ميدان التحرير والحرية، أم ميدان لاستغفال طموح المصريين؟ هلل الكثير من الناس في منطقتنا وفي العالم وصفق لحراك الشعب المصري، وأطلقوا عليه أوصافا متعددة، واعتبروه، إلى جانب حراك الشعب التونسي الماهد، نموذجا تقتدي به الشعوب الأخرى في المنطقة لمصارعة الاستعباد من أجل الانتصار على الاستبداد الشرقي، الذي طال أمده في هذه الرقعة من العالم، حتى راح البعض يعتقد بأن الاستبداد السائد في العالم العربي قضاء وقدر، لا مناص منه لا في الحال ولا في المآل. تميزت حركية ميدان التحرير والميادين الأخرى في معظم مدن مصر بالجمع بين الشعارات الثورية المنادية بتغيير النظام الاستبدادي، وبين الإبداع الفني وأدب النكتة والسخرية المعبر عن الروح الثقافية المصرية المرحة بصفتها نوعا من أنواع مقاومة خطط الاستعباد الفرعوني المتوارث حتى قيل إن مصر لمن غلب. عن حياد الجيش المصري المزعوم ومن المؤشرات التي جعلت المصريين يعتقدون بأن فجر ليل الاستبداد في مصر قد ظهرت تباشيره بسبب ما روج عن "حياد الجيش المصري المزعوم" في معركة إسقاط حسني مبارك وولي عهده جمال مبارك، بل أن بعض المحللين استبشروا اعتزام عودة الجيش إلى مهامه الأصلية في الدفاع عن الوطن أمام الأخطار الخارجية، وليس القيام بالانقلابات العسكرية، وتولي القيادة السياسية للدولة بدلا عن السياسيين المدنيين، تحت مسميات ومبررات كشف التاريخ والواقع المعيش عن زيفها، بل وخطورتها على قيم الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. عن التجربة التركية حاول المتفائلون باستعادة كل طرف في الدولة والسلطة مهامه الحقيقية تعزيز تفاؤلهم ببزوغ فجر السياسة المدنية في الشرق الأوسط الناطق بالعربية من خلال التحولات الحاصلة في المنطقة. ويتعلق الأمر بصفة خاصة بمرجعية انتصار حزب العدالة والتنمية في تركيا على كبح جماح الجيش التركي الذي كان نموذجا للقبضة الحديدية على الدولة منذ عصر الانكشارية؛ هذه القبضة التي رسخها مصطفى كمال أتاتورك بترسيم الجيش كوصي على الجمهورية التركية اللائكية منذ قيامها في عشرينيات القرن الماضي، وقلده في ذلك الانقلابيون العرب وبخاصة انقلاب يوليو 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصر وانقلاب حزبي البعث السوري والعراقي. والواقع أن تأثير حزب العدالة والتنمية التركي لم يتوقف عند استعادة السياسي لموقعه في الدولة فقط، بل استطاع أن يحرر مؤسسة السلطة القضائية من قبضة العسكر كذلك؛ تلك السلطة التي كانت في خدمة الجيش التركي بتأبيد هيمنته ووصايته على كل مؤسسات الدولة التركية، ويعيد للمواطن التركي ممارسة حقوق المواطنة. وذلك بفضل المشروع المجتمعي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتناغمة مع الهوية الإسلامية للمجتمع التركي، ومع اختيار الحداثة السياسية في ممارسة اللعبة السياسية، ومن ثمة التحولات الكبرى التي استطاع حزب العدالة والتنمية إن يحدثها في كل مناحي الحياة التركية، وكذا التغييرات التي لمست في العمق سيكولوجية الإنسان التركي، بتحريره من عقدة الدولة القابعة في أسفل درجات السلم الأوروبي يتسول نظرة عطف ومنة من الاتحاد الأوروبي. الغاية من إسقاط مبارك مما لا شك فيه، أن المصريين وكل المنتسبين إلى دول الجامعة العربية كانوا يستحضرون التجربة التركية ويستلهمون منها صياغة مستقبلهم السياسي، وأن كثيرين من المتتبعين لما كان يجري في ميدان التحرير بمصر كانوا يعتقدون أن المصريين قادرون على تأسيس جمهوريتهم الثانية بعد تنحي مبارك عن الرئاسة "بضغط من الشارع العام". غير أن مجريات الأحداث في مصر، منذ إزاحة مبارك عن الحكم، في 11 فبراير 2011 أظهرت على أن ذلك الأمل لم يكن سوي فجر كاذب. فالشارع استُعمل من قبل جهات داخلية وخارجية لمعاقبة مبارك على عزمه نقل السلطة من دائرة الجيش إلى ابنه جمال، وهو ليس عسكريا، على عكس ما فعله حافظ الأسد في سوريا مع ابنه بشار حين ألحقه ضابطا بالعسكر، قبل أن يرقيه حزب البعث في رمشة عين يوم وفاة والده إلى درجة فريق ليخلفه في رئاسة الجمهورية. إن خطة مبارك القائمة على توريث الرئاسة لابنه جمال، وهو غير عسكري، قاد الجيش المصري إلى الظهور بمظهر المؤيد لمطالب المصريين بإسقاط النظام. فقد قام الجيش بإيهام المصريين بأنه يؤيد مطالبهم من خلال الضغط على تنحية مبارك. وقد انخرطت أمريكا وحلفاؤها الغربيون والإسرائيليون في العملية، تحت شعار "تحقيق الديمقراطية". مرجعية النموذج الجزائري في الانقلاب على الديمقراطية أُبعِد مبارك وابنه جمال وبعض المسؤولين الأمنيين والسياسيين الذين كانوا يمثلون عصا النظام الغليظة في قمع الشعب وتعبيد الطريق أمام تولي جمال مبارك الرئاسة بعد والده، ولم يسقط النظام الذي يعد الجيش ركنه المكين وعموده الفقري منذ انقلاب 1952. فقد قيل إن الجيش هو المؤسسة الممثلة لكل أبناء الشعب المصري انحاز إلى صف الثورة على مبارك. وهذه حقيقة كما أشرنا، لكنه أبقى على النظام بذريعة الحفاظ على الدولة؛ إنه نفس منطق الجيش التركي الذي طالما قاوم حراك الشارع في تركيا للمطالبة بالدولة المدنية والديمقراطية، طيلة سبعة عقود من الزمن، ونفس منطق الجيش الجزائري في 1992 الذي أقال الرئيس الشاذلي بن جديد وأوقف المسار الانتخابي الديمقراطي الذي كان يحمل جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى الحكم، بدعوى أن الإسلاميين سينقلبون على الدولة الحديثة بالعودة إلى دولة الخلافة الإسلامية المعادية للقيم السياسية للعصر ومن ضمنها الحريات العامة وحقوق الإنسان. واليوم، وبعد قرابة سنة ونصف السنة من تنحية مبارك وابنه والزج بهما، ومن معهما، في السجن المريح، وبعد الوعود المقدمة من المؤسسة العسكرية المصرية بالامتثال لقواعد اللعبة الديمقراطية قصد تحقيق أهداف ثورة ميدان التحرير، حسب تلك الوعود، عملت هذه المؤسسة المتمثلة في المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية التي استردت الحكم من مبارك، الذي خانها بتوريث الحكم لإبنه غير العسكري، على ترسيخ دور العسكر في الدولة على طريقة مؤسسة العسكر في الجزائر. يعلم الجميع الآن أن الجيش المصري أصبح الكل في الكل، فهو الذي يلغي الدستور، وهو الذي يصدر ما يروق له من إعلانات دستورية، ويحل مجلس الشعب المنتخب وفقا للقانون الذي وضعه المجلس العسكري نفسه، بدعوى عدم مطابقة قانون الانتخاب للإعلان الدستوري، وقد يأتي وقت للطعن في انتخاب أي رئيس للجمهورية وإقالته على طريقة الجيش الجزائري مع رؤساء الجزائر إذا لم يستجب للأوامر. ولا غرابة أن يماثل الجيش المصري نظيره الجزائري في امتلاك الدولة، وستنعكس الآية، فلا تكون الدولة هي التي تمتلك جيشا، وإنما الجيش هو الذي يمتلك دولة. التمساح والضحية لا نشك بأن أمريكا وحلفاءها سيصدرون بيانات وتصريحات يتأسفون فيها عن عدم احترام المجلس العسكري لاختيار الشعب ولقواعد الديمقراطية بصفة عامة، وقد فعلوا مثل ذلك من قبل مع الجيش الجزائري. في الوقت الذي كان الغرب يقدم فيه كل الدعم المخابراتي واللوجستيكي لذلك الجيش، تحت ذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي. وبعد مقتل أكثر من 200000 شخص وضعف ذلك من المصابين بإصابات مختلفة واليتامى والأرامل، يتباهى اليوم كل من الدوائر الجزائرية والأمريكية والغربية بصفة عامة بالتعاون المثمر بينهما، واعتبار التجربة الجزائرية في محاربة الإسلاميين الذين كانو قد فازوا بالانتخابات التشريعية تجربة نموذجية رائدة في محاربة الإرهاب الإسلامي. وها نحن نتابع اليوم ونلاحظ ما يجري في مصر ولا نجد فرقا كبيرا بينه وبين النموذج الجزائري إلا في الإخراج. وهناك خشية حقيقية أن يتجدد الصدام بين الجيش والإسلاميين هناك بذريعة تهديد تقويض أسس الدولة كما كان الشأن في الجزائر. ولا يزال التمساح الغربي يبكي لأنه يخشى ألا يشبع من دم ضحاياه. عواقب غياب خطاب التوافق وما يمكن أن يسبب في قيام مواجهة دموية عنيفة بين التيارات السياسية الإسلامية وبين قوات الجيش والأمن في مصر إصرار الفرقاء السياسيين على اعتبار المختلفين في الرأي أعداء وليسوا مجرد معارضين. ومن ثم يتم تغييب، لغة التوافق ليحل محلها الحقد والكراهية والتنابز بالألقاب ومنطق الإقصاء على طريقة الذهنية القبلية. ويتقاسم الجميع هذه الذهنية مهما ادعى خلاف ذلك، لأن واقع الحال هو الحَكَم. وواقع الحال هذا ليس وقفا على مصر فقط، بل أنه يتهدد انتكاس حراك الشارع العام مشرقا ومغربا ما دام هنالك إصرار على تأجيل خطاب التوافق بين الفاعلين السياسيين بكل ألوانهم وأطيافهم ومشاربهم إلى أجل غير مسمى. في الختام كنا نتمنى أن تكون مصر في المشرق وتونس في بلاد المغرب نموذجا لتفاعل الأفكار لا لتناحرها، ولتجاوب الآراء لا لتفرقها شذر مذر وتعصب أصحابها لأهوائهم. فلهذين البلدين قصب السبق في الحركة الإحيائية الحديثة والمعاصرة، وفي ثقافة الانفتاح والتسامح والتجديد. وكان بإمكان جيل الشباب الذي أسقط بن علي ومبارك قادرا على أن يكون مرجعا لصياغة عصر الحرية والعدالة والكرامة في كل الشمال الإفريقي وفي المجتمعات المجاورة. لكن يبدو أن المستبدين لا يزالون يلجؤون إلى توظيف وسائل متعددة لإدامة حكمهم وتحكمهم في مصير الشعوب، من بينها شعار الأمن الداخلي، والاستقرار السياسي، والسلم الاجتماعي والإقليمي ...إلخ لتجديد استعبادهم العباد. وعلى الرغم من ذلك فإن حركية الشباب لم ولن تتوقف. وآخر ليل الاستبداد صباح للحرية وللعدالة، ولتلبية نداء المستقبل ف"اشتدي أزمة تنفرجي ،، قد آذن صبحك بالبلج"