الشعور العام والوعي العام والرأي العام بمناوراتهم... ترى ماذا ننتظر كقيادة سياسية وكشعب وكنخبة لبلد ناهض يبادر لمغادرة وضع التخلف والتراجع والانحطاط ؟ هل نحتاج إلى أعوام أخرى لكي نلتقط الإجابة الصحيحة؟ أم أننا سنترك لقطار نفاذ الصبر فرصة الوصول إلى محطته الأخيرة، ولحظتها سيكون الإنفجار الاجتماعي الحابل بمطالب لا تجد وسائط مدنية لرفعها والتعبير عنها وتليينها؟ أرجو ألاّ يحدث ذلك... لأننا عندها لا نعرف كيف سنواجه أقدارنا ولا كيف سنخرج سالمين. المطلوب هو الانتباه إلى مهمة المهام وهي إنجاح مستحقات الانتقال الديمقراطي قبل فوات الأوان...