للأسف رد عزيز العظمة على مقال رضوان السيد كان حقيقا به أن يكتب في إحدى الصحف الصفراء أو أن يذاع كخطاب في قنوات الردح و التشبيح التي أصبح يزخر بها عالمنا العربي في هذه الأيام السوداء القاتمة ...فبعد بحثه المضني في الجذور الفكرية للسيد لم يجد العظمة كما قال في قاموس الاتهامات الإيديولوجية سوى مصطلح الاخونة - لكي يلتحق التحاقا مجرورا بالباعة المتجولين للقيم والأفكار في المشهد الإعلامي العربي ...لكي يبيع للقراء سلعته البائرة ( العقلانية كما يدعي ) في أسواق الإسفاف العربي بكثير من البخس وهي اتهام الخصوم بالاخونة و بأتباع القرضاوي . ودبج المقال بكلمات لا يجدر أن تصدر من شخص عادي في مشاحنة سوقية فما بالك بمقالة كان يفترض فيها أن تكون مثقلة بالرصانة العلمية والمعرفية و أن تدفع النقاش نحو الأمام من اجل تصحيح المفاهيم و وإزالة الشبهات والإبهام حول مالأت عدد من المشاريع الفكرية التي ملئت الدنيا ضجيجا بالعقلانية والعقل والحداثة وسقطت او سقط تلاميذها في النهاية بمهاوى الحضيض الفكري والإيديولوجي و التحالف مع الأنظمة الرجعية والتوتاليتارية
لقد أصاب رضوان السيد في حديثه عن الحملتين الشعوائين المشنونتين منذ زمن على الإسلام وعلى العروبة من أقصى الشرق إلى أقصى المغرب باسم العقلانية والحداثة وهو أمر لا يستطيع أن ينكره اليوم حتى الأعمى ومن به صمم والتي زاد من وقودها الظهور و البروز الصاخب للحركات الإسلامية في المشهدين السياسي والاجتماعي العربي ومشاريعها الإصلاحية وإنتاجها للنخب الفكرية الجديدة من جهة أولى ومصر وسوريا نموذجين حيين مباشرين لمن أراد الاستشهاد بالنماذج العملية فهي تغني عن الباقي المصنف في الخانة النظرية .
أما من جهة ثانية فعملية القلب للقبعة التي قام بها اليساريون والقومجيون القدامى بعد تهاوي الحصون الإيديولوجية القديمة إلى حداثين وعقلانيين وتنويريين واستنجادهم بالطائفية و العرقية والعلمانية لتمرير خطاباتهم المعادية للإسلام و العروبة .
المثال البسيط هنا في المغرب مثلا التيار الامازيغي والذي يضج بقدماء الماركسيين واليساريين جعل خطابه يدور حول العداء للإسلام في المقام الأول حتى وان استعمل كمبررات أخطاء العمل الحركي الإسلامي أو فتاوى المغمورين من فقهاء الموائد . ثم العداء للعروبة ووصفها بأنها منبت كل شرور الأرض و الاستنجاد بمهملات التاريخ لتبرير خطابه الشوفيني المقيت وأخيرا تبرير فاضح صفيق للمذابح التي ترتكبها الأنظمة الإجرامية في سوريا ومصر وتسليط الضوء فقط على تطرف و أعمال الطرف الأخر الذي لا يزن مثقال حبة من خردل في ميزان الإجرام الدموي الهمجي الذي يرتكب باسم محاربة التطرف والإرهاب وأوله الإجرام الأمريكي والإجرام الروسي والتواطؤ الغربي البئيس مع الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي بدعوى مواجهة الإرهاب و الإسلام السياسي
العقلانيون والعلمانيون في العالم العربي – وهم في الحقيقة لا عقلانيين ولا علمانيين - لا يحركهم هم رفعة ومجد الأمة وتقدمها فهذا أخر ما يفكرون فيه ولو كانوا كذلك لعملوا بكل جهد في مجال العلوم الحقة والتكنولوجيات وبدل استخدام التمويلات التي يتلقونها من الشرق والغرب في مهاجمة التدين الإسلامي وتشويه حقائق التاريخ والهجوم الشنيع على الإسلام وعلى القران والحديث والدعوة إلى الإباحية باسم التحرر والحداثة لكانوا وظفوها فيما ينفع الخلق وتنمية الأوطان . ولو كانوا عقلانيين حقيقة كما يدعون لكان يجدر بهم أن يستخدموا تلك التمويلات الجزيلة في دعم البحث الأكاديمي في العلوم والتكنولوجيات وحل إشكالات التنمية في العالم العربي بدل القراءات الهلامية للنصوص الدينية التي لم تفضي إلى يومنا هذا إلى شيء
إن ما يحركهم في الحقيقة هواجس نفسية صميمة مرتبطة بالانبهار بالغرب والانبهار بقيمه نتيجة لطبيعة التكوين الترقيعي الذي تلقوه في المدارس النظامية العربية المصابة بالانفصام أو نتيجة للتأثر بالمناهج الغربية في الجامعات الأجنبية التي درسوا فيها كنتيجة طبيعة للتلقين الأكاديمي الغربي ورؤيته المؤدلجة للثقافة الإسلامية وثانيا لان العملية مربحة ماديا و تدر دخولا مغرية وشهرة كبيرة إذ كلما جد الباحث ( العقلاني أو التنويري أو الحداثي ) كما يحلو له تصنيف نفسه – في مهاجمة القيم الإسلامية كلما علت أسهمه في بورصة التمويل و الجوائز الأكاديمية الغربية و لن تعوزنا النماذج والأسماء لكي نبرهن عن هذا الأمر حيث كلما اشتد الخطاب ضد التدين والإسلام والنصوص الدينية كلما تقاطر عليه الثناء والمديح على المفكر التنويري المفترض من الدوائر الأكاديمية الغربية .
إلا أن المفاجأة الكبرى والمضحكة والمغرقة في الإضحاك الأسود أن كثير من تلك التمويلات تقدمها اليوم أنظمة رجعية غارقة في وحل الاستبداد يدعي بعضها انه نظام يطبق الشريعة و الإسلام المحافظ و أخرى مثلها يقدمها نظام ولاية الفقيه في إيران .
النقاش الذي أطلقه رضوان السيد ليس سوى قطرة حرك بها المياه الراكدة في بحر مظلم من التعتيم الفكري وتسفيه ماضي الأمة ومحاولة فصلها عن هويتها وجذورها...نجد أنفسنا نحن الجيل الجديد من الباحثين في العالم العربي والإسلامي ممن يرغب في الإبحار في أعماقه مشدودين بحبال مفتولة إلى رصيفه الذي تم ترسيمه منذ ستين سنة خلت حفلت بالخطابات التحريرية الهلامية وأحلام بناء الدولة الوطنية التي انهارت فجأة وكشفت زيف النخب السياسية والثقافية ...صوت السيد كان يجب ان يخرج من قمقمه قبل زمن طويل خاصة بعد اندلاع شرارة الربيع العربي لا أن ينتظر إلى أن صارت الحال إلى ما هي عليه اليوم من بؤس وسقوط مريع للنخب العربية لكي يصرح بما في نفسه .
كتابات محمد اركون على وجه الخصوص التي يحب مريدوه و تلاميذه ان يجعلوا منها إنجيل الحداثة في العالم العربي ليست في حقيقة الأمر سوى مونولوج غربي استطاع أركون أن يؤديه ببراعة كبيرة في المشهد الثقافي العربي حتى ظننا انه هو الأصل وليس التقليد الذي بدأه المستشرقون وإبائه الأكاديميون الفرنسيون في تعاطيهم مع الفكر الإسلامي والنصوص الدينية الإسلامية . نحن بحاجة إلى فكر عقلاني أصيل لا يمتح من مواقف مسبقة ضد الدين والإسلام ولا أهداف سياسية او إيديولوجية ومخططات معينة في سبيل إعادة تشكيل المجتمعات العربية والإسلامية وبناها المعرفية والعقدية خدمة للغرب و لثقافته ومركزيته ومن اجل جعلنا امة تابعة للغرب مسلوبة الهوية مسلوبة الإرادة مسلوبة الثقافة مسلوبة الإبداع نحن بحاجة إلى فكر عقلاني نابع من هويتنا يروم عظمة امتنا ومجدها واستقلالها الفكري والسياسي والاقتصادي و وان يؤسس لمجدنا المستقبلي بكثير من العمق والتجذر المعرفي والعلمي لا ان نستورد مناهج الآخرين وأساليبهم وطرق تفكيرهم كما تستورد الأسواق في زماننا منتوجات الصين .