ليس لعبد الرحمان بديل للتعايش مع المعاناة، وكبرياؤه لا يحتاج دروسا من أحد.. فهو طاعن في البطالة ومبتدئ في التحدي.. يريد أن يبكي مثل ما تبكي الطفلة لفقدان دميتها.. في هذا الظرف بالذات يقف أمام خيارين صعبين، إما الهرب من هذا الحال بلا رجعة أو الانتحار لانهاء هذا الانتظار كاحتجاج سياسي على أن الاغتيال سببه أنتم ، بسبب سياستكم الخرقاء. معركته للبحث عن الوظيفة أخذ منها اليأس مأخذه، فما كان مهيأ لمعركة الكبرياء ولا لهزيمة الخبز. فقد اعتقد أن شهادة الماستر استحقاق يؤهله للعمل.. وأنه كسب هاجس الرزق بكرطونة من وزارة التعليم العالي.. هو لا يفهم تمرد الحياة عليه، ولا يجد مبررا لعدم تقدير شهادته التي أفنى عمره للحصول عليها.. يشعر أن الدولة سرقت منه الأوقات وتلاعبت بمصيره الذي لم يحسن فيه الاختيار. يأسه وانتظاريته القاتلة جعلته يفكر في أشياء لا يقبلها العقل السليم، وها هو فكره ينضح التمرد بسخاء.. ما عاد يتقبل الاستسلام لذئب ملتح يتحكم في مصير حاضره ويحدد مستقبله، فقط لكونه رئيس حكومة.. بل زاد من اشمئزازه تلك الخطابات عن سياسات التقشف التي يحث المواطنين عليها، في حين هو يتمرغ ووزراؤه في بحبوحة الملذات على حساب دافعي الضرائب. يتذكر عبد الرحمان الحكمة التي تقول: الناس لا يتحدثون عن الأشياء كما هي، بل كما يريدونها.. ثمة فرق بين ما نريده وبين ما نقوم به. مما يعطي انطباعا على أن الإغراق في مبدأ الازدواجية دليل قاطع على الخبث والحربائية. حيث يشعر أصحاب النباهة بالرعونة في المنطق والاستخفاف بالعقول.. فكيف يقبل الناس خطابات تلزمهم بأشياء ويفعل صاحبها عكس القول من غير مراعاة. صار غاضباً من كل شيء، حانقاً لأتفه الأسباب، قلقاً في جميع الأحوال، مهموماً طيلة الأوقات، مستهينا بالعواقب والنتائج، مستهتراً بمن حوله.. قنبلة غير موقوتة تسير على قدميها. صنعوا منه متمردا على قوانين الوطن من غير أن يكون مارداً للوطن. لعل ما يصنعه اليأس بأصحابه يفوق التوقعات.. فلا شك أن من يزرع البؤس سيحصد اليائسين من غير هوية. قرر عبد الرحمان ألا يظل مكتوف الأيدي، ويحرك ساكناً حتى لو كلفه حريته أو حياته.. على أن يظل متفرجاً على شريط حياته البئيس، يشاهد فصوله الروتينية تمر تحت عينيه ويتفلت الوقت من يديه. ليس لديه ما يخسره لكي يتحسر عليه، ولا شيء قد يندم عليه أكثر من حاله.. فرأس ماله اليأس. ربما يدخل بيأسه في مغامرة تعود عليه بالربح، أو في أسوأ الأحوال يجمع رصيداً على رصيد يأسه السمين. فسن عنوسته لم يحن بعد أم تراه يدخل سن اليأس داخل وطن ومجتمع اكتملت معالم الشيخوخة في أوصالهما، ولم يعد ينجب ما يحيا الإنسان لأجله. فهو الآن يفهم سن اليأس الذي تفقد فيه النسوة قدرتهن على الإنجاب، ويحسدهن في الآن نفسه على المضي في الحياة، فهن يملكن القدرة على إنجاب الحنان والعطف.. ويتشاركن ذلك الإحساس الفطري بكل عفوية مع الآخرين. اليأس من الحياة موت بالعرض البطيء .. كأنما احتضار مفلس واستسلام خاسر. يأتي الموت وقد فقدت الروح روحها وماتت لوعة الحياة فيها. فموت يائس غير موت مستبشر. فهل يستوي لقاء الموت بابتسامة أمل مع الموت بوجه عبوس قانط ؟!. ماذا لو أعلنا حالة طوارئ ضد فيروس "اليأس" ورفعنا درجة الوقاية لوقف انتشاره، واستجمعت الجهود استعداداً لمواجهته على أنه كارثة نفسية خطيرة من نوع الأعاصير أو الحرائق. مثل حريق يأتي على الأخضر واليابس ويخلف الدمار والرماد ويترك النيران تلتهم الأمل. عندما تتقن فن اليأس، أنت حتما تهب نفسك للاشيء، وتعد حياتك للتطرف، وتبدأ بالإعداد لصناعة الفناء. تصبح آلة دمار مع توالي الضربات، ثم تبحث عن تحقيق الانتصارات حتى لو كانت من أرض الفشل.. تفقد بوصلة الصواب والخطأ، وتختلط عليك مفاهيم السليم والصحيح. خلال سفرياته ما بين الرباط ووجدة تعرف على شاب حليق الوجه، يقطن بمدينة فاس، تبدو عليه علامات الفطنة.. تجاذب معه عبد الرحمان أطراف الحديث في مواضيع مختلفة: عن واقع المسلمين وظلم الحكام وحرب الأمريكان واليهود على بلاد شتى من أمصار البلدان العربية. وقد تبادلا مع بعضهما كيفية ربط الاتصال. وحاول الشاب أن يقنعه بفكرة بدت له غريبة لا تستحق إشغال التفكير فيها أو بالأحرى الإقدام عليها.. مضى قدما في نضالاته بحثاً عن إثبات الوجود، بل عن إثبات الاستمرارية في الوجود. فالحياة في بدايتها تغري بالاستمتاع، لكن في النهاية تضيق بالبؤس وقد تختم بمأساة. فتح باب التوظيف يوم عيد بالنسبة لعبد الرحمان، وعيد لكل معطل في حالة يأس. إن المنتظرين منهم سينعمون بفرحتين، فرحة لقاء الوظيفة وفرحة القطيعة مع اليأس. والذين يأسوا من بعد فرحتهم قد يصفحون ويسامحون ويبتهجون بعدما قنطوا من ظلم الظالمين. أصبحت قضية المعطلين قضية عبد الرحمان، يستفيق لأجلها وينام مستغرقا التفكير في حلها.. فهي مأساة وطنية تحرج الأحزاب والسياسيين، ثم تعري السياسة الحكومية عن فك طلاسمها. لكنها دولة اليأس بامتياز، تستحق براءة اختراع في كل ما تفعله بشعبها.. خسر عبد الرحمان أشياء كثيرة، مثل حبه العفيف، في منازلة غير متكافأة مع الواقع. كما خسر الأمل لمواصلة التحدي مع بقية أحلامه المتواضعة، التي غدت كوابيس حقيقية ورعباً مثيراً يجثو على أنفاسه.. خسر سنين حياته التي قضاها في التمدرس.. خسر معركته فيما تبقى من إنسانيته مع الحياة.. خسر نفسه الطيبة في مواجهة نفسه. أصابته لوثة المكر وانقضت على سجيته. خسر كل شيء حتى غدا رجلا لم يعد لديه ما يخسر، ولم يعد مقبولا لديه أن يتسلى به الوطنيون بذريعة إنقاذ الوطن ثم يعودون لمصالحته في مناسبات أعياد البلاد باسم الوطنية.. أي وطن هذا الذي يضمر الخداع لأبنائه ويحرق المنتسبين إليه ويقتل الأحلام التي كان ينبغي أن تحقق لازدهاره، هل صار الوطن مجرما ؟ يقتل كل طاقاته الشبابية ويعدم كل جميل في نفوس فتية.. فأجمل ما في الحياة أن تبحث عن أشياء تمتعك في هذا الوطن غير أشياء تمنعك إياها، وأشياء نعثر عليها بدل أن نتعثر بها. في هذا الوطن الذي ولد فيه، الطاقات الشبابية تعني التمرد مع التخلف، أي العيش بعبثية ماجنة والهروب من النجاح إلى الفشل. يقضي المواطن سنواته بحثاً عن تجربة ناجحة، وتقضي الدولة منذ تقييده بكناش الحالة المدنية على نجاح عملية إفشاله. فهي الوحيدة المخول لها بالنجاح. بدأ يفكر في الهروب نحو المجهول، هروب الشارد المضطر من مكان إلى مكان بدل الانتظار القاتل. وهكذا عزم على السفر نحو مكان هو لا يعرف تفاصيله.. كيف ؟ ومتى ؟ هو نفسه يجهل ذلك. في الأخير اتصل بصديق القطار حليق اللحية مقتنعا بفكرته،كي يسافر إلى تركيا ثم الالتحاق بصفوف التنظيم داعش. [email protected]