بعد موجة ربيع الاحتجاجات التي شملت عدة أقطار بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دخلت المنطقة في إشكاليات سياسية كبيرة، فبعدما كان شغل مجتمعات هذه الأقطار هو السعي نحو القطيعة مع الاستبداد السياسي الذي عمر عقودا من الزمن طرحت إشكالات أعمق من تلك التي شغلت الرأي العام والساحة السياسية زمن سيادة الاستبداد. وتتجلى تحديدا في كيفية تدبير السلطة والعلاقة بين الفرقاء السياسيين من جهة ومع مؤسسة الجيش من جهة أخرى، فماهي علاقة الجيش بالسلطة عموما ثم كيف استمرت هذه العلاقة بعد صعود الإسلاميين الى الحكم بعد الربيع؟ في تونس مثلا كان الجيش أقرب الى تصور الشعب ويعود ذلك الى كون عقيدة الجيش التونسي لم تبنى على ولاءات تامة للنظام السياسي فزين العابدين بن علي الذي يعد الرئيس الثاني لجمهورية تونس لم يكن مخترقا للجيش التونسي رغم كونه رجلا نشأ نشأة عسكرية إلا أن الجيش التونسي تربى في ولاء لبورقيبة من قبله وتماهى مع صعوده الى السلطة خلال الانقلاب الطبي سنة1987 كما أن عدم استقرار بن علي في مناصب محددة زمن بورقيبة وفي المناصب التي تقلدها عموما. جعل الرجل لا تربطه علاقة وطيدة بمؤسسة الجيش وكنا أمام حالة احترام الجيش لسلطة الرئيس بمنطق ابتعاد الجيش عن الحياة السياسية مع التسليم بوجود جنرالات موالين بشكل تام لبن علي زمن حكمه، لكن مع ذلك ضلت العلاقة محدودة لا ترقى الى مستوى التحكم في دواليب المؤسسة العسكرية كما أن مؤسسة الجيش لم تخضع للمعايير التي نشأت عليها في دول أخرى فبعض قادة الجيش التونسي اشتغل في الجيش بالمنطق البورقيبي والبعض الأخر اشتغل بمنطق نظام بن علي مما جعل مؤسسة الجيش لا تتميز بولاء معين لشخصية ما وبقيت منفتحة على كل النماذج الصاعدة للسلطة، لذلك نجد مؤسسة الجيش ضلت شبه محايدة خلال ثورة الياسمين التي عرفتها تونس خلال سنة 2011 ولم يكن للجيش دور مباشر في التأثير على مسألة انتقال السلطة وضلت الانتخابات والصناديق هي المحدد في اختيار المستقبل التونسي. هذا عكس ما نجده في نماذج أخرى مثل ماهو الحال في النظام السياسي بمصر فمبارك رجل حمل الزي العسكري منذ فترة طويلة فمنذ سنة1950 عين بالقوات الجوية في العريش وتدرج في رتب عسكرية كبيرة ومختلفة لدرجة نجد الرجل اخترق صفوف مختلف القوات العسكرية المصرية وعرفت عسكريته أيضا خلال لحظات حساسة مثل حرب 1973 واستمرت الى أن تم اغتيال أنور السادات خلال 1981 حيث سيلج الرجل ميدان السلطة المدنية وسيكون الرجل رئيسا لجمهورية مصر، وبهذا المنطق ستكون السلطة في مصر زمن مبارك عسكرية في زي مدني لكن طابع الدولة المصرية نظرا لحجم مصر كدولة عربية الأولى من حيث تعداد السكان يصعب أن تكون مؤسسة الجيش تحت سيادة تامة للقائد الأعلى أو رئيس الجمهورية ولذلك كانت مصر دوما بين إرادتين: إرادة الجيش وإرادة الشعب فالأخير الذي ثار على سلطة مبارك لم يكن يقصد الصراع مع الجيش بقدر ما كان يسعى الى وقف فساد المؤسسة في تواطئها مع السلطة المدنية وإسقاط الأخيرة خلال ثورة25 يناير2011 لكن ضعف الإخوان في تدبير مرحلة ما بعد ثورة25 يناير بالإضافة الى مواقفهم غير الإستراتيجية على مستوى العلاقات الدولية أدى بهم الى صراع متعدد المواجهة الأمر الذي عجل بإنهاء حكم مرسي خلال "ثورة 30 يونيو" وفي هذا الصدد لم يعد المواطن المصري أو فئة عريضة منه راضية على ما يجري مما جعل الهاجس الأمني يفرض عليه الميل لمؤسسة العسكر كما أن وجود مجتمع مركب من مسلمين ومسيحيين زاد من تكريس سلطة العسكر. زيادة على ذلك يمكن تسجيل أن إسلاميو مصر وضعف خبرتهم في مجال السلطة لم يكن أمرا ايجابيا لهم في تحديد العلاقة المطلوبة مع مؤسسة الجيش خصوصا أن المؤسسة العسكرية لم تتعود على التهميش في مجموعة من القضايا الإستراتيجية المتعلقة بالبلد وهذا على عكس نماذج أخرى للإسلام السياسي الذي نجح في اختراق مؤسسة الجيش وامتلاك الإرادة الشعبية لصالحه بشكل قانوني وديمقراطي نسبيا. في مقابل نموذجي تونس ومصر نقف عند نموذج أخر يتعلق الأمر بالنموذج التركي فمؤسسة الجيش في تركيا تبدو عريقة بالمقارنة مع الدول المذكورة خلال العصر الحديث فامتدادات الجيش التركي تعود الى الحقبة العثمانية لكن التحول الذي شهدته تركيا خلال مرحلة كمال أتاتورك بعد سقوط الحكم الإسلامي جعل مؤسسة العسكر تعيش نوعا من الحياد عن الحياة العامة لكن خلال حقبة أتاتورك نجد مؤسسة الجيش سيرت بمنطق علماني وضلت وفية لهذا الخيار حتى بعد يقظة التيار الإسلامي ولهذا نتذكر العلاقة التي جرت مع نجم الدين أربكان خلال نهاية التسعينات من القرن العشرين التي تبدو شبيهة بالوضع المصري الراهن، لكن تماهي الإسلاميين في تركيا مع العسكر واختراقهم لمؤسسة الجيش ومراعاة مصالح هذه المؤسسة جعلهم في مأمن عن أي انقلاب ينهي تواجدهم في السلطة. وحتى الذين تمردوا عن حزب العدالة والتنمية استطاع الأخير التخلص منهم بطرق ديمقراطية وتهميشهم داخل مؤسسة الجيش.
إن الحديث عن العلاقة بين الإسلاميين والعسكر وخصوصا في بلاد الربيع سيتطلب وقتا من الصراع لبناء نوع من الوئام السياسي بينهم من خلال تقاسم المصالح والسلطة. هذا إذا علمنا أن جزءا من العلاقة بينهم لا تتحدد بما هو ديمقراطي وقانوني بل لا بد أن ترقى هذه العلاقة الى مستوى مراعاة مصالح الشعب والوطن. وفي هذا الصدد يؤاخذ على الإسلاميين ضعفهم في التدرج على مستوى إقناع مؤسسة الجيش في ما يرغبون إليه من تغيير وفق منطقهم للسلطة. أما إذا كان هدفهم يقف عند غاية السلطة فلا مكان لهم فيها من اليوم. لأن شرعيتهم تستمر بمدى وفائهم للمشروع الإسلامي وليس من الوصول الى السلطة.